استهداف مجمع ناصر الطبي.. شهادة على جريمة مستمرة
27 أغسطس 2025
في لحظة تعكس عمق المأساة الإنسانية التي يعيشها قطاع غزة منذ اندلاع الحرب، تحوّل مجمّع ناصر الطبي في خانيونس، وهو أكبر المستشفيات العاملة في جنوب القطاع، إلى مسرح جديد لانتهاكات متكررة استهدفت الصحفيين والطواقم الطبية والمرضى والنازحين الذين لجأوا إليه بحثًا عن ملاذ آمن. ومع استمرار القصف الإسرائيلي للمستشفى ومحيطه، تتكشف فصول إضافية من معاناة المدنيين العالقين بين الموت داخل جدرانه وخارجه.
نمط متكرر من الجرائم
تحت عنوان صارخ يفضح المأساة المستمرة، نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية في افتتاحيتها بتاريخ 26 آب/أغسطس 2025 موقفًا شديد اللهجة حول الحرب على غزة، معتبرة أن الهجوم الإسرائيلي المزدوج على مستشفى ناصر– آخر مستشفى حكومي عامل في جنوب القطاع – شكّل علامة فارقة في مسار حرب الإبادةالمستمرة.
ورأت الصحيفة أن ما يجري في غزة هو "مأساة فوق مأساة"، فيما برز قصف مستشفى ناصر كجريمة مركّبة: إصابة جرحى، ومسعفين، وصحفيين، ومرضى في لحظة واحدة. وأشارت إلى أن الفيديوهات التي وثقت القصف المزدوج (double tap) تُضعف أي رواية إسرائيلية عن "خطأ مأساوي"، خاصة أن هذه الضربات باتت نمطًا متكررًا.
صحيفة" الغارديان" البريطانية اعتبرت في افتتاحيتها أن الهجوم الإسرائيلي على مستشفى ناصر، آخر مستشفى حكومي عامل في جنوب غزة، شكّل علامة فارقة في مسار حرب الإبادة المستمرة
إقرار إسرائيلي بالمسؤولية
في تطور يبرز الاستهداف المقصود، كشفت القناة 14 الإسرائيلية أن الجيش الإسرائيلي أقرّ بأن جنوده تلقوا أوامر مباشرة من قيادتهم العليا لقصف مجمع ناصر الطبي. ووفق القناة، جاء الهجوم بعد "محاولات فاشلة" لاستهداف المكان، ليُتخذ القرار بإطلاق قذيفة دبابة نحو المستشفى.
ويأتي هذا بعد يوم واحد فقط من تبرير الجيش الأولي بأن العملية استهدفت "كاميرا مراقبة زرعتها حماس"، وهي الرواية التي وصفتها "الغارديان" بأنها امتداد لسجل طويل من الادعاءات المضللة، ما يعزز الشبهات بأن استهداف الطواقم الطبية والصحفية في غزة كان سياسة ممنهجة وليست حادثًا عرضيًا.
انتهاك مركّب وصمت مريب
ذكّرت "الغارديان" بتصريح بنيامين نتنياهو الذي وصف القصف بأنه "خطأ مأساوي". الصحيفة تساءلت: "هل يمكن أن يصدّق أحد أن مثل هذه الجريمة مجرد خطأ، بينما أرقام الجيش نفسه تكشف أن 83% من الضحايا مدنيون؟"
وأضافت أن هذه الحرب باتت ساحة لإبادة مزدوجة: جسدية من خلال القصف والحصار، ومعنوية عبر استهداف الأطباء والصحفيين. وأشارت إلى دعوات دولية لتجريم ما سُمّي بـ"الإبادة الصحية" (healthocide) بعد قتل مئات من العاملين الصحيين واعتقال العشرات منهم.
"الضربة المزدوجة"
من جهتها، وصفت صحيفة "The Canary" البريطانية المستقلة الهجوم على مجمع ناصر الطبي، بأنه نمط متكرر في السلوك العسكري الإسرائيلي، يقوم على اعتماد ما يُعرف بـ"الضربة المزدوجة" (double-tap strikes)، حيث يُنفّذ القصف الأول، ثم يتبعه قصف ثانٍ يستهدف كل من يهرع لإنقاذ الضحايا: الأطباء، المسعفين، الصحفيين، والمدنيين.
وقالت "The Canary" إن استهداف مستشفى ناصر لا يمكن اعتباره حادثًا عرضيًا أو "خطأ مأساويًا"، كما حاول نتنياهو تصويره، بل هو جزء من سياسة منهجية تسعى إلى إسكات صوت الحقيقة ومنع توثيق الجرائم.
واعتبرت الصحيفة أن قتل خمسة صحفيين فلسطينيين في ضربة واحدة ينسجم مع حملة أوسع استهدفت منذ بداية الحرب أكثر من 240 صحفيًا، ما يجعلها الحرب الأكثر دموية على الإعلاميين في التاريخ الحديث.
كما أشارت الصحيفة إلى أنّ استخدام الضربات المزدوجة ضد العاملين في الإعلام والإغاثة يرقى إلى جريمة حرب ممنهجة بموجب القانون الدولي الإنساني، مؤكدة أن غياب أي مساءلة أو تحقيقات جادة من قبل إسرائيل أو حلفائها، خصوصًا الولايات المتحدة، يمنح الضوء الأخضر لمواصلة هذه الاستراتيجية.
وخلصت "The Canary" إلى أن الصمت الدولي، وتحديدًا الغربي، يجعل من هذه الانتهاكات سياسة ممنهجة ومحمية، وليست مجرد تجاوزات فردية، وهو ما يزيد من خطورة الحرب على غزة ويؤكد أنها حرب على المجتمع بأسره: صحافة، صحة، ومعرفة.
المجاعة: جريمة أخرى من صنع الإنسان
لفتت "الغارديان" إلى أن الفلسطينيين يموتون أيضًا في مجاعة مفتعلة بفعل الحصار الإسرائيلي. وبحسب لجنة أممية، يواجه نحو ربع مليون إنسان المجاعة فعلًا، وهو ما وصفته الافتتاحية بـ"الموت جوعًا في وضح النهار".
وتساءلت: "كيف يمكن لمجتمع أن يصمد إذا قُتل قلبه – أطباؤه وصحفيّوه – وسُلبت أرضه، وحُرم أطفاله من التعليم بعد تدمير الجامعات والمدارس؟"
قالت "The Canary" إن استهداف مستشفى ناصر ليس حادثًا عرضيًا أو "خطأ مأساويًا"، بل جزء من سياسة منهجية لإسكات صوت الحقيقة ومنع توثيق الجرائم
أسئلة محرجة لحلفاء إسرائيل
لم تتوقف الافتتاحية عند تل أبيب وحدها، بل حمّلت حلفاءها – وخاصة الولايات المتحدة – مسؤولية مباشرة. وسألت: "هل يدرك دونالد ترامب، الذي يملك سلطة فريدة لوقف الحرب، أنه يشارك في المجزرة حين يمتدح رجلًا مطلوبًا من المحكمة الجنائية الدولية كبطل حرب؟ وهل يمكن بناء سلام على عظام أكثر من 62 ألف شهيد فلسطيني؟"
كما خاطبت "الغارديان" الحكومات الأوروبية، قائلةً: "ما هي الأعذار المتبقية؟ هل ستدافعون عن القانون الدولي الذي حمى بلدانكم عقودًا، أم تتركونه ينهار أمام أنظاركم؟"
إلى متى تستمر هذه الجرائم؟
إن استهداف المرافق الطبية، وعلى رأسها مجمّع ناصر، لا يهدد حياة آلاف الجرحى والمرضى فحسب، بل يقوّض أيضًا ما تبقّى من مقومات النظام الصحي في غزة. وبينما تواصل المؤسسات الحقوقية الدولية التحذير من أن هذه الاعتداءات قد ترقى إلى جرائم حرب، يبقى السؤال الأكبر مطروحًا: إلى متى سيستمر استهداف المستشفيات والمراكز الصحية دون محاسبة أو رادع دولي؟