08-مايو-2020

الصورة عن الغارديان

 سلبنا فيروس كورونا الإشارات التي تميز أيام حياتنا، وتركنا أقرب إلى سجناء يحصون مرورَ الأيام بعلامات مرسومة على الجدران حتَّى يأتي اليوم الذي نسترد فيها حريتنا مِن جديد.

نُشر جوناثان فريلاند هذا المقال في صحيفة الغارديان بتاريخ 24 نيسان/أبريل 2020، وهنا ترجمة له.


كان شهر آذار/مارس الماضي طويلًا، بل لعلَّه أطول شهر آذار/مارس بحسب ما يتذكر أيٌ منَّا، وبرغم ذلك فها هو نيسان/أبريل يتبعه وما لم يكن الشَهر الأشدّ قسوة، فإنه الأقصر والأسرع بصورة غير متوقعة بالمرة. ولا يمكن العثور على منطق واضح في شيءٍ مِن ذلك على وجه التحديد، فقد كان آذار/مارس واحد وثلاثين يومًا، كما هو الحال على الدوام، وكان نيسان/أبريل ثلاثين يومًا، كما هو الحال على الدوام. وبرغم ذلك، فإنَّ فيروس كورونا كما قلبَ حال الفضاء المكاني، بإعادة صياغته للأماكن العامة من حولنا بحيث جعلَ مراكزَ المدن التي كانت ذات مرَّة شديدة الازدحام تمتد الآنَ خاوية ومهجورة، فقد خرَّب الزمنَ أيضًا. أخبِر الناس أنَّ يوم الاثنين القادم [27 نيسان/أبريل] سيكون بداية الأسبوع السادس على فترة الإغلاق التام والتزام البيوت وسوف تظهر على سيماهم نظرة ذاهلة في غير تصديق. حقًا؟ كيف حدث ذلك؟

في الحجر المنزلي، يبدو كأنَّ الأسابيع تمر بسرعةٍ شديدة لدرجة مدهشة، ومع ذلك فإن الأيام تبدو كأنها تدوم للأبد

في رسالة مِن أحد الأصدقاء كتب: "يبدو كأنَّ الأسابيع تمر بسرعةٍ شديدة لدرجة مدهشة، ومع ذلك فإن الأيام تبدو كأنها تدوم للأبد". إنَّ أمورًا غريبة تحدث بخصوص الوقت، وما زال الأغرب لم يقع بعد.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| المترجم عبد الجليل العربي.. في عشق القطط وساراماغو واللغة والبرتغالية

عندما أعلن [رئيس وزراء بريطانيا] بوريس جونسن الإغلاق العام والتزام المنازل في 23 آذار/مارس، كان الحديث يدور – بافتراضٍ متفائل – عن أنه سوف يستمر لثلاثة أسابيع. وتمَّ تحديد موعد لإعادة النظر في الأمر، لكن ذلك الموعد أتى ومضى وبدأ الناس يتكيفون مع فكرة أنَّ هذا الحال قد يمتد متوغلًا في فصل الصيف. ثم خرجَ كريس ويتي، كبير المستشارين الطبيين في الحكومة، ليحذرنا مِن أنَّه مِن المرجَّح أن تستمر إجراءات تباعد اجتماعي ذات قدرة ممزّقة عالية حتَّى العام 2021.

ذلك منظورٌ مختلف للغاية، ويقتضي منا أن نعيد ضبط عقارب ساعاتنا. من جانبه، فإنَّ دونالد مَاكنيل، مراسل النيويورك تايمز للشؤون الصحية، وصاحب الرؤية الواقعية الرشيدة، يقترح بأن انفراج الأزمة مع نهاية هذا العام رؤية متفائلة، مع الوضع في الاعتبار طول الفترة اللازمة للوصول إمَّا إلى لقاح وإمَّا إلى علاج فعَّال لفيروس كوفيد-19. وتطرق في حديثه إلى أنه ينتظر وصول حفيد له في شَهر حزيران/يونيو – وقد هيَّأ نفسه لاحتمال أنه قد لا يكون قادرًا على مقابلة ذلك الطفل قبل أن يكون قد بلغَ العامين مِن عمره.

أمَّا بالنسبة لجميع الآخَرين، فهذا تحدٍّ مِن طِرازٍ مختلف. فإنَّ مَعنى الإغلاق المتواصِل والتزام المنازل طويل المدى أن نجد أنفسنا أمامَ امتداد زمني هائل لا يميزه شيء، وقد تجرَّد عاريًا مِن التقسيمات والعلامات المعهودة. إننا نواجِه شَكلًا مِن الاحتجاز بين أربعة جدران لن يكون لفترة وجيزة.

في تردد وعلى استحياء، تواصلت مع إِروين جيمس، الذي قضى عشرين عامًا حكمًا بالسجن لجريمة قتل وقد ظلَّ لسنوات عديدة يكتب عمودًا منتظمًا للجارديان تحت عنوان حياةٌ بالداخل. أقول إنني كنتُ مُترددًا لأنني لم أكن واثقًا إذا كان مسجون سابق سوف يكون مِن الحِلم والتسامح ليعقد مقارنات بين الشكل الخاص بنا مِن العزلة والاحتجاز – في منازلنا، وأحيانًا مع حديقة، وغالبًا مع أسرتنا، مع السَماح لنا بالذهاب للمتاجر والمنتزهات العامة – وبين السجن الفِعلي الذي اختبره هو. ومع ذلك، فإن كان لأي شخص أن يعرف أي ألعاب يمكن للحبس أن يمارسها مع الزَمن، فسيكون سجينًا سابقًا بلا شك.

الطقس الجماعي الجديد في التصفيق والتهليل للعاملين في القطاع الطبي، لم يكن مِن أجلهم بقدر ما كان من أجل أنفسنا

وَكَما تبيَّن لي، ما كان عليَّ أن أتردد. قالَ لي جيمس: "أشياء كثيرة للغاية تُذكّر مِن بعيد بأيام السجن. كثيرة إلى درجة أنَّ باب خطابات للمحرر الذي كان يعده متلقيًا فيه رسائل السجناء والمحتجزين – وكان بعنوان مناسب للغاية هو وقت بالداخل – لم يكن يختلف كثيرًا عمَّا يدور اليوم. ويقول جيمس إنَّ أي سجين سوف يتعرَّف على المفارقة المُنهكة للأعصاب التي تحدث عنها صديقي في رسالته. "الأيام تمضي بخطى ثقيلة لكنك تستيقظ ذات يوم وقد مرَّ شهر وتقول لنفسك: "أي لعنة خطفت ذلك الشَهر؟"

اقرأ/ي أيضًا: الكورونا والترجمة.. 3 مترجمين يتحدثون

يتطابق جوهرُ هذا الوَضع مع أحداث فيلم يوم فأر الأرض (1993 Groundhog Day)، فَعندما لا يختلف أي يوم عن اليوم الذي يليه بالمرَّة، يصير الوقت مُتخثرًا بلا شكلٍ أو قوام، ويصعب القبض عليه. يقول جيمس: "كأنَّ الواحد يسير خائضًا في الدِبس، بالحركة البطيئة". أو بتعبير فيكتور سيرج، وهو الثوري الروسي الذي قضى فترات سجن متتالية: "هناك ساعاتٌ تمر في لمح البصر، وثوانٍ تدوم كأنها الأبد".

وَمِن أجل كسر هذا الإيقاع الرتيب وتشابه الأيام، يتوق السجناء لمَعالم زمنية مميزة، لا سيما المعالِم الموسمية. فقد كانوا يتوقون، بحسب ما يتذكّره جيمس، إلى رؤية طائر الذعرة (أبي فصادة) المرقَّط لدى نافذة الزنزانة، وأوَّل الأوراق الخضراء على فروع الشجر، دلائل حلول الربيع. كما كانوا يتطلَّعون إلى السِباق السنوي بين الجامعات لقوارب التجديف، أو إلى موسم سباق الخيول الوطني الكبير أو إلى إجازة البنوك الطويلة في شهر أيار/مايو أو بطولة ويمبلدون للتِنس، أي شيء قد يفصل مدة مِن الزمن عن مدة أخرى. يتذكَّر جيمس كيف كان زملاؤه السجناء يهيجون ويفقدون عقولهم في ليلة رأس السنة – ويقرعون الأبواب بعلب الفاصوليا ومعلبات الصفيح والقبضات وحتَّى برؤوسهم على سبيل الاحتفال – فقط لكي يستولي عليهم الخمود بعد نصف ساعةٍ فقط، إذ أدرك هؤلاء الذين في الداخل أنه برغم أنَّ عامًا قد مضى، فإنَّ عامًا آخَر يمتد أمامهم، أي أنَّ هناك "جبل آخَر يجب تسلقه".

فلنؤكّد مرةً أخرى أنَّ الإغلاق العام والتزام الناس بيوتها ليس مساويًا للسجون أو حتَّى لمقرات الاحتجاز، غير أنَّ جيمس يصر على أنَّ ما يحدث "قد أعطى الناس لمحةً سريعة عمَّا يكون عليه الحال إذ تصبح خيارات المرء محدودة للغاية". على سبيل المثال، تلك الحاجة إلى معالِم زمنية بارزة، فأولئك الذين يفتقدون مبارايات كرة القدم في الوقت الراهن لا يتلهفون فقط على متعة مشاهدة اثنين وعشرين رجلًا يركلون الكرة هنا وهناك، بل أيضًا تعيين وتمييز أيام الأسبوع المختلفة وهو ما يقدمه جدول مواعيد المبارايات المختلفة. أمَّا في الوقت الراهن فإنَّ حياتنا تشبه جملةً خالية من علامات الترقيم، جملة مُربكة ومترهلة بلا قوام. وكما كتب سايمون كوبر الصحفي الرياضي في الفايننشال تايمز: "لا عَجب أن الناس في جميع أنحاء العالَم قد تبنوا على الفور طقسًا جماعيًا جديدًا، ألا وهو التصفيق والتهليل احتفاءً بالعاملين في القطاع الطبي، والأرجح أننا لا نفعل ذلك مِن أجلهم بقدر ما نفعله من أجل أنفسنا".

لا نريد أن نقتل الوقت، لا نريد أن نكون بالداخل. بل نريد أن نعيش

يمكن للمناسبات الدينية في التقويم أن تقدم العون، بالنسبة لأولئك الذين يجدونها ذات مغزى وأهمية. سيجد المسلمون هذا العزاء في شهر رمضان، كما أن عيد الفصح جعلَ بعض أيام نيسان/أبريل مختلفة عند بقية الشهر بالنسبة لليهود. وآخرون يجدون أنفسهم يراقبون مظاهر الطبيعة كما لم يفعلوا مِن قبل. بعد التحذير السابق مِن ويتي وجدتُ نفسي أتساءل إن كان العزل في الشتاء – وما إذا كان سيكون أشد صعوبة من أيام أخرى يمكن قضاء ساعاتٍ منها في الخارج. لكن هذا بحسب رأي جيمس غير صحيح بالمرة: "الوقت يمر أسهل في الشتاء، لأن النهارات تكون أقصر. عمومًا فصل الشتاء أسرع كثيرًا مِن الصيف".

اقرأ/ي أيضًا: فيروس كورونا و"وهم حل الدولتين"

نستطيع أن نفهم طبيعة ما يشعر به أولئك الذين في السجون، وكيف يتمنون أن تتبدد الأيام، متلهفين على رسم علامات مرور أسابيع أخرى من تقويمهم، حتَّى اللحظة التي يكونون فيها أحرارًا مِن جديد ويعود الوقت ملكًا لهم مرة أخرى. ربما أصبح بعضنا يشعر بمثل هذا منذ الآن حيال العزل في المنازل، لكن هذا يرافقه إحساس عظيم بالخسارة. نود أن نشعر بأن الوقت ثمين القيمة؛ لا نريد أن نشطبَ الأيام بعلامات على الحائط. لا نريد أن نخسر صيفًا لن يكون بوسعنا استعادته بعد ذلك أبدًا. لا نريد أن نقتل الوقت؛ لا نريد أن نكون بالداخل. بل نريد أن نعيش.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ما بعد كورونا في لبنان.. عودة إلى "القطاع العام"

عبد الباسط الساروت وأغانيه.. بين الحجر والحصار