لم يعد تغير المناخ مجرد تهديد، بل أصبح حقيقة مدمرة تحمل معها تنبؤات وخيمة للمستقبل، ما بين فيضانات واسعة النطاق في باكستان وانهيارات أرضية في الصين وحرائق غابات في روسيا، وغيرها من الكوارث.
الأمراض العقلية والنفسية هي أحد أكثر آثار التغير المناخي خطورة، إذ يمكن اعتبارها محصلة لكافة الآثار الممكنة للتغير المناخي
وتقدر منظمة الصحة العالمية أن يؤثر التغير المناخي في زيادة معدلات الوفاة بمقدار 250 ألف حالة خلال الفترة ما بين 2030 و2050. ويشمل هذا التقدير الوفيات المرتبطة بالحرارة والأمراض المنقولة مثل حمى الضنك والملاريا، وأمراض الجهاز التنفسي.
اقرأ/ي أيضًا: لحمة وإنترنت أقل.. ما يمكن أن نفعله كأفراد لمواجهة الاحتباس الحراري
لكن ثمة علة أخرى تندرج ضمن تأثيرات التغير المناخي الأقل شهرة، ويتم التغاضي عنها في كثير من الأحيان، رغم خطورتها، هي الأمراض العقلية والنفسية، إذ يمكن اعتبار الأمراض العقلية، محصلة لكافة الآثار الممكنة للتغير المناخي.
بكلام آخر: إذا دمرت الحرائق منزلك، أو غمرت الفيضانات محاصيلك الزراعية أو مدينتك أو قريتك، أو قاسيت أنت وعائلتك الجفاف الشديد وآثاره؛ فإن ذلك سيؤثر بطبيعة الحال على صحتك النفسية بشكل كبير.
أولًا.. ما هو التغير المناخي؟
ينتج تغير المناخ من ثاني أكسيد الكربون الناتج من احتراق الوقود الأحفوري، والذي يتراكم في الهواء، مسببًا ارتفاع درجة حرارة الأرض. وخلال القرن الماضي، ارتفعت حرارة الأرض نحو 1.5 درجة فهرنهايت.
إلا أن تغير المناخ لا يقتصر على ارتفاع درجة الحرارة فحسب، وإنما يشمل اضطرابات الطقس الأخرى الدائمة، مثل زيادة الفيضانات، والجفاف، وحرائق الغابات، والعواصف الشديدة، والأمواج الحارة، وارتفاع منسوب مياه البحر.
ولهذه التغيرات آثار بيئية واجتماعية وزراعية واقتصادية بعيدة المدى، وتضر في النهاية بصحتنا ورفاهيتنا، فارتفاع درجات الحرارة ينذر بانتشار الأمراض المعدية، ويثير القلق بشأن الأمن الغذائي. كما أن تغيرات المناخ تهدد سبل عيشنا، والحصول على الغذاء والسكن، ما يؤدي لانتشار البطالة والفقر، والصراعات المدنية. ولا يؤثر تغير المناخ على صحتنا الجسدية فحسب بل يضر أيضًا بصحتنا العقلية والنفسية.
وتشمل الصحة العقلية: الرفاهية العاطفية والنفسية والسلوكية والاجتماعية، وتحدد كيفية تعامل الناس مع الضغط الاجتماعي. ويؤثر المرض العقلي سلبًا على تفكير الشخص و/أو مشاعره و/أو سلوكه. ويمكن أن يؤدي تغير المناخ إلى تفاقم القلق؛ ما يؤثر سلبًا على الصحة العقلية، إلى جانب التوتر والاكتئاب والإجهاد وإيذاء النفس، وقد يصل الأمر إلى حالات متطرفة كإيذاء النفس وحتى الانتحار.
مخاطر لا حدود لها
على سبيل المثال، قد تؤدي الأحداث، مثل العواصف الشديدة أو الحرارة الشديدة إلى الشعور بالغضب والإصابة بالاكتئاب، وقد يصل الأمر إلى انعكاس ذلك في ممارسة العنف. وبحسب الإحصائيات، فإن نحو نصف الأشخاص الذين نجوا من أحداث مناخية قاسية، يعانون من نتائج سلبية في الصحة العقلية.
لكن لا يتأثر الجميع بنفس الدرجة، فالأطفال وكبار السن والنساء، هم أكثر الفئات عرضة لآثار التغير المناخي على الصحة العقلية. ومن جهة أخرى، فبعض الفئات المهنية أكثر عرضة لهذه الآثار من غيرهم، مثل المزارعين عندما يتعلق الأمر بالجفاف.
وربطت دراسات بين ارتفاع درجات الحرارة وزيادة معدلات الجريمة والسلوك العدواني والانتحار. كما يرتبط الإجهاد الناتج عن الحرارة بالانخفاض في مستوى الأداء المعرفي. وكذلك فإن الأشخاص المعرضين للجفاف على المدى الطويل، أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب وممارسة العنف والتفكير في الانتحار.
كما أن ضحايا الكوارث الطبيعية معرضون لخطر الإصابة بالقلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة واضطرابات النوم، وحتى الإقدام على الانتحار.
وبالجملة، فإن ما بين 25% و50% من الأشخاص الذين تعرضوا للكوارث المناخية الشديدة، أكثر عرضة للإصابة بمخاطر الصحة العقلية، فـ54% من الكبار و45% من الأطفال الذين تعرضوا لكارثة طبيعية، يعانون الاكتئاب.
وبحسب إحصائية، فإن نحو 49% من الناجين من إعصار كاترينا، أصيبوا بالقلق أو الاضطراب المزاجي، فيما أصيب واحد من كل ستة باضطراب ما بعد الصدمة.
من جهة أخرى، فإن الأشخاص المصابين باضطرابات عقلية ونفسية، معرضون لزيادة خطر إصابتهم أثناء موجات ارتفاع دراجت الحرارة، بسبب أن أجسادهم تواجه صعوبة في تنظيم درجة حرارتها كأثر جانبي لبعض الأدوية النفسية. كما أنهم يكونون أكثر عرضة للإصابة بضعف الإدراك.
ولآن آثار التغير المناخي مضاعفة على البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، فإن سكان هذه البلدان أكثر عرضة للإصابة بما يهدد الصحة النفسية والعقلية.
ما الذي يمكن أن نفعله؟
في باب ما يمكن فعله لمواجهة هذه المخاطر، يشدد العلماء والخبراء على ضرورة تنسيق التدخلات الرامية إلى معالجة تغيرات المناخ وتأثيرها على الصحة العقلية، على أمل معالجة المشكلة بطريقة شاملة.
هذا إلى جانب تطوير الخدمات العلاجية، ما يترتب عليه فهم نطاق تأثيرات المناخ على الصحة العقلية، ومدى انتشارها. ويتم ذلك عن طريق الاستعداد للطوارئ بالدراسات التنبؤية، وبناءً عليها توضع الخطط اللازمة لمواجهة ما يمكن أن يفضي إليه التغير المناخي.
ويقول العلماء إن خطط المواجهة ينبغي أن تشتمل على توفير كل ما يلزم لحياة إنسانية أقل وطأة، ففضلًا عن الطعام والشراب والدواء، الأغراض التي قد تعتبر "رفاهية" في أوقات الكوارث، هي في حقيقة الأمر ضرورية لتقليل تأثيرات هذه الكوارث على الصحة النفسية، مثل الكتب والألعاب.
ما بين 25% إلى 50% من الأشخاص الذين تعرضوا للكوارث المناخية الشديدة، أكثر عرضة للإصابة بمخاطر الصحة العقلية
إن معرفتنا بتغير المناخ حقيقة، لكننا لا نعرف، على وجه الدقة، درجة تأثير هذا التغير علينا، الأمر الذي يثير مستويات متزايدة من القلق، خاصة على الأطفال والمراهقين والشباب، فهُم الذين سيواجهون هذه التأثيرات طويلة المدى أكثر من آبائهم.
اقرأ/ي أيضًا: