10-مايو-2018

الكاتب الجزائري محمد ديب

مدخل

بعد مرحلته الواقعية، انتقل الروائي الجزائري محمد ديب نحو أسلوب ورؤية مختلفتين للرواية، بتأثير مباشر من تجربة المنفى القسري التي تحوّلت، رغم قسوتها ومرارتها، إلى مصدر لإثراء تجربته الروائية، وارتياد أماكن مجهولة في فن الرواية نفسه. محمد ديب الذي ارتبط في ثلاثتيه الجنوبية (الدار الكبيرة، الحريق، النول) بأرض الوطن، وبالواقع الاستعماري، وببوادر النضال السياسي والثوري، فإنه بعد الاستقلال، حدث له ما يشبه قطيعة بهذه التجربة الواقعية، ليكتب محمد ديب بكثير من الشاعرية، لكن أيضًا بإيغال عميق في تجارب التأمل في الجوهر الإنساني، وفي مآسي الإنسان، وفي قضايا إنسانية ذات صلة بالإنسان الكوني. صار محمد ديب قريبًا من ذاته، وأقرب إلى الذات الإنسانية، محاولًا البحث عن تلك المنطقة المثالية التي يمكن فيها أن يتجاوز آثار المنافي الباردة.

بعد مرحلته الواقعية، انتقل الروائي الجزائري محمد ديب نحو أسلوب ورؤية مختلفتين للرواية، بتأثير مباشر من تجربة المنفى

في روايته (l’Infante Maure) أو "الأميرة المورسكية" (منشورات الشهاب، 1994)، تطرق محمد ديب إلى العلاقة بين الشمال والجنوب، عبر سرد يوميات تخييلية لطفلة تدعى ليلي بيل، هذه الطفلة ولدت من أب جنوبي وأم أوروبية (شمالية). وبسبب هذا الاختلاف في هوية والديها، أحست بوخز الأسئلة الطفولية الأولى، التي كانت ترافقها في خلواتها داخل حديقتها، في انتظار عودة والدها من رحلته البعيدة إلى أرض الدفء والشمس (الجنوب).

اقرأ/ي أيضًا: مالك حداد على الخشبة

غياب والدها المتكرّر، كان يولد في داخلها حالة طوارئ، تدفعها إلى التفكير في طبيعة ذلك المكان الذي يسافر إليه باستمرار. وأمام بُعد المسافة الجغرافية التي تقاس بآلاف الكيلومترات، التجأت ليلي بيل إلى مخيلتها، لأجل ان تبتكر تلك الأرض، وتبتكر جنوبها الخاص، وترتحل عبر مخيلتها إلى ما يشبه أرض أجدادها الموعودة. في داخلها، كانت هذه الصحراء المتخيلة تعبيرًا رمزيًا عن رغبتها المبكّرة في معانقة الأرض الأم.

 

ابتكار الصحراء

تظهر الصحراء في هذه الرواية مكانًا خياليًا، من ابتكار مخيلة الطفلة ليلي بيل. فمن فوق شجرتها التي تتوسط حديقتها الشمالية الباردة، أطلقت العنان لخيالها الواسع، لترتحل إلى صحراء أجدادها، وتحط رحالها بالقرب من خيمة جدها الجنوبي. لقد بدا هذا العجوز الأبدي كما لو كان هو الشخص الوحيد الذي يقطن الصحراء، أو كأنه سيد هذا الفضاء الغامض. كان في هيئة نبي جالس داخل خيمته منذ زمن بعيد جدًا.

"بالقرب من المدخل، لحية بيضاء، وعمامة بيضاء، وكل ما بقي عليه أبيض، شيخ لم يجلس هنا، على ما أعتقد، إلا من أجلي أنا. وبما أنه جلس وقدماه مربعتان ومحلى بالبياض، أدركت أني وصلت لأتعرف  عليه. أنا الواقفة بفستان ليس أقل بياضًا" (الرواية: ص 147)

يغدو هذا العجوز (الشيخ) بدثاره الأبيض الناصع، العلامة الوحيدة على الحياة في هذه الصحراء القاحلة، وباستثناء حضوره المهيب، فإنّ الصمت هو سيد هذا الفضاء، فكل شيء يبدو محفورًا بالصمت، أو ترك عليه الصمت آثاره الغائرة.

إنّ الصحراء، من خلال هذه المقاربة التخييلية، هي الفضاء الذي هجرته اللغة، ليستعير من الصمت لغته؛ إذ سيتحول الصمت إلى لغة ذات دلالات. قال الناقد المغربي المرحوم الذهبي العربي: "إذا كان الموقع الخيالي مسكونًا بالهوى الشعري والحلم الفلسفي والشغف الصوفي، فقد صار يخترق اللغات الواصفة والطبيعية معًا".

ومن جهة أخرى، فإنّ حضور ليلي بيل هو الذي جعل الصحراء تكتسب قدرتها على التكلم، أي أن تكون مساحة مليئة بالرموز والكلمات. لأنّ السؤال المطروح هو: كيف استطاعت الطفلة أن تتواصل مع جدها، وهما ينتميان إلى فضائين لغويين وثقافيين مختلفين؟ هنا تتدخل وظيفة المخيلة في اصطناع لغة موحدة، لغة الذات المتخيلة.

"قلت: العالم مليء بالأشياء، وبالصور، وهذه طريقته في الكلام" (الرواية: ص 153).

 

أسئلة الصحراء

كانت الطفلة ليلي بيل محاطة بأسئلة كثيرة، كانت تريد أن تستوعب الخصوصيات الثقافية لهذا الفضاء، من خلال تفاصيله الصغيرة، ومن خلالها تكتشف جذورها. تنتهي إلى أنّ الصحراء ليست مختلفة تمامًا عن أرض الثلوج: 

"- ما هو الثلج؟                                                                        

- ما هو الثلج؟

- أجب على سؤالي.

 وسأقول لك بعدها لماذا تحيط بي كل هذه الرمال" (ص 149)                                 

إننا أمام نسق من الأسئلة المتوالدة تلقائيًا، كل شخصية تريد أن تتعرف على فضاء الشخصية الأخرى، فقد أصرّ العجوز أن تجيب عن سؤاله: "ما هو الثلج؟" قبل أن يجيب هو عن سؤالها: "ما هي الرمال؟ أو لماذا هو محاط بكل هذه الرمال؟"، وكل شخصية هي ممثلة لفضائها الخاص. فالثلج والرمل، كعنصرين مكونين لفضائي الشمال والجنوب على التوالي، يشتركان في صفات عديدة:                

"- يخلق الثلج الصمت.

– حتى الرمال تخلق الصمت...

– وفي نفس الوقت ترغمك على النظر والالتزام بالصمت.

– نفس الشيء حتى الرمال ترغم الإنسان والسماء والأرض على النظر والتزام الصمت"(149)

"- إنه مضيء وناعم يذوب بين الأصابع.

فأمسك بحفنة من الرمال، فأخذت تنساب بين أصابعه على شكل خيوط.

– مثل هذا؟ إنه مضيء وناعم.

– لا، ليس كذلك، لكن تقريبًا.

–كيف؟

- إنه بارد جدًا، ويمكن أن يكون دافئًا مثل الريش.

– رمال النهار كالريش الدافئ، ورمال الليل ريشة باردة" (ص 152)

"- الثلج صاف.

ورد الشيخ كالصدى:

صاف. فالرمل يجعل العالم صاف بنفس القدر. هل فهمت الآن لماذا أنا محاط بكل هذه الرمال؟" (ص 149)

 إن اشتراك الثلوج والرمال في هذه الخصائص، والصيغة التي جاء عليها حوار الشخصيتين - على شكل صدى لكلام بعضيهما- يعطي إحساسًا بالتقارب بين الفضائين.

في رواية "الأميرة المورسكية" لمحمد ديب، الثلج والرمل عنصران مكونان لفضائي الشمال والجنوب على التوالي

إنهما يشتركان في صفات جوهرية، وقد أكد السارد بأن ردات فعل العجوز كانت بمثابة الصدى، بمعنى أن الصحراء/ الجنوب هي صدى للثلوج/ الشمال، أو هما وجهان متعاكسان في مرآة، وكأن ثمة رغبة في تجاوز حالة الاختلاف والتنافر بين الفضاءين، وبتجاوز هذا الاختلاف تخف وطأة الإحساس بالاغتراب عند الطفلة ليلي بيل. "في هذه الأثناء، أنا وسط ثلج الرمل الحار، بل الملتهب" (ص 147)

اقرأ/ي أيضًا: إعادة الاعتبار إلى شاعر الثورة الجزائرية

يتحول الثلج إلى رمل، والرمل إلى ثلج، و تتحول الصحراء فجأة إلى مساحات ثلجية حارة وملتهبة.

 

الصحراء كفضاء للكتابة

استطاع محمد ديب أن يقدم لنا تصورًا مثيرًا لصورة الصحراء في مخياله السردي، إذ تتحول الصحراء إلى مساحة للكتابة، لكنه يفاجئنا بأنّ الكائن الوحيد القادر على ممارسة هذه الكتابة هو حيوان البازليك الخرافي؛ فهذا الحيوان يعرف كل شيء عن الصحراء، وهو وحده من يمكن له فكّ طلاسمها من خلال الرسم على رمالها اللانهائية.      

"كما أن هذه الصحراء بكل رمالها كانت صفحته البيضاء التي يضع عليها كتابته. أهذه طريقته في الكلام؟" (الرواية ص158).

وينجم عن اقتران الصحراء بالكتابة عدة دلالات/ منها:

أنّ الصحراءَ فضاءٌ مفتوح على المعنى، و تحديدًا على احتمال المعنى، وتعدده أيضًا، لتغدو نصًا لانهائيًا يستعير من الصحراء شساعتها المدوخة.

وثانيها، أن الصحراء بوصفها فضاء للكتابة السرية، هي أيضًا فضاء للقراءة، فقد طلب العجوز من الطفلة أن تذهب حيث تركت ذلك الحيوان الخرافي البازليك، لتقرأ ما خطه فوق سطح الرمال الدافئة. وهنا تكتشف أمرًا مثيرًا، وهو أنّ كتابات البازليك اختفت وتلاشت وتشتت بين ذرات الرمال، فلم تستطع قراءة ما خطه الحيوان.

ما الذي يمكن أن يخطه الحيوان على الرمل؟ هل يندرج هذا ضمن الاستراتيجية السردية لدى الروائي ليقحم القارئ في نصه؟ أم أنه هو الآخر يجهل ما الذي كتبه الحيوان؟ إنه يؤسس هنا لنوع من الكتابة التي هي في جوهرها إمحاء، وتلاشي. وامحاء الكتابة يعني بقاء الأثر/ المعنى.                            

إن اختفاء الكتابة رافقها اختفاء العجوز من خيمته، وكأن بينهما علاقة عضوية، لقد اختفى أثره، حتى على الرمال، كما لو كان هو الآخر كتابة. "الشيخ الأبيض الجميل غير موجود في خيمته، ولا في أي مكان، لا أثر لحضوره على مدى هذه الصحراء. ولذا اتخذت مكانه" (ص 159 -160).                                    

إن امحاء هذه الرموز بفعل حركة الرمال، يدفعنا مرة أخرى إلى التأمل في رمزية الصحراء، فهي تبدو هنا رمزًا للحركة الأبدية، حركة الزمن السرمدي، وكذلك رمزًا للغياب. إن هذا الفضاء يتحرك بين جدلية الحضور والغياب، مثلما هو الشأن بالنسبة للكتابة التي تقوم هي الأخرى على الجدلية نفسها، باعتبارها أثرًا.

إن امحاء الكتابة على الرمل، لا يعني امحاء المعنى، المعنى حاضر، والكتابة غائبة، والصحراء عند الطفلة، حاضرة كحلم، وغائبة كواقع، وحقيقة. إن الذات هنا، تعيش وهم الحضور، حضور أرض الأجداد.

اقرأ/ي أيضًا:

فالطفلة عبر رحلتها الخيالية، نسجت خطاب لا وعيها، باعتبار أن رحلتها، هي الأخرى نوع من الكتابة التي تمارس مقاومة غربتها. فهذه الصحراء "هي أيضا مكان للكتابات" بتعبير الناقدة أمينة بقة.

وما يمكن أن نقوله في الأخير، أن الصحراء في رواية الأميرة المورسكية هي ابتكار لذاكرة متخيلة، إنها تجسد رغبة الشخصية البطلة في امتلاك مكان تنتمي إليه، لتتحوّل إلى أثر، يستوعب حضور الكتابة وتلاشيها في الآن ذاته. أليست الهوية إلى حد كبير، هي ابتكار واختلاق؟ هي الحضور والامحاء؟

 

  • ملاحظة: كلّ الاقتباسات الروائية الواردة في المقال من ترجمتي الشخصية، فقد اعتمدتُ على النسخة الفرنسية الأصلية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة لونيس بن علي

مخلوف عامر.. ألوان السرد الجزائري