12-أغسطس-2015

كنت أمزج بين سوريا وروسيا في طفولتي وكان مزجًا غبيًا بلا شك (Getty)

أعتقد أن الناس كانت تعرفه بحاجز المشرفيّة. لا أذكر أي عوائق تحيط به. لا أسلاك شائكة، لا إشارة "تمهل حاجز"، ولا شيء من زينة الجيش اللبناني لحواجزه الأنيقة. حتى أن اللونين الأبيض والأحمر، كانا أسود وأخضر، وكانت ثمة صورة على واجهة الكوخ الحجري، حيث يقف الجندي، لرجلٍ مسن، يبتسم بتثاقل، وترتفع عينان تتقدان شرًا فوق شاربيه الكثيفين. كان مسنًا لكنه لم يكن ودودًا كجدي.

فهمت، كطفل آنذاك، أن الجندي مجرد ظل خافت، انعكاس بشري، ثلاثي الأبعاد ربما، للرئيس الخالد المطبوع على باطون مسلّح بفحمٍ مفزع، ويتذيل صورته علم يشبه ذلك الذي وزعوه علينا في المدرسة بمناسبة "عيد الاستقلال"، لكنه ليس علمنا. الصورة للقائد، كما كنا نشاهد في الرسوم المتحركة، القائد أخ أكبر، القائد هو قائد المخرّبين، وليس جونغر. والعلم، لسوريا، وسأكرهه لسنوات طويلة، قبل أن أغيّر رأيي في بدايات عام 2011.

استغرقني الأمر عشرين عامًا، لأفهم، كيف أطلق الجندي النار، ولم يكترث

كل ما يجول في ذاكرتي حالما فكرّت بذلك الحاجز، هو الجندي الواقف، بثيابه الباهتة، حارسًا عبور الآمنين من النجاة. كان يقف أحيانًا في الكوخ، وفي أغلب الأحيان أمام برميل زيتي، تحيط به إطارات سوداء، ويحمل سلاحًا قصيرًا، عرفت لاحقًا أنه كلاشنكوف، ويسمّيه السوريّون "روسيّة". كنت أمزج بين سوريا وروسيا في طفولتي وكان مزجًا غبيًا بلا شك، لكني ضحية الأحرف المشتركة، والاتفاقيات المشتركة، وطبعًا، ضحية المقولة التافهة "شعبُ واحد في بلدين".

لم يكن ذلك الجندي يشبهني بشيء، وأجزم الآن أن المسكين لا يشبه شعبه أيضًا. كان رجلًا قرب برميل. ولكي أكون أمينًا، يجب الإشارة إلى أني لا أتذكر من كان يتقدم الآخر، هو أو البرميل. والآن، بعد كل شيء، يمكنني الشك، إن كان البرميل متفجرًا، أم أنه مجرد ديكور، تمامًا كالحربة المشحوذة في آخر سلاحه تمامًا. سألت أبي ذات مرة عن لعبة الجندي، ولماذا ثمة سكين كانت في لعبته، فطلب مني أن ألعب مع الذين هم في مثل سني فقط.

ذات مرة، أطلق الجندي النار. "ولك حقير، ولك حِيوان..."، ثم أطلق النار على السيارة التي أمام سيارتنا. ركنت إلى جانب الطريق، باتجاه ما صار يُعرف اليوم بأوتوستراد السيد هادي نصر الله. فقد حدث هذا في بداية التسعينيات، والسيد هادي استشهد في معركة مع الإسرائيليين، بجنوب لبنان، في 1997. طبعًا لم أر أبي مرتبكًا في حياته كتلك المرة، وما أتذكره هو أننا عبرنا بسرعة قرب السيارة، التي لم تتوقف قرب الحاجز، فتدلى رأس سائقها من الشباك، وتناثر دمه على الزجاج.

لا أحاول أن أكون طفلًا بريئًا أكثر من اللزوم الآن، لكني في مثل ذلك الوقت كنت كذلك. اليوم، يمكنني أن أقول، بأن المشهد العالق في ذاكرتي، كان تمرينًا، على صور الموت التي تأتي من حلب وحمص ودرعا. ذلك الجندي، كائنًا من كان الذي وضعه هناك، أمام مفترق من بيتنا، كانت لديه وظيفة واحدة. أن يطلق النار. ليس للجنود وظيفة أخرى، وهذا لسيرة الجيش والجيوش في العالم. الجنود قتلة، نعم قتلة. في 2005، خرج السوريون من لبنان. وتقلصت حدة المزج المراهق في نفسي، ونفوس كثيرين، بين السوري العادي، وبين السوري النظامي. لكن لماذا أكذب الآن. بالنسبة لي كان جميع السوريين في المخابرات. وكانت سوريا بالنسبة لي معتقلًا ضخمًا. حتى عندما زرتها مع شلة من الأصدقاء البوهيميين في بداية الألفية، لازمني شعور بالرعب. طاردتني أشباح في ساحة الميسات، وفي المساء بدت لي دمشق أشبه بساحة مهجورة لكنها جميلة.

لا شيء يذكرّني بدمشق في مطلع العام 2001 إلا ذلك الحي الكئيب في وارسو. بعد ثمانية عشر عامًا على دمشق، اكتشفت الشبه مع وارسو. قبل ذلك، رأيت مارون الرأس في 2000. وفي 2005، اكتشفت بيروت التي كانت في داخلي، وخرجت. في 2011 مثل الجميع اكتشفت سوريا. استغرقني الأمر عشرين عامًا، لأفهم، كيف أطلق الجندي النار، على حاجز المشرفيّة، ولم يكترث. المعادلة بسيطة، عندما اختفى الأسد عن الحائط، اختفى الجندي عن الحاجز.

اقرأ/ي أيضًا: 

المعارضة السورية والطريق الشاق إلى مؤتمر أبها

غياث الجندي.. البحر ينتهي في اليونان