05-فبراير-2019

هاينريش كامبيندونك/ ألمانيا

الثالثة والنصف زوالًا، الظهيرة صيفية، يجرح نسيم بارد أنفة القيض السادي، والشمس معلقة فوق الرؤوس، تنثر ضياءها بسخاء في الهواء.

مواجها السور الأثري الكبير بأبوابه الثلاثة، يتوقف شخص ما، وسط زخم النايات البدوية والدفوف الجلدية، يبتاع سيجارة ويشعلها، ثم يهم عابرًا أصغر فتحة في الجدار. غارقًا في ظلال السوق القديم، يحث الخطى بنعلين متثاقلين على الأرض اللزجة، تحيطه هالة من النتن والعفونة، والمشهد العتيق راسخ في الزمن، منذ أيام العابرين القدامى، على خطاهم يسير غير آبه بتقادم الحقب.

دروب كخلايا نحل تعج بالعابرين، ومثله، يحملون التاريخ في حقائب ظهورهم، على جلودهم، على حدقات أعينهم. يحملونه ويعبرون في الزمن، المتغير والمطلق (على حد التعاريف الهيغلية) يلتقيان هاهنا في معزل عن الذات المفكرة، جدليًا، يمارسان غرامياتهما خفية من ومضات الوعي البوليسي وأعين رجال الدين.

تنسل بدورها عن الجماعة وتختار المسير بمفردها، متتبّعة إحساسًا ما، حبلًا لا مرئيًا يجرها من أطرافها إلى التقدم، خطوة تلو الأخرى، لا تفكر في شيء (لم تقطع ألف كيلومتر لتفكر في شيء ما محدد). بين النقوش والزخرفات، غمغمات المتسولين وصيحات الباعة المتجولين، تداعب لفحة الصفار الإيبيري على خصلات شعرها حميمية الجو وغرابته، جادَّة المكان في مجملها. هي لا تعرف سوى هذا الجمال، سوى هذه المتعة، هذا الإحساس الإكزوتيكي المتبل بعطور الشرق المفقود.

تنكسر الأشعة على ألوان الزرابي المعلقة على حواف الدرب، تحت ظلال مشربيات السقف الخشبي. وتعبر، تمثالًا عاجيًا، قطعة لحم بيضاء مرمرية، مبرقعة بحمرة شبقية من أثر قبلات شمس الوطن الحارة، تتبعها هالة صمت أينما حلت، تتفحصها الأعين العطشى كأنها شيء من عالم آخر، نشازًا على المنظر، جسدًا يحفز الذكرى المتكررة، منذ صليب الخلاص إلى آخر عابرة مرت من هنا يومًا لتحمل معها تذكارًا حيًا يدعى محمد إلى جنة شمال المتوسط.

تكاد السيجارة تنتهي، آخر أنفاس تبغ متبقية في جيبه، يشفط أنفاسها حتى القاع. تنغص عنه الآلام مسير أحلامه، وتعيده إلى الإحساس العميق بوخزة سكين المكان والزمان، لقد اعتاد أن يعبر هذا الدرب الظليل كل يوم، وككل يوم يرى فيه ما يرى، مشاهد تختلف وتتطابق، تعيد إنتاج نفسها وتموت.

كل شيء هنا في عبثه وفوضويته منظم بإحكام، كل شيء هنا وظيفي؛ العجوز ذات الساق المتضخمة، الأعمى الذي يطلق لازمته المعتادة "آ السامعين من يعين هذا المسكين"، الحمار المتثائب هناك، بقع الدم الموحلة هنا. مصارين السمك المتخمرة، العباءات الملونة بألوان الراية الوطنية التي تحضن نجمتها، باعة الذهب الجالسون على عتابات حوانيتهم، العمامات المتكومة على مصطبات مقهى الشيوخ، عازف الناي، إبريق الشاي، أسراب الذباب، عظام الجماجم المسلوخة، الزحام، عشرات من كتل اللحم المتدافعة، اللصوص المتكسبون، الرجال المهتاجون، الرجال المخبرون، هو… لكل شيء وظيفته ضمن شبكة الوظائف الصغيرة يخدم بقاء الوظيفة الكبيرة: البقاء.

هو لا يأبه بهذا ولا يعلمه أصلًا، يطالعها من خلف، شعرها الأشقر منسدل على كتفيها، تتمايل وعطر بحري منعش يتبعها، يطالع في المجال حولها متغيرًا، هذا كف العجوز يخضر، هذا الحمار يشد أذناه انتباها، هذه الراية الوطنية قد حملت حقيبتها وستهجر البلد عن قريب. هو يعي ذلك، ويتمتم: العابر وارث لخطى جده، هو يراها كذلك، هي لا تأبه بذلك ولا تعلمه أصلًا.

يستمران معًا في المشي على غير هدى، هي سباقة وهو لاحقها، وعلى بعد خطوات قبل نهاية الدرب، يتراءى بناء جديد عوض القديم، عمارات عصرية عوض الجدران الطينية والحوانيت، ترفع رأسها بامتعاض كأنه حلم آخر انتهى، نهاية أخرى لـ "ألف ليلة وليلة ". وعلى حدود الشرق الفولكلوري وقفت تنظر إلى الخلف، لترى شابا حنطي السحنة يصارع شخصين يحاولان شل حركته، يصرخان بكلمات لا تفهمها هي: "عطيني البطاقة يا ولد...! أنا لي غادي نربيك آ الحمار!".

 

اقرأ/ي أيضًا:​

خيالات رجل يجلس وحيدًا

عيش الكلمة

دلالات: