19-فبراير-2019

بشير مفتي (فيسبوك)

مدخل

ظلّ بشير مفتي وفيًا لرؤيته السردية في روايته الجديدة "اختلاط المواسم: أو وليمة القتل الكبرى" (منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، 2018). وعلى غرار رواياته السابقة، تشبّع منظوره السردي بالأسئلة التي يطرحها الفرد في عالم فقد معالمه الإنسانية والأخلاقية؛ مثل سؤال الشّر، الحرية، السعادة، الحب، وواقع المرأة في مجتمع ذكوري.

تشبّع منظور بشير مفتي السردي بالأسئلة التي يطرحها الفرد في عالم فقد معالمه الإنسانية والأخلاقية

وما نراه مهيمنًا في هذه الروية، هو المساحة الكبيرة التي أفردتها لإبراز تأزّمات الوعي الفردي، وهو ما يتجلّى في طبيعة المعضلات الوجودية التي واجهت شخصياتها، وهي ناجمة عن الارتباك في طبيعة العلاقات الإنسانية المفككة. إذ هناك اشتغال كبير حول نماذج بشرية، وضعتها الرواية في صورة أرخبيلات مشتتة وممزقة.

اقرأ/ي أيضًا: مارسيل بوا.. من يترجم الرّواية الجزائرية بعده؟

اختارت الرواية الخوض في معضلات الفرد من زاوية السؤال الفلسفي. وإذا كان هناك مبدأ مؤطّر لهذا السؤال، فهو أنّ الشر هو قاعدة الوجود، وهو الأصل الذي ترجع إليه المنظومات الاجتماعية والأخلاقية. وأنّ الإنسان، في الأخير، هو نتاج نوازعه الشريرة، ورغباته العميقة في قتل الآخر.

لجأت رواية مفتي إلى الأسلوب البوليفوني، من خلال التناوب السردي بين شخصياتها المُختلفة: القاتل، سميرة قطاش، الصادق سعيد، وفاروق طيبي. مع ضرورة الإشارة إلى أنّ شخصية سميرة قطاش كانت بمثابة المنطقة المشتركة بين الشخصيات الثلاث الأخرى.

وضمن هذا الأسلوب البوليفوني، اتّخذ السرد في الرواية طابعًا ذاتيًا، حيث كلّ شخصية تسرد قصتها بنفسها لتمعن في صياغة رؤيتها للعالم، خاصةً أنّ كلّ الشخصيات تشترك في كونها مثقّفة تحمل رؤية فكرية مُرتبكة عن العالم. لذا، أفردت لها الرواية مساحات لصياغة تلك الرؤى، من خلال تبّني مواقف فلسفية تارة، وسياسية تارة أخرى.

إنّ السؤال الذي لاحقني وأنا أقرأ رواية مفتي هو: هل تصنع الأفكار الكبيرة رواية جيدة؟  فما يبرر تساؤلًا كهذا هو أنّ الرواية امتلأت بمناقشات كانت قريبة إلى عوالم الفلسفة، وكانت لشخصية القاتل حصّة الأسد في الرواية، ما جعلها شخصية محورية، بها بدأت، وبها انتهت. وهي التي وضعت كذلك الرواية داخل عالم من الأفكار الفلسفية، تجلّت أكثر في أطروحتها حول مفهوم الشر، حيث وجدنا بأنّ الرواية دافعت عن هذا التصور الذي مفاده أنّ الشر هو الأصل، وأنّ الأخلاق مجرد أقنعة جميلة تخفي القبح الإنساني المتواري خلفها.

تروي رواية "اختلاط المواسم" مصائر أربع شخصيات تجمعها الصدف، لكنّ حكاياتها نُسجت وفق نسيجٍ سردي أفضى إلى حدوث اللقاء بين تلك الشخصيات، من خلال شخصية فتاة مثقّفة تدعى سميرة قطاش، تمثّل بؤرة اهتمام الشخصيات الأخرى: القاتل، الصادق سعيد، فاروق طيبي.

اللقاء بين هذه الشخصيات، هو الذي فجّر الأسئلة العميقة في الرواية حول مفهوم الجريمة، الحب، الجسد، والسعادة. نكتشف بدايةً شخصية القاتل الذي سيتعرّف إلى سميرة قطاش في إحدى مكتبات تيزي وزو، "100 كلم شرق الجزائر العاصمة". قطاش ستكشف له عن قصّتها مع أستاذها الصادق سعيد، والذي، وفق روايتها، كان سببًا في شقائها لأنّه لم يكن يبادلها نفس مشاعر الحب، فيقرر القاتل قتله انتقامًا.

نتعرّف فيما بعد إلى شخصية الصادق سعيد، ونعرف أنّه شخصية مثقفة ومناضلة، اتّخذت من الكتابة النقدية وسيلة في حربها الصاخبة ضدّ السلطة السياسية في الجزائر. بعد ذلك، سيروي صادق حكاية لقائه بسميرة قطاش، والتي أغرته فوقع في علاقة جسدية معها، هو الذي كان متزوجًا من سارة حمادي، قبل أن تنهار في النهاية علاقته بها بعد أن يتعرّض للوشاية من أطراف مجهولة، فتنهار يقينياته. أمّا شخصية طيبي، فهو أيضًا شخصية مثقّفة، يقع في حب سميرة قطاش، لكنّها ترفض حبه، وفي المقابل تقترح عليه جسدها.

قاتل متلبّس في شخصية فيلسوف

منذ الفقرة الأولى، تواجه الرواية قارئَها بأسئلةٍ وجودية كُبرى، وليس غريبًا عن فنّ الرواية هذه الأسئلة الأزلية: ما هي الحقيقة؟ ما الله؟ ما هو الشر؟ ما هو الخير؟ فالرواية كانت ومازالت هي الفن الأدبي المسموح له بأن يستعير من الفلسفة أسئلتها.

ما هي الحقيقة؟ ما الله؟ ما هو الشر؟ ما هو الخير؟ أسئلة تواجه قارئ رواية "اختلاط المواسم"

أكيد أنّ القارئَ سيتساءل حتّى قبل أن يواصل القراءة: هل هو بصدد قراءة عمل روائي بطله فيلسوف؟ ثمّ ما علاقة الفلسفة بشخصية القاتل؟  أفهم أنّ لعبة الرواية بدأت هاهنا من هذه اللحظة السريعة التي تولِّد في القارئ الرغبة في التساؤل. أي، بتعبيرٍ آخر، تغدو القراءة فعلًا تساؤليًا.

اقرأ/ي أيضًا: هل كان دون كيشوت جزائريًا؟

بالنسبة لرواية "اختلاط المواسم"، تحاول كلّ شخصية أن تعبّر عن فلسفتها، بحيث تجيب عن بعض الأسئلة العالقة: من أين تولد رغبات الإنسان الإجرامية؟ وهل بمقدور الحب أن يزحزح الشر داخل النفس الإنسانية؟

مع مواصلة قراءة الرواية، تتزحزح في مخيلة القارئ فرضية البطل الفيلسوف، ليجد نفسه أمام شخصية "قاتل" تزحزح صورةَ الفيلسوف. وفي هذه الإزاحة الرمزية، تكمن لعبة الرواية. فلا أظنّ أنّها مجرد إزاحة بسيطة، فهي إبدال ذي دلالة عميقة، تطرح تساؤلات ضمنية، ذات إلحاح، ومنها: أليس داخل كلّ فيلسوف قاتل ما؟ وأرجّح كذلك أن يكون السؤال كالتالي: أليس مبدأ الجريمة فلسفيًا في جوهره يجسّد ذلك الصدام العنيف بين الخير والشر؟

نحن أمام شخصية – ساردة تتحدّث عن تصوراتها للحياة، بما يشبه حفرًا في قبليات تلك الرؤية المشبعة بحسّ تراجيدي، بل أكاد أقول بحسّ عدمي. تكاد هذه الشخصية تكون مكتملة البناء منذ الصفحات الأولى. أقصد أنّ موقعها السردي جاء خارج زمنية الحدث السردي المسرود، فهي تنظر إلى نفسها كآخر، فتحاول فقط إعادة الشريط إلى الماضي لاقتفاء تلك الآثار المتبقية من تجربة شخصية، تدّعي أنّها لم تكن يوما تشبه غيرها من البشر.

والاختلاف بدأ منذ لحظة الطفولة، حيث تبدو طفولة القاتل قد نضجت قبل وقتها، لأنّها، وهي في سنّ مبكّرة جدًا، أدركت اختلافها. أمّا عن طبيعة ذلك الاختلاف، فهي تجذّر روح الشر فيها. فالقاتل كان يعي في ذلك العُمر أنّه كان مسكونًا بشيء مروّع ومخيف يستطيع الفتك بالآخرين دون الإحساس بالذنب. في هذا العُمر، فهِم على نحو مبكّر علاقة الشر بالذنب! لقد أبدى منذ صغره ميلًا عدوانًيا، ورغبة شديدة في إيذاء الآخرين، وبسبب هذه العدائية الطاغية نفر منه أصحابه، فأصبح شبه منبوذ، فاستأثر العزلة.  أمّا بالنسبة لوالديه فكان الأمر سيمر بشكل طبيعي لولا إقدامه ذات يوم على قتل قطة البيت. قتل القطة كانت التجربة التي سمحت له باكتشاف لذة القتل في سنّ مبكّرة جدًا.

شبح ديستوفسكي

إنّ الفصل الأوّل في الرواية، والذي جاء بعنوان "القاتل" هو سيرة تخييلية لقاتل اكتشف منذ طفولته الأولى هوسه بالفتك، قبل أن يتطوّر الهوس إلى حالة وجودية، حيث يصبح الوجود بالنسبة له هو أن يقتل أحدًا، ويشفي في داخله ذلك العطش إلى ارتكاب الشّر.

أليس مبدأ الجريمة فلسفيًا في جوهره يجسّد ذلك الصدام العنيف بين الخير والشر؟

وهو في سنّ الثالثة عشر قرأ القاتل – سنلاحظ أنه لا يحمل اسمًا طيلة الرواية باستثناء اسمين مستعارين – رواية "الجريمة والعقاب*" لدويستوفيسكي، وهي القراءة التي صاغت داخله معنى الجريمة، إلاّ أنّه استنتج بأنّه كان مختلفًا عن بطل هذه الرواية. فإذا كان الشاب القاتل قد أحسّ بالذنب بعد قتله للعجوز وابنتها، فإنّه هو لم يكن ليساوره ذلك الإحساس بالذنب. صحيح أنّنا نتحفّظ نوعًا ما من كون هذا الطفل قد خلص إلى استنتاج فلسفي يفوق عمره، إلاّ أنّه استنتاج أساسي يضعنا أمام رؤية البطل الفلسفية لمعنى القتل؛ إنّه قاتل بلا أيّ ضمير إنساني، وكأنّ القاتل هو أوّلًا من يخلّص ذاته من الضمير الإنساني، ومن القيم الأخلاقية. وهو ما يوضحه من خلال هذا المقطع السردي"

اقرأ/ي أيضًا: "هايدغر في المشفى" لمحمد بن جبار: الرواية داخل مصحة الفلاسفة

"كم كانت فذة الرواية لولا أن دوستوفسكي حاول جاهداً أن يشعر قاتله بالذنب، الشيء الذي لم يكن ليحدث لبطلي لو كتبت أنا القصة حتى لو قتلت نصف سكان الأرض! فما دام البشر ينافقون ويكذبون، يقبلون القتل عندما يكون في سبيل الوطن أو الدين أو أي قيمة يرسمونها لأنفسهم، ويرفضونه عندما يكون على مستوى فرد، بل يعتبرونه انحرافا عن الطبيعة، الطبيعة التي تبرر القتل في مواقع، ولا تبرره في مواقع أخرى" (ص 22).

نكتشف من خلال هذا المقطع السردي ما يمثّل سعيًا لإيجاد مبرّر ما للقتل، خارج القتل باسم الوطن أو الدين أو القيم. أليست الجريمة هي جريمة بغضّ النظر عن سببها أو هدفها أو مبررها؟ إنّ سؤالًا كهذا لا تطرحه إلّا ذات فردية، لا يهمها كيف تتصوّر الجماعة القتل، بقدر ما يهمها أن ترى بأنّ الجريمة هي أيضًا حالة طبيعية في الإنسان. وما الأخلاق، كما يتصوّرها القاتل، إلّا أقنعة يضعها البشر لإخفاء حقيقتهم البشعة. القاتل هو بهذا المعنى الشخص الذي واجه العالم بلا قناع، ثمّ يختزل فلسفته في الجملة التالية: الإنسان حيوان مُفترِس أو مفترَس لا غير.

يُمكن أن نقول بأنّ شخصية القاتل في الرواية تحمل روحًا دوستوفسكية من جهة أنّها وضعت القتل قانونًا للحياة لأجل تبرير الوجود ككل، ولو كانت مختلفة في زاوية الإحساس بالذنب. ومن جهة أخرى، تظهر كشخصية كاموية – نسبة لألبير كامو – في مشهد وفاة الوالدة بحيث لم يحزن لرحيلها، وكأنّ روح ميرسو، بطل الغريب، قد تجسّدت فيها في ذلك الموقف بالذات. لم يعد الموت يعنيها شيئًا كبيرًا، هو خسارة فقط، سرعان ما تطويها صفحات الأيام.

ثمّ ينتقل إلى في فترة العنف الإرهابي، حيث لم ينتصر القاتل لأي جهة، فأجواء الموت والقتل كانت تثير غرائزه البدائية، وكان، على عكس غيره، يشعر برغبة في الانخراط في موجة القتل، لا يهمه الطرف الذي سينتمي إليه. في هذه النقطة بالذات، أفرغت الرواية شخصيتها من الطابع الإيديولوجي، فهي لا يهمها أي طرف سينتصر في الأخير. ثمّ أنّ ما حدث من عنف دموي أكّد نظريته بأنّ الإنسان كائن فتّاك، إما قاتل أو مقتول.

لم تفسّر هذه الشخصية ذلك العنف تفسيرًا تاريخيًا، بل أوعزته إلى بنية جوهرية وعنيفة في الإنسان، وأكيد أنّها تحيل ولو بشكل مُضمر إلى الإنسان الجزائري. إنّ هذا النوع من التفسير، يضع المشكلة أمام أصولها العميقة، أي أنّ ما حدث في تلك العشرية لم يكن ممكنًا تجنبه، ليس بسبب تظافر الأسباب التاريخية، لكن بسبب أنّ هناك جوهر عنيف طفا على سطح الأحداث فتفجّر مثل بركان هائج.

التحق بجهاز الأمن، وانخرط في الحرب ضد الجماعات الإرهابية، إنّه المكان الوحيد الذي يُمكن له أن يقتل دون الإحساس بتأنيب الضمير. فالحرب في نظره تعطّل السلطة الأخلاقية، وتضع الضمير الإنساني جانبًا، لأنّ هناك دائمًا ما يبرّر القتل. رغبة البطل في القتل حولته إلى بطل حقيقي في نظر زملائه، الذين شهدوا له بشجاعته وهو يقتحم مخابئ الإرهابيين ويجهز على ثلاثة منهم، ببرودة دم غير عادية.

الجريمة والحب

تطرح الرواية علاقة البطل بالنساء، فلقد كانت النساء آخر اهتماماته، لأنّ ما يشكل متعة في حياته هو قتل الناس. يستغرب الضابط الذي استدعاه إلى مكتبه، كيف يمتنع شاب مثله عن الاستمتاع بالنساء؟ كأنّه يكتشف قارة جديدة في هذا الوجود، بعد أن ظلّ حبيسًا للمتع الدفينة للقاتل الذي في داخله. "لم أفهم لماذا لم يكن عندي رغبة كبيرة في النساء، أو لم تشكل هاجسًا ملحًا كما هي عند باقي البشر، خاصة الرجال، الذين بحسب ما عرفت منهم، هي موضوعهم الأول والأخير، فلماذا لم تكن موضوعي الأول، ليس لي من تفسير إلاّ أنّي كنتُ مشغولًا بالهاجس الأوّل، الرغبة في أن أقتل وأشعر مع القتل باللذة الروحية والجسدية على السواء" (ص 38).

تطرح رواية "اختلاط المواسم" علاقة البطل بالنساء، فلقد كانت النساء آخر اهتماماته، لأنّ ما يشكل متعة في حياته هو قتل الناس

يبدو لي أنّ ما طرحه البطل مهم لفهم نفسيته: من أين جاءت هذه الرغبة في القتل؟ ولماذا طغت هذه الرغبة على جميع رغباته، ولو تعلّق الأمر بالنساء؟ الحقيقة أني لم أجد شيئًا يساعد على تحليل هذه الظاهرة، فهناك صمت كبير داخل الرواية حول المسألة، بل أنّ البطل وهو يسترجع طفولته أو علاقته بوالديه، لم يكشف لنا عن أيّ سبب يفسّر نزوعه الإجرامي: لماذا خنق تلك القطة حتى الموت؟ لا يوجد أي تفسير، بل إنّه كثيرًا ما يردّد بأنّ تلك الطاقة القاتمة هي مجهولة المصدر. أجد أنّ غياب أي تفسير للنزعة الإجرامية في شخصية البطل، وإرجاعها إلى سبب مجهول، يمثّل علامة سلبية في الرواية، فهي لم تحفر في الشخصية، بل اكتفت بإشارات مبهمة، مثل القول إنّ القتل هو الجوهر الحقيقي للإنسان. إنّ هذا لا يفسّر شيئًا، بقدر ما يحدد موقفًا – فلسفيًا – من الإنسان.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "مخاض السلحفاة" وكتابة تيار الوعي

بعد سنوات الإرهاب، يحال القاتل إلى التقاعد، فلم يعد هناك دافع لقتل الإرهابيين، لأنّ البلد دخلت في مرحلة جديدة، هي المصالحة. "إلى اليوم ظلّت لفظة المصالحة الوطنية مُبهمة جدًا، أو مجرّد مشروع سياسي".

في لحظة ما يعيش القاتل حالة صراع بمجرد أن بدأ يختبر إنسانيته، إذ سيجد طريقًا إلى الحب. غير أنّ نظرته للحب غير مفصولة عن الجسد، وغير مفصولة عن ذلك الشعور السادي بالرغبة في قتل ذلك الجسد. وسيحاول أن يبرّر ذلك الحب من خلال فعل القتل. إنّ امتلاك الجسد عنده يكون من خلال نفيه.

في مكتبة عمومية، يلتقي بسميرة قطاش، وهي مدرّسة أدب عربي، يعرّف نفسه لها بأنّه روائي جاء لأجل كتابة روايته، ويختلق لنفسه اسمًا، وسيعيش معها ما يشبه تحولًا كبيًرا في حياته: الحب. إذ يبدو أنّ الحب بمقدوره قهر أعتى المجرمين.

يكتشف قصتها مع الحب المستحيل، وما نجم عن ذلك من إحساسها بالخواء، وبالرغبة في الموت. يكتشف أنّ ما شدّه إليها هو علاقتها بالموت، واكتشافها حجم النفاق الذي يتحكم في العلاقات الإنسانية: "استرسلت في هذا الحديث عن قسوة الحياة والناس الذين يسقطون في الطريق نحو أحلامهم أو أوهامهم، وقسوة البشر على بعضهم، وكيف أننا في الحقيقة حيوانات مفترسة وليس فينا من الإنسانية إلا الاسم، وكل ما يحددنا كنوع بشري هو رغبة الافتراس وحب البقاء للبقاء، أما القيم فهي مجرد شعارات نرفعها عاليًا في السماء كي ندهسها بأقدامنا لاحقا على الأرض ونقول لقد كانت مجرد توهمات لا تصلح لنا" (ص 95).

ينتهي الفصل الأول بولادة هذا الحب، وبعلاقة جنسية بين البطل وسميرة قطاش، لكن، وهذا ما يبدو أهم، ينتهي بميلاد مشروع قتل الرجال الذين أساءوا لها. إننا نتساءل: هل سيكون ذلك قتل بدافع الحب؟ أم بدافع الشفقة؟ أم أنّ قتل الآخرين سيعوّض رغبة خفية داخله في قتل هذه الفتاة؟

في الفصل الثاني ينتقل السرد إلى شخصية صادق سعيد الذي تعرّفنا عليه في الفصل الأول بوصفه حبيب سميرة قطاش، وأحد الرجال الذين صنعوا بؤسها. تغيير السارد يعني أنّ الرواية رفضت مبدأ احتكار السرد لصالح شخصية واحدة، لتمنح الفرصة لشخصية أخرى لتعبّر عن أفكارها وتسرد قصتها الخاصة.

يجري كلّ الفصل حول علاقة صادق سعيد بسميرة قطاش، ومن خلاله نتعرّف أكثر إلى شخصية سميرة من وجهة نظر شخصية صادق، هذا الأخير وصفها بأوصاف إيجابية، واعتبرها امرأة قوية ومثقفة وصاحبة طموحات أدبية وثقافية كبرى، وكان يرى فيها مشروع روائية حقيقية، لكنه جعلنا نكتشف أكثر عالمها الداخلي، المضطرب. ومن خلال اللجوء إلى تقنية الرسائل، انفتح هذا الفصل على صوت سميرة عبر الرسائل التي كانت تكتبها لسعيد حين انتقلت إلى جامعة تيزي وزو، ومن خلال تلك الرسائل، تتضح صورتها أكثر فأكثر، وتنقشع عنها غلالة الغموض.

معارك المثقّف في ظل سلطة متغوّلة هي خاسرة ودونكيشوتية، بل أنّ السلطة نفسها تعزز هذا التصوّر اجتماعيًا لأجل خلق حالة إحباط في نفسية المثقّف

كان هذا الفصل أكثر ايغالًا في العلاقة العاطفية والجسدية بين سعيد وسميرة بما يشبه حبًا مستحيلًا، أو حبًا وُلد ولادة قيصرية وصعبة. لتعرّي في تصوراتها علاقة الرجل بالمرأة في المجتمع الجزائري، والتي لم تتخلّص من نفاقها الاجتماعي والأخلاقي، ولا من سلطتها الذكورية التي تجيز للذكر ما لا تجيز للمرأة. سنلاحظ بأنّ سميرة قطاش مع الوقت أصبحت هي مركز هذا الفصل، كما أنها تحوّلت في نهاية الفصل الأول إلى مركز أيضًا لأنها استطاعت أن تحرك في أعماق شخصية القاتل ذلك الإنسان القابع فيه.

 

اقرأ/ي أيضًا: "لابوانت" لمحمد جعفر.. عن آلهة التاريخ التي لم يعد يؤمن بها أحد

بدأ كل شيء كحالة إعجاب ثم تطورت إلى علاقة جسدية سريعة داخل السيارة، قذفت بسعيد نحو منطقة الندم والتفكير بالخطيئة، في حين كانت تلك العلاقة بالنسبة لسميرة مصدرًا للسعادة. لقد وضعت الرواية الحب بين أحساسين: الإحساس بالندم (قيمة أخلاقية/ انبثاق الضمير الأخلاقي) والإحساس بالسعادة (الجسد ينتمي إلى الذات ولا أحد يتصرف فيه) لكن بين هذا وذاك يتولّد ذلك الصراع والتصادم بين وعي أخلاقي ووعي متحرّر، لتنبثق معالم مأساة الشخصيتين معًا. بالنسبة لسعيد صار مرعوبًا مما فعل، وبالنسبة لسميرة الرعب الوحيد الذي رافقها هو استحالة امتلاكها لسعيد. هي اللعبة القديمة التي يلتجئ إليها الأدب دائمًا لتمرير رؤيته إلى صراع الرغبة، الحب، الامتلاك، الفقد، الخطيئة.

الصورة المتناقضة للمثقف

في هذا الفصل نكتشف رؤيتين متناقضتين للمثقّف، الرؤية الأولى يمثّلها سعيد صادق الذي عرّف نفسه بالمثقّف النقدي، الذي يؤمن بأنّ المثقّف الحقيقي هو المثقّف الفرد الذي لا ينتمي إلى أي مؤسّسة أو هيكل. ورؤية يمثّلها أستاذ الفلسفة الهيغلية رشيد، الذي كان أول رجل تتعلّق به سميرة لمّا كانت طالبة. سنلاحظ أنّ الرؤيتين معرّضتان لنقد شرس في الرواية، أولًا مثّقف نقدي لم يتخلّص من سلطة الضمير الأخلاقي الذي يرزخ داخله. ومثقّف مثالي (هيغلي) يعاني من التناقض الجوهري داخله (المثالية/ الانانية/ الذكورية/ الهشاشة) فخلف المثالية الأخلاقية عند رشيد يقف عالم هشّ أخلاقيًا. دون أن ننسى أنّ سميرة هي أيضًا نموذج للمرأة المثقّفة.

هناك صورة مهزوزة لهذه المرأة، مشتتة بين إرادة فرض الذات، وبين لعب دور الضحية الأبدية للرجل. وفي الفصل الأول، حدث ما هو أخطر من ذلك، وهو انبثاق الرغبة في القتل. صورة مضطّربة جدًا لسميرة، ولا أعتقد بأنّ الرواية قد أنصفت هذه الشخصية، فوراء صورتها المثقّفة، تقبع امرأة مازالت مصرّة على أن تلعب دور الضحية، على الرغم من أنّها تبدو شكليًا بأنّ سعيد كان ضحيتها.

كلّ الخسارات تبدأ في شكل إخفاق عاطفي وأخلاقي أيضًا، لينتهي مصيره في المجهول

يعود صادق سعيد ليتحدّث عن نفسه؛ فقصّة سميرة قطاش، هي مجرد خلفية لقصته الحقيقية كمثقّف نقدي وجد نفسه في مواجهة غول السلطة. لقد عرّف نفسه بأنّه مثقّف نقدي، يكتب مقالات تُزعج السلطة السياسية بسبب جرأتها وصراحتها، الأمر الذي جعلها تُسرع إلى استدراجه لأجل العدول عن الكتابة، سواء من خلال استدعائه لجلسات الاستجواب في مراكز الأمن، أو من خلال مساومته بالمناصب والمال.

اقرأ/ي أيضًا: اختلاق الصحراء في رواية "الأميرة المورسكية" لمحمد ديب

لقد فهِم أنّ معارك المثقّف في ظل سلطة متغوّلة هي خاسرة ودونكيشوتية، بل أنّ السلطة نفسها تعزز هذا التصوّر اجتماعيًا لأجل خلق حالة إحباط في نفسية المثقّف. بالنسبة لسعيد، كان واضحًا مع نفسه، فهو اختار الخيارات القصوى، الموت من أجل ما يؤمن به. بقي أنّه يعرف تمامًا النقطة الوحيدة التي يُمكن أن تدمّره، وهي زوجته سارة حمادي. وللأسف، هناك من أخبرها بعلاقته بفتاة تدعى سميرة قطاش، لتبدأ مأساة سعيد. فلحظة الحقيقة كانت مدمّرة، ليست لأسرته فحسب، لكن لثقته بنفسه. "كان يُمكنني تقبّل الهزيمة من الجميع، ما دمتُ خضتُ المعركة بقلب شجاع وموقف نبيل، لكن مع سارة، كان الأمر سيئا وبلا نُبل!"" (ص 131).

لا يبدو صادق سعيد شخصية سادية، لأنّه في واقع الأمر كان مجرّد ضحية لسميرة قطاش، وضحية لهشاشته الداخلية لأنّه استسلم لها بسهولة. إنّه هنا يُدافع عمّا تبقّى من نبله الضائع، مُحاولًا ترميم الحياة التي دمّرتها سميرة بطريقة أو بأخرى.

لقد حاول صادق تعويض هذه النكسة العاطفية بشكل من النضال السياسي الشرس، فقرّر أن يصعّد من حدّة نقده السياسي. كأنّه لا يريد أن يضيع وطنه بعد أن أضاع زوجته. ((كل هذا كان محاولة للتعويض بشكل ما عن تلك الخسارة، وشوق العشق الملتهب دائمًا، تعويضًا غير موضوعي حتّى لو كان يشكّل قناعتي العميقة، ويدخل في مبادئي التي لم أحد عنها قطّ" (ص133).

كلّ الخسارات تبدأ في شكل إخفاق عاطفي وأخلاقي أيضًا، لينتهي مصيره في المجهول. فقد انتهى الفصل الثاني نهاية مفتوحة، على مصير مجهول لصادق سعيد: هل هي النهاية المُحتملة لكل صوت متمرّد؟

لقد عمدت الرواية إلى توزيع السرد على شخصيات مختلفة، وفي  الفصل الرابع نتعرّف على فاروق طيبي. نلاحظ أنّ كلّ شخصية تتحدّث عن الشخصية الأخرى، فتضيف إليها معلومات جديدة.  يخبرنا فاروق طيبي أنّ الصادق سعيد أنجز رسالة الدكتوراه حول "الحداثة بين الشعراء والمفكرين". أمّا هو، فكان موضوعه "مفهوم الرواية عند كونديرا بين التنظير والممارسة".

المشترك بينهما، ليس فقط حبهما للأدب وللفلسفة، بل علاقتهما الملتبسة بسميرة قطاش، فهي كانت بمثابة الجرح السري الذي كان يثير فيهما الألم الشديد. قال فاروق طيبي: "الغريب أني رغم كل القرائن التي شاهدتها لم يذهب ذهني أنها تحب الصادق سعيد، ثم ظهرت لي الحقيقة عارية، كل هذا الوقت الذي كنت أسعى فيه للقبض عليها كانت هي في الحقيقة متعلقة بذلك الرجل، والذي حتما تراه رجل أحلامها..." (ص 152).

نكتشف بأنّ علاقة فاروق طيبي بسميرة معقّدة، فقد عذبته لما رفضت حبه لها، لأنّ قلبها ملك لرجل آخر، لكنها لن تمانع إن أراد الاستمتاع بجسدها. نلاحظ بأنّ سميرة تضع فصلًا بين الحب والجسد، وفي نظرنا أنّ نظرتها تمثّل حالة انفصال حاد في وعيها، إنّها هي نفسها من يستعمل جسدها لتعميق مأساة طيبي.

إذا عدنا لنتأمل في شخصيات الرواية: القاتل، الصادق سعيد، فاروق طيبي، سميرة قطاش، رشيد أستاذ الفلسفة الهيغلية، نلاحظ أنّها تعبّر أكثر عن مواقفها الفكرية والفلسفية، ووجودها مرتبط أكثر بالنسق الفكري الذي تتبناه أكثر من انتمائها إلى نسق اجتماعي أو أيديولوجي. أحيانًا، ثقلت الرواية على شخصياتها بالمناقشات الفكرية، وهناك مبالغة هنا لأنّ الأفكار في آخر المطاف لا تصنع رواية.

بالإضافة إلى وقوع الرواية في الحشو، والتكرار، مثل العودة إلى نفس الأفكار في أكثر من موضع، خاصة ما تعلّق بالقاتل أو بسميرة. كما أنّ قصص شريفة وليندة لا نجد أنّها قد أضافت شيئًا للرواية، بل لا نرى أنّها قد أضافت للقارئ شيئًا جديدًا، فقصتهما أصبحت مبتذلة، بخصوص المرأة التي تتزوج بمتدين، أو النهاية المأساوية للمرأة المتحررة.

رواية "اختلاط المواسم" هي رواية تشابك المصائر الإنسانية في مواجهة الشر المتأصّل في الذات الإنسانية

تنتهي قصة سميرة بالانتحار الإرادي بمساعدة القاتل، والمبرر الوحيد لهذه النهاية أنّها شخصية استسلامية: سميرة تتجرّع السم، فاروق طيبي ينتحر، الصادق سعيد يجنّ.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "ما وراء الأفق الأزرق" لمولود بن زادي.. ألق السرد المهجري

تنتهي الرواية بجريمة قتل شاعرية/رومانسية، لكنّها في الأخير تبقى جريمة. أمّا القاتل، فتصله أوامر لتحضير نفسه لمهام جديدة. ليس هناك ما يوحي أنّ القاتل تغيّر، فقد قدمته الرواية ككينونة ثابتة، تقاوم أي شكل من أشكال التحوّل. تريد الرواية في الأخير أن تقول بأنّ الشرّ ينتصر في الأخير، وأنّ الخير هو قيمة الضعفاء، هؤلاء الذين لا يستطيعون التصدي لضربات الوجود الموجعة، وليس غريبًا أنّ كلّ الشخصيات ماتت إلا القاتل.

ومن جهة أخرى، فإنّ رواية اختلاط المواسم هي رواية تشابك المصائر الإنسانية في مواجهة الشر المتأصّل في الذات الإنسانية. فيها الكثير من الروح الدوستوفسكية، حيث يبدو أنّ الروائي متأثّر بأدب دوستوفسكي، مثله مثل شخصية القاتل الذي اكتشف الجريمة والعقاب في سنّ مبكّرة. وفي الأخير، تمثّل رواية مفتي محاولة لتوريط الرواية في معركة الأفكار الكبرى، ومن هذه الناحية، يمكن أن نقول إنّه حاول أن يكتب رواية إنسانية، متجاوزة الإطار المحلي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"السلْبُ" لرشيد بوجدرة.. محوُ ذاكرة الألوان

الرسم والكتابة في تجربة أفونسو كروش