يشهد العالم اليوم واحدة من أكثر الأزمات البيئية حدةً في تاريخه، حيث تجاوزت درجة الحرارة العالمية عتبة 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة، مما يضع مستقبل المناخ العالمي على المحك. ورغم التحذيرات المتزايدة من خطورة الوضع، فإن الاستجابة السياسية لا تزال متواضعة، حيث تأخرت العديد من الدول الكبرى في تقديم خططها للحد من الاحتباس الحراري، وسط تباين في وجهات النظر بين الحكومات والمنظمات البيئية.
تصريحات متباينة بشأن تأخر تقديم الخطط
يعتبر الرئيس التنفيذي لمعهد "كلايميت أناليتكس" للعلوم والسياسات، بيل هير، أن بلوغ الاحتباس الحراري 1.5 درجة مئوية خلال العام الماضي يفرض على المواطنين توقّع "ردة فعل قوية من حكوماتهم"، وهو الأمر الذي لم يحدث، بحسب ما نقلت وكالة رويترز. تصريح هير جاء على خلفية فشل الدول الكبرى، بما فيها الولايات المتحدة والصين والهند والولايات المتحدة.
في المقابل، ذكر الأمين التنفيذي لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ، سيمون ستيل، أن "الدول تأخذ هذا الأمر على محمل الجد إلى أقصى درجة"، لافتًا إلى أنه "أمر غير مفاجئ نظرًا إلى أن هذه الخطط سوف تكون أساسية في تحديد مقدار ما يمكن للحكومات من الحصول عليه من (تمويل) كبير يصل إلى تريليوني دولار"، موضحًا أن "أخذ المزيد من الوقت (سيكون) لضمان أن تكون هذه الخطط جيدة أمر منطقي".
رغم التحذيرات المتزايدة من خطورة التغير المناخي، فإن الاستجابة السياسية لا تزال متواضعة، حيث تأخرت العديد من الدول الكبرى في تقديم خططها للحد من الاحتباس الحراري
كان مفوض الاتحاد الأوروبي لتغير المناخ، فوبكه هوكسترا، قد ذكر في تصريحات سابقة لرويترز أن "دورة صنع السياسات في الاتحاد لا تتوافق مع الموعد النهائي الذي حددته الأمم المتحدة"، لكنه أشار أيضًا إلى أن التكتل سيكون مستعدًا لتقديم خطته خلال قمة "كوب 30" للدول الأطراف في الاتفاقية الأممية للتغير المناخي، والتي من المقرر أن تستضيفها مدينة بيليم البرازيلية خلال الممتدة من 10 حتى 21 تشرين الثاني/نوفمبر المُقبل.
وفيما نقلت رويترز عن مسؤول حكومي في الهند أن بلاده لم تنته بعد من الدراسات اللازمة لتصميم خطتها المناخية، فإن متحدث باسم وزارة الخارجية في الصين ذكر أن بكين ستنشر خطتها المناخية "في الوقت المناسب"، وكذلك أن متحدث باسم وزارة البيئة الإندونيسية أن الوزارة تنتظر تعليمات من مكتب الرئيس بشأن تقديم هدفها المناخي.
عام 2024 كان الأكثر احترارًا على الإطلاق
قالت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية إن عام 2024 كان العام الأكثر احترارًا على الإطلاق، مشيرة في بيانها الذي صدر في كانون الثاني/يناير الماضي إلى أن درجة الحرارة العالمية ارتفعت بمقدار 1.55 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة، واعتبر البيان أن الهدف طويل الأمد لاتفاق باريس للمناخ "لم يمت بعد، لكنه في خطر شديد".
وكانت نحو 200 دولة قد وقعت نهاية عام 2015 على اتفاقية باريس للتغير المناخي، والتي تهدف إلى الحد بشكل كبير من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، بالإضافة إلى الحد من زيادة درجة الحرارة العالمية خلال القرن الحالي إلى درجتين مئويتين مع السعي إلى الحد من الزيادة إلى 1.5 درجة، على أن تقوم الدول الموقعة على الاتفاقية بالإبلاغ عن الإجراءات التي ستتخذها لتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري من أجل الوصول إلى أهداف الاتفاقية.
ضمن سياق ارتفاع درجة الحرارة عالميًا، توضح الأمينة العامة للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، سيليست ساولو، أن ارتفاع درجة الحرارة العام الماضي كان مصحوبًا "بأحوال جوية مدمرة وقاسية، وارتفاع مستويات سطح البحر وذوبان الجليد"، مضيفة أن "كل ذلك مدفوع بمستويات قياسية من غازات الدفيئة الناتجة عن الأنشطة البشرية"، وعلى الرغم من تقليلها فشل اتفاقية باريس بتحقيق أهدافها، إلا أنها أكدت على أن "كل زيادة إضافية في ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي تزيد من التأثيرات على حياتنا واقتصاداتنا وكوكبنا".
انسحاب ترامب من اتفاقية باريس يثير المخاوف
كانت الدول الثرية قد وافقت في قمة "كوب 29" التي استضافتها العاصمة الأذربيجانية باكو في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي على رفع المساعدات المالية المناخية للدول النامية إلى مبلغ يترواح إلى 300 مليار دولار سنويًا، لكن هذا التوجه الذي يرمي إلى الحد من الغازات الدفيئة يصطدم بمعارضة الدول النفطية التي لديها موقف متشدد بشأن الوقود الأحفوري.
ويثير فشل الدول الكبرى من الالتزام بوعودها بشأن تقديم خططها للحد من الاحتباس الحراري المخاوف من تراجع السياسات المناخية من الأجندات الحكومية، حيثُ تربط بعض التقارير هذا التراجع مع إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الانسحاب من اتفاقية باريس، فضلًا عن إيقاف الدعم الأميركي للبرامج المناخية التابعة للأمم المتحدة، وتتناسب هذه الخطوة مع توجهات ترامب لزيادة إنتاج الوقود الأحفوري.
وقد شكك ترامب لأكثر من مرة أثناء حملته الانتخابية بالتغيّر المناخي، واصفًا إياه بأنه "خدعة كبيرة"، كما أنه سخر مرارًا وتكرارًا من مشاريع الطاقة البديلة، ودعم إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، للسيارات الكهربائية. ووفقًا لدراسة أعدها موقع "كاربون بريف" لتحليل المناخ فإن سياسات ترامب المناخية التي تشجع على إنتاج الوقود الأحفوري من المرجح أن تضيف أربعة مليارات طن من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
العالم يواجه "أزمة" في ظل حالة الطوارئ المناخية
يشدد المدير التنفيذي لمبادرة معاهدة منع انتشار الوقود الأحفوري، أليكس رافالوفيتش، على أنه من الضروري أن تقدم الدول الكبرى خططها بشأن الاحتباس الحراراي بحلول شهر أيلول/سبتمبر المقبل، وذل حتى تستطيع الأمم المتحدة مراجعتها قبل قمة "كوب 30"، ولا يخفي رافالوفيتش أن تأخر تقديم الخطط "مخيب للآمال"، خاصة فيما يتعلق بالتمويل المقدم للدول النامية لمساعدتها على تبني التكنولوجيا الخضراء.
وتفيد التقارير بأن 12 دولة من الدول الموقعة على اتفاقية باريس قدمت خططها الوطنية لخفض الانبعاثات بحلول عام 2035، وتمثل هذه الدول 16.2 بالمئة فقط من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم، وهو الغاز الرئيسي المسبب للاحتباس الحراري الناجم عن أنشطة الإنسان، حيث تُلزم الاتفاقية الدول الموقعة عليها على تقديم خطتها الخمسية كل خمس سنوات للتقليل من انبعاثات الغازات المسببة للانحباس الحراري، بما يشمل حرق الفحم والنفط والغاز الطبيعي.
وتعليقًا على ذلك، تؤكد محررة القسم البيئي في صحيفة "الغارديان" البريطانية، فيونا هارفي، على أن "هناك حاجة ماسة إلى خطط وطنية جديدة لخفض الانبعاثات لأن الأهداف الحالية غير كافية".
وهي ترى أنه "يتعين على العالم خفض انبعاثات الكربون بنحو النصف خلال هذا العقد، مقارنة بمستويات عام 1990، حتى يكون لديه فرصة للحد من ارتفاع درجات الحرارة إلى 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة"، وهو الأمر الذي يخشى العلماء ان يكون بعيد المنال.
تنظر هارفي إلى تأخر الدول في تقديم خططها باعتباره "أزمة"، خاصة في ظل حالة الطوارئ المناخية مع تسجيل ارتفاع درجات الحرارة 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة للمرة الأولى خلال العام الماضي. وبالإضافة إلى ذلك، ترى أن العالم يواجه كارثة محتملة أكثر إلحاحًا في ظل رئاسة ترامب للولايات المتحدة، إذ إنه لم يكتفِ بإعلان انسحاب واشنطن من اتفاقية باريس، بل شرع أيضًا في حرب تجارية مهددًا بفرض تعريفات جمركية كبيرة على الواردات.