10-أغسطس-2019

يعاني النظام الديمقراطي المعاصر من أزمة إهمال المدى البعيد (Getty)

في المقال التالي المترجم عن شبكة "بي بي سي" يناقش رومان كرزناريك واحدة من أزمات الديمقراطية التمثيلية، فيما يتعلق بمصالح الأجيال القادمة والتخطيط بعيد المدى، بالمقارنة مع أنظمة شمولية مركزية.


كتب ديفيد هيوم عام 1739 في مؤلّفه "أصل الحكومة المدنية": "لا يستطيع الرجال اقتلاع أنفسهم أو الآخرين، من ضيق الروح، الذي يقودهم إلى تفضيل الحاضر على المستقبل البعيد". اقتنع الفيلسوف الاسكتلندي أن مؤسّسات الحكومة مثل الممثّلين السياسيين والمناقشات البرلمانية، من شأنها العمل على تهدئة رغباتنا الأنانية والمتهوّرة، وتعزيز مصالح المجتمع ورفاهيته على المدى البعيد. تبدو وجهة نظر هيوم اليوم، أكثر من مجرّد تمنّيات، منذ أصبحت أنظمتنا السياسية، على نحو واضح ومدهش، سببًا في استفحال قصر النظر بدل أن تكون علاجًا له. إذ بالكاد يستطيع كثير من السياسيين رؤية ما هناك بعد الانتخابات المقبلة، بل يبدؤون الرقص على وقع أحدث استطلاعات الرأي وتغريدات تويتر بدلًا من ذلك. كما تُفضّل الحكومات الحلول السريعة عادةً، كوضع المزيد من المجرمين خلف القضبان، بدلًا من التعامل مع الأسباب الاجتماعية والاقتصادية الأعمق للجريمة. كما تتشاحن الدول وتتجاذب حول طاولات المؤتمرات الدولية، مركّزةً على مصالحها قصيرة الأجل، بينما الكوكب يحترق والكائنات الحيّة تنقرض.

تتمثّل إحدى المشكلات في الدورة الانتخابية أنها تنتج آفاق سياسية قصيرة الأجل. إذ قد يقدّم السياسيون إعفاءات وتخفيضات ضريبية مغرية من أجل جذب الناخبين في السباق الانتخابي المقبل، مع تجاهل القضايا طويلة الأجل

يبدو قصر نظر السياسات الديمقراطية الحديثة شديد الوضوح، مع ضخّ وسائل الإعلام، طوال الأسبوع على مدار 24 ساعة، الأخبار حول أحدث تطوّرات مفاوضات خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي، والتعامل المهووس مع كل ما يتلفّظ به الرئيس الأمريكي. فهل من ترياق لهذه الطبيعة الحاضرية السياسية التي تُهمل وتؤجّل مصالح الأجيال المقبلة على نحو دائم؟ لنبدأ من طبيعة المشكلة. يشيع اليوم ادّعاء متساهل مفاده أن قصر النظر هو نتاج وسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها من التقنيات الرقمية التي زادت من وتيرة الحياة السياسية. إلّا أن للتعلّق بالحاضر جذورًا أعمق من ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: نتائج ودلالات انتخابات البرلمان الأوروبي

تتمثّل إحدى المشكلات في الدورة الانتخابية (العيب التصميمي الكامن في الأنظمة الديمقراطية) التي ينتج عنها آفاق سياسية قصيرة الأجل. إذ قد يقدّم السياسيون إعفاءات وتخفيضات ضريبية مغرية من أجل جذب الناخبين في السباق الانتخابي المقبل، مع تجاهل القضايا طويلة الأجل، التي لا يستطيعون الحصول على رأس مال سياسي فوري مباشر منها، كالتعامل مع الانهيار البيئي أو إصلاح نظام التقاعد أو الاستثمار في نظم التعليم للمراحل الابتدائية. أُطلق على عملية إنتاج هذا النوع من السياسات قصيرة الأجل اسم "دورة الأعمال السياسية" في سبعينات القرن الماضي.

ضِف إلى ذلك قدرة مجموعات المصالح الخاصّة، كالشركات تحديدًا،على استخدام النظام السياسي من أجل أن يؤمّن لها الفوائد على المدى القريب، مع تحويل التكاليف والأعباء طويلة الأجل إلى بقيّة المجتمع! إن اختراق الشركات للسياسة ظاهرة عالمية تمارس ضغطها على جداول أعمال السياسات طويلة الأجل، سواء كان ذلك من خلال تمويل الحملات الانتخابية أو الضغوطات ذات الميزانية الضخمة.

يتمثّل السبب الثالث والأعمق للحاضرية السياسية، في تجاهل الديمقراطية التمثيلية المنهجي لمصالح الناس المستقبلية. إذ لا يُمنح مواطنو الغد أي حقوق، ولا توجد، في الغالبية العظمى من البلدان، أي هيئات لتمثيل مخاوفهم أو وجهات نظرهم المحتملة تجاه قرارات اليوم المؤثّرة حتمًا على حياتهم. تلك بقعة شديدة العماء لدرجة أننا بالكاد نلاحظها، إذ لم يخطر ببالي أبدًا، أن أجيال المستقبل محرومة من حقوقها بالطريقة ذاتها التي حُرم بها العبيد أو النساء في الماضي، لكن ذاك هو الواقع، والسبب في أن مئات الآلاف من تلاميذ المدارس حول العالم، تلهمهم المراهقة السويدية غريتا تونبرج، ما فتئوا يخرجون في مسيرات من أجل دعوة الدول الغنية إلى تقليل انبعاثات الكربون، لقد ضاقوا ذرعًا بالأنظمة الديمقراطية التي همّشت وأخرست أصواتهم وأزالت مستقبلهم من الصورة السياسية.

حان الوقت لمواجهة الحقيقة المزعجة، ذلك أن الديمقراطية الحديثة، خاصّة في البلدان الغنية، مكّنتنا من استعمار المستقبل! نتعامل مع المستقبل كمستعمرة بعيدة خالية من الناس، حيث بإمكاننا التخلّص من مشاكل التدهور البيئي والمخاطر التكنولوجية والنفايات النووية والدَين العام بكلّ حرّية، والشعور بالحرية في النهب كما يحلو لنا. اعتمدت بريطانيا، عندما استعمرت أستراليا في القرن الثامن والتاسع عشر، على المصطلح القانوني المعروف الآن باسم "تيرا نوليوس"، أي أرض مباحة ليست لأحد، لتبرير غزوها ومعاملة السكّان الأصليين كما لو كانوا غير موجودين أو لهم أي مطالبات على أرض الواقع. موقفنا اليوم موحّد من "تيرا نوليوس"؛ المستقبل "زمن فارغ"، ومنطقة لم يطالب بها أحد، خالية بالمثل من السكّان. مثل عوالم الإمبراطورية البعيدة، إنها من نصيبنا. يتمثّل التحدّي الشاق الذي نواجهه اليوم في إعادة ابتكار الديمقراطية ذاتها، للتغلّب على قصر الأجل المتأصّل فيها، والتصدّي للسرقات فيما بين الأجيال التي تكمن وراء هيمنتنا الاستعمارية على المستقبل. وأعتقد أن كيفية فعل ذلك، تمثّل التحدّي السياسي الأكثر إلحاحًا في عصرنا.

يقترح البعض أن قصر نظر الديمقراطية متأصّل فيها، لدرجة أن حالنا قد يكون أفضل مع "ديكتاتوريين خيِّرين"، بإمكانهم أخذ نظرة طويلة الأجل على الأزمات المتعدّدة التي تواجه البشرية، نيابة عنا جميعًا. عالم الفلك البريطاني البارز مارتن ريس، من أولئك الأشخاص، حيث كتب في محاولة لمواجهة التحدّيات الهامّة طويلة الأجل كالتغيّر المناخي وانتشار الأسلحة البيولوجية: "المستبد المستنير وحده القادر على فرض التدابير اللازمة للانتقال بالقرن الحادي والعشرين إلى برّ الأمان". وعندما سُئل مؤخّرًا في أحد المنتديات العامّة عما إذا كان يقدّم الديكتاتورية كوصفة سياسية جادة من أجل التعامل مع مسألة قصر النظر، إذ ربّما كان كلامه السابق مجرّد مزاح، أجاب: "كُنت شبه جاد في الواقع". ثم ضرب على ذلك مثال الصين كنظام استبدادي كان شديد النجاح حدّ الإذهال في التخطيط طويل الأجل، وذلك ما كان واضحًا في استثماره الضخم المتواصل في الطاقة الشمسية. والعجيب أن العديد من الحضور كانوا يومؤون برؤوسهم، لكني لم أكن متّفقًا معهم. هناك على مرّ التاريخ أمثلة قليلة، إن وجدت، على دكتاتوريين ظلّوا خيّرين ومتنوّرين لفترة طويلة جدًّا (خذ مثلا سجل الصين في مجال حقوق الإنسان). علاوة على ذلك، هناك القليل من الأدلّة على أن لدى الأنظمة الاستبدادية سجل أفضل في التفكير والتخطيط طويل الأجل مقارنة بالأنظمة الديمقراطية. فالسويد، مثلا، تمكّنت من توليد ما يقرب من 60% من الكهرباء عن طريق مصادر الطاقة المتجدّدة دون وجود مستبدّ على سدّة الحكم، أمّا الصين فلم تولّد إلّا 26%.

تكمن النقطة الأكثر جوهرية في إمكانية وجود طرق لإعادة انتاج الديمقراطية التمثيلية من أجل التغلّب على تحيّزها الحالي تجاه الحاضر والآن. بل إن العديد من البلدان، في الواقع، شرعت بالفعل في تجارب رائدة من أجل تمكين مواطني المستقبل. فلدى فنلندا، مثلًا، لجنة برلمانية للمستقبل تقوم بتمحيص التشريعات من ناحية تأثيرها على الأجيال المقبلة. ولعلّ ويلز المثال المعاصر الأشهر على ذلك، إذ أنشأت مفوّضة أجيال المستقبل، تترأسها صوفي هاو، كجزء من إجراء يضمن رفاهية أجيال المستقبل. يتمثّل دور المفوّضة في ضمان قيام الهيئات العامة في ويلز، العاملة في مجالات تتراوح بين حماية البيئة وأنظمة التوظيف، باتّخاذ القرارات السياسية بعد النظر 30 عامًا على الأقلّ في المستقبل.  كما هناك الآن دعوات متزايدة إلى قانون لأجيال المستقبل مماثل، من أجل تغطية المملكة المتحدة بكاملها. 

تعرّضت مثل تلك المبادرات، رغم كل ما قلناه، إلى عدّة انتقادات، لكونها إصلاحية للغاية من جهة، كم لا تفعل الكثير من أجل تغيير جوهر نظام الحكومة الديمقراطية. اقترح ديفيد سوزوكي، الناشط الإيكولوجي الكندي المخضرم، بديلًا أكثر راديكالية، إذ يريد استبدال السياسيين المنتخبين في البلاد بمجلس للمواطنين يُختارون عشوائيًا، يضمّ كنديين عاديين بلا أي انتماء حزبي، يقضي كل واحد منهم ستّ سنوات في الحكم. في رأيه أن مثل ذلك التجمّع، المشابه لشكل من أشكال هيئة المحلّفين السياسية، سيتعامل بصورة أكثر فعالية مع القضايا طويلة الأجل كتغيّر المناخ وفقدان التنوع البيولوجي، كما سيحلّ مشكلة هوس السياسيين بالانتخابات المقبلة. لكن هل تقدر حقًا جماعة من مواطني اليوم على الحلول محلِّ أجيال المستقبل وتمثيل مصالحهم على النحو الصحيح؟ تحاول حركة جديدة في اليابان تدعى Future Design الإجابة على هذا السؤال تحديدًا، تحت قيادة الخبير الاقتصادي تاتسووشي سايجو من معهد كيوتو للأبحاث الإنسانية والطبيعة.

تقوم الحركة بتنظيم جمعيات من المواطنين ضمن البلديات في جميع أنحاء البلاد. كما تأخذ مجموعة من المشاركين موقّف السكّان الحاليين، وتتخيّل المجموعة الأخرى نفسها "مقيمة في المستقبل" من عام 2060، حتى أنهم يرتدون ملابس احتفالية خاصة، لمساعدتهم في قفزتهم الخيالية إلى المستقبل المناسب. وأظهرت دراسات عديدة أن سكان المستقبل يضعون خططًا أكثر تطرّفًا وتقدّمًا من أجل المدن مقارنة بالخطط الحالية. كما تهدف الحركة، في نهاية المطاف، إلى إنشاء وزارة للمستقبل كجزء من الحكومة المركزية، وإدارة للمستقبل في جميع السلطات الحكومية المحلية، التي ستستخدم نموذج جماعة المواطنين لمستقبليين من أجل وضع السياسات.

اقرأ/ي أيضًا: مجتمع جورج سوروس المفتوح.. أوتوبيا رأس المال المعاقة

حرّكت تلك الفكرة دعوى قضائية كبرى في الولايات المتحدة أيضًا، إذ تحاول منظّمة "ثقة أطفالنا" تحت إدراة الشباب، ضمان الحق القانوني في مناخ مستقرّ وجوٍّ صحّي لصالح جميع الأجيال الحالية والمقبلة. وما يجعل تلك القضية جديرة بالملاحظة هو أن المدّعين في سن المراهقة أو أوائل العشرينات، يجادلون أن حكومة الولايات المتحدة اتبعت عن قصد سياسات ساهمت في خلق مناخ غير مستقر، ونضوب الموارد العامة، وبالتالي حرمانهم من حقوقهم الدستورية المستقبلية.

حان الوقت لمواجهة الحقيقة المزعجة، ذلك أن الديمقراطية الحديثة، خاصّة في البلدان الغنية، مكّنتنا من استعمار المستقبل! نتعامل مع المستقبل كمستعمرة بعيدة خالية من الناس

ما الذي تضيفه كل تلك المبادرات؟ نحن في خضم تحول سياسي تاريخي. من الواضح أن الحركات من أجل حقوق ومصالح الأجيال المقبلة بدأت تظهر على نطاق عالمي، ومن المقرّر أن تكتسب زخمًا على مدى العقود المقبلة حيث إن تهديدَيْ الانهيار البيئي والمخاطر التكنولوجية يزدادان انتشارًا.  حلم الديكتاتور الخيّر ليس الخيار الوحيد للتعامل مع أزماتنا طويلة الأجل. اتّخذت الديمقراطية هيئات عديدة وأُعيد إنتاجها مرّات عدّة، من الديمقراطية المباشرة لليونانيين القدماء إلى صعود الديمقراطية التمثيلية في القرن الثامن عشر.  قد تكون الثورة الديمقراطية القادمة، تلك التي تمكّن الأجيال المقبلة وتنهي استعمار المستقبل.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مستقبل الديمقراطية والرأسمالية.. بربرية التضليل