قد يظهر أننا نتحكم في أفكارنا وسلوكنا، وقد نكون أحيانًا واثقين من ذلك تمام الثقة، لكن علم النفس الاجتماعي يروي لنا قصة أخرى مختلفة، حيث تظهر الأبحاث أننا لا نملك الكثير من السيطرة على أفكارنا وسلوكنا كما نعتقد. بل كثيرًا ما نأخذ تلميحات من بيئتنا الاجتماعية، خاصة من المقربين والناس من حولنا، تخبرنا عن كيفية التصرف، وما يجب فعله أو عدم فعله.
"استقطاب المجموعة" يعني أنه عندما يكون هناك مجموعة لديهم نفس الأفكار، فإنهم يعززون وجهات نظر بعضهم البعض
في دراسة قام بها عالما النفس الفرنسيان، سيرج موسكوفيتشي وماريسا زافالوني، طلبا فيها من المشاركين الإجابة عن بعض الأسئلة. أولًا، سُئل المشاركون عن رأيهم في الرئيس الفرنسي، ثم سئلوا عن موقفهم تجاه الأمريكيين. كانت مواقفهم، في البداية، إيجابية قليلًا تجاه الرئيس الفرنسي، ويحملون مواقف سلبية قليلًا تجاه الأمريكيين.
اقرأ/ي أيضًا: مسألة الانتماء
لكن، بعد أن طلب الباحثان من قسم من المشاركين مناقشة الموضوعين بشكل جماعي، أصبحت آراء أعضاء المجموعات التي عقدت اجتماعًا، أكثر تطرفًا في آرائها حول الرئيس الفرنسي ومواقفهم من الأمريكيين. ومن ذلك، خَلُص الباحثون إلى أن "إجماع المجموعة يبدو أنه يحث على تغيير المواقف، حيث من المرجح أن يتبنى الأشخاص مواقف أكثر تطرفًا عندما يكون وسط الجماعة، كما أنه عندما نصادف آراء الآخرين قريبة لآرائنا، تتعزز معتقداتنا أكثر فأكثر".
هذا ما يُطلق عليهم مفهوم "استقطاب المجموعة"، وهذا يعني أنه عندما تكون هناك مجموعة من الأشخاص الذين لديهم نفس الأفكار، فإنهم يعزّزون وجهات نظر بعضهم البعض، وبالتالي تتقوى آراء كل شخص في المجموعة.
في دراسة أخرى، عمل ألبرت باندورا وزملاؤه مع مجموعة من الأطفال الصغار، الذين كانوا يخافون الكلاب، حيث جعلوا الأطفال يشاهدون، في كل يوم فتى في الرابعة من عمره وهو يستمتع باللعب مع كلب لمدة عشرين دقيقة. بعد مرور أربعة أيام، كان 67% من الأطفال الذين شاهدوا الولد يلعب مع الكلب، مستعدين للدخول إلى غرفة للعب مع كلب. وبحلول شهر، أصبحوا بالفعل يلعبون مع الكلاب.
استنتج الباحثون أن مشاهدة صبي يمضي وقتًا ممتعًا مع كلب، يمكن أن يقلل من خوف بعض الأطفال من الكلاب، ويغير سلوكهم. لقد استخدم القائمون على التجربة تقنية فعّالة، تدعى "الدليل الاجتماعي"، وهو مفهوم يحيل إلى ما يتوقعه الآخرين حيال تصرفنا، فمثلًا، هل ينبغي تقديم الحلوى قبل الغذاء أو بعده، وما الموضوع المناسب للحديث عنه أمام الضيوف، وماذا ينبغي أن أرتدي في الزفاف.
ومن ثمّة يصبح الآخرون خريطة طريقنا في ما يجب القيام به أو التفكير به وما لا ينبغي، وهذا لأن الناس يعتقدون حدسيًا أنه إذا قام أشخاص آخرون بأمر ما، فهذا يعني أنه صحيح ولا بأس في أن يقوموا به أيضًا. وبالتالي فمن الواضح أن الآخرين يؤثرون على سلوكنا في الحياة. لكن ما السبب الذي يمنح لصوت الحشود هذه القوة في التأثير على آرائنا وأفعالنا؟
الجواب يكمن في فكرة للفيلسوف والرياضي الإنجليزي، ألفريد نورث، الذي قال ذات مرة: "تتقدم الحضارة من خلال توسيع عدد العمليات التي يمكننا القيام بها دون التفكير فيها". فنحن اليوم، نعيش في عالم معقد، ولا يملك معظمنا الوقت الكافي للبحث في جميع الأشياء والموضوعات لنعرف مدى فائدتها. وبدلًا من ذلك، نستخدم قرارات الآخرين كاختصار للتنقل في حياتنا، فنعتمد على العادات والمسائل الشعبية.
ويعي صانعو الإعلانات والعلامات التجارية هذه الثغرة في السلوك الناس ويستخدمونها لإغواء المستهلكين، ولذا، لا يحتاج المعلنون التجاريون إلى إقناع الزبون من خلال الأدلة المجربة بأن المنتج "مفيد وجيد" فعلًا، بل يحتاجون فقط إلى إظهار أن الآخرين يشترونه، وأنه "الأكثر مبيعًا" و"الأكثر نموًا"، حتى لو لم يكن كذلك، لدفع الزبون إلى الاقتداء بسلوك الآخرين.
وهناك أيضًا سبب آخر يجعلنا نتأثر بمواقف الآخرين، وهو أننا نحن البشر كائنات اجتماعية، فلقد نجونا بسبب قدرتنا على الاتحاد والتعاون، إذ عندما كان يعيش أسلافنا في عالم مهول من الأخطار المحدقة من كل جانب، حيث الحيوانات المفترسة والبرد والجوع والمرض والكوارث الطبيعية، تلَزّم علينا البقاء في مجموعات متماسكة، أو الموت.
ولهذا، "كان اقتداء الفرد الذي ينضم إلى مجموعة بشرية بسلوك الأغلبية، سلوكًا معقولًا وتكيفيًا. ومن شأن النزعة المطابقة أن تسهل قبوله في المجموعة، وربما تؤدي إلى بقائه على قيد الحياة إذا كان الأمر يتعلق بالقرار، على سبيل المثال، في حالة الاختيار بين طعام لا يعلم إن كان مغذي أو سام، سيستند إلى نسخ سلوك الأغلبية" تقول جوليا كولتاس، الباحثة في جامعة إسيكس البريطانية.
كان اقتداء الفرد المنضم لمجموعة، بسلوك الأغلبية، أمرًا معقولًا وتكيفيًا، لذا فإن الميل إلى المجموعة هو إرث الإنسان من ماضيه التطورية
وهكذا ورث الإنسان الحديث هذا الطبع، أي الميل إلى المجموعة، من ماضينا التطوري. إلا أن الوعي بالتأثير الاجتماعي يمكن أن يساعدنا أكثر في تفحص القرارات المهمة التي قد نتخذها، بعيدًا عن التأثير الخارجي الذي قد لا يصب دائمًا في مصلحتنا.
وعن طريق فهم تأثير الحشود والجماهير على الأفكار والسلوك الفردي، يُمكن نوعًا ما فهم تأثيرات مواقع التواصل الاجتماعي على الأفراد، وكيفية صناعة الرأي العام. ولذلك استخدامات أيضًا في فهم المجموعات المتطرفة، وصعود اليمين حول العالم.
اقرأ/ي أيضًا: