20-مارس-2019

تتهرب فرنسا من وقف تصدير السلاح للسعودية بسبب جرائمها في اليمن (Getty)

قلما عاينّا، في عالم اليوم، كل هذا الاجتماع الدولي على رأي يخص تجارة الأسلحة، كما عاينّاه حول قرار توقيف بيعها للسعودية. وأخيرًا استبشر العالم بشبه خلاص عاجل لمآسي البشرية في اليمن على يد المجتمع الدولي هذه المرة. لم تقف القصة عند هذا الحد، بل وعلى العكس من ذلك، شكل مناخ التهديد هذا فرصة للانتهازيين، كما هي عادتهم، للاغتناء على حساب دماء المدنيين. هذه حال فرنسا، التي تواجه إحراجًا دوليًا فيما يخص ملف تسليحها لآل سعود، بالمقابل تستمر حكومة ماكرون في سياستها الاستغلالية المعهودة، مصرة على استمرار ارتزاقها غير المباشر من جرائم الحرب التي ترتكب في حق الشعب اليمني.

عرفت الأيام الأخيرة تحركا كبيرًا لدفع حكومة ماكرون كي تحذو حذو مثيلاتها في الاتحاد الأوروبي، وتجمد صفقات السلاح مع السعودية، قادته جمعيات مجتمع مدني

عرفت الأيام الأخيرة تحركًا كبيرًا لدفع حكومة ماكرون كي تحذو حذو مثيلاتها في الاتحاد الأوروبي، وتجمد صفقات السلاح مع السعودية. تحرك داخلي قادته جمعيات مجتمع مدني، على كلا الصعيدين الاحتجاجي والقضائي. بينما موقف الدولة لا زال صامدًا، رغم كل الدفوعات التي تبين استمرار غرق فرنسا داخل مستنقع الدم العبثي في اليمن.

اقرأ/ي أيضًا: السعودية عملاق تمويل الإرهاب في بريطانيا.. الفضيحة مستمرة

السعودية زبون كبير

"من يتحدث عن أن السعودية المستورد الأول للسلاح الفرنسي، فهو خاطئ"، هكذا علق إيمانويل ماكرون على سؤال صحفي حول صفقات السلاح مع المملكة العربية. فيما وصف الأمر بأنه ديماغوجية، وتسويق لفكرة خاطئة. في نفس الوقت، وذات الحوار يسقط الرئيس الفرنسي في مغالطة كبيرة، كون الكلمات التي تلت تصريحه كانت وبالحرف: "لدينا مع المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية، شراكة ثقة في المنطقة مهمة ولكن ليست تجارية". هكذا وبصريح العبارة، يقر ماكرون بكونه داعمًا أساسيًا لتحالف السعودية والإمارات، حيث لا يعتبره دعمًا تجاريًا، بل سياسيًا، وبشكل مضمر فهو لا ينفي تزكيته لجرائم الحرب التي ترتكب في اليمن.

عودة إلى مغالطة ثانية، حيث نفى ماكرون كون هذه الدول العربية أكبر زبون لصناعة السلاح ببلده، الذي ورد المملكة السعودية طلبيات أسلحة بقيمة 11 مليار يورو طيلة السنوات التسع الأخيرة، حسب تقارير البرلمان الفرنسي، ويفاوض ذات العميل على صفقة تسليح أخرى بقيمة 1.5 مليار يورو تهم خمس فرقاطات كورفيت من طراز Gowind. هذا ما يفسره مرصد ستوكهولم للسلام (SIPRI)، بأنه إعادة موقعة لفرنسا داخل خارطة أهم موردي السلاح العالميين، مع تجاهل طبيعة نظام العميل وخصائصه السياسية.

لا تقف الصفقات العسكرية السعودية/الفرنسية عند حد توريد السلاح، بل تتعداه إلى التكوين العسكري. هكذا تدرب فرنسا طيارين سعوديين، بهدف تحسين قدراتهم على التصويب حسب ما تعلن التقارير الفرنسية.

التبريرات الفرنسية.. من يستطيع التنبؤ بخسائر حرب اليمن؟

نفت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي أن تكون صفقات السلاح الفرنسي تجارية محضة، بل وحسب ذات المتحدثة، فإنها تخضع لمعايير عدة للموافقة على الزبون، بما فيها مراعاة حقوق الإنسان والحفاظ على الأمن والاستقرار بالعالم.  كان ذلك أثناء ردها على مساءلة برلمانية، حيث استرسلت في الشرح، أنه مع ذلك تحتاج القاعدة الصناعية للأسلحة الفرنسية للتصدير، مقرة من هذا المنطلق باستحالة تجميد اتفاقيات تصدير الأسلحة، لما له من أثر على هذه الصناعة والعاملين فيها.

في المقابل تعود إلى التبرير هذه المرة في حوار مع وكالة رويترز، مخلصة ذمة بلادها من أي متابعة بالتساؤل: "من يمكنه التنبؤ بخسائر اليمن؟"، تجيب ذات الوزيرة كون بلادها ليست مسؤولة عن كيفية استعمال هذه الأسلحة وأهدافها، وكون بلادها تسلم الأسلحة عبر صفقات يؤطرها القانون الدولي، لكن لا أحد يمكنه التنبؤ بما تؤول إليه الأمور على الأرض.

على ما يبدو أن الوزيرة الفرنسية سقطت في ذات التناقض المبدئي الذي وقع فيه رئيسها مسبقًا، بدرجة أخف، تكشر عن أنياب سياسة حكومة ماكرون، ووجها البراغماتي البشع والصريح، كونها لا تعبأ إلا بمكاسبها المادية، متجاهلة المأساة الإنسانية باليمن. مهما حاول زميلها، وزير الاقتصاد من ذات الحكومة، التبرير بدوره أن تصنيع الأسلحة في فرنسا ضرورة اقتصادية، مستنكرًا: "إذًا ما ضرورة إنتاج كل هذا الكم (من الأسلحة)، إذا لم تكن لبيعه!".

لا تبيعوا السعودية سلاحًا!

مع تزايد انتشار بشاعة جرائم التحالف السعودي/الإماراتي باليمن، أو كما صارت توصف دوليا بـ "أسوأ أزمة إنسانية في الوقت الراهن"، يزيد التنديد العالمي بقطع التسليح عن عساكرهم. تنديد يتصاعد، لكن لا يلقى استجابة قسم من الدول المصنعة للسلاح، كحالة فرنسا مثلا. في وقت لا زالت تحصد الحرب ضحايا، قدر عددهم منذ ابتدائها سنة 2015 ما بين 70 و80 ألف قتيل، مدنيون في معظمهم، عدا عن الملايين الذين هجروا وفرض عليهم النزوح، فاقدين لأدنى مقومات الحياة من ماء وغذاء، وتنخر بهم الأوبئة.

يبين تقرير صادر عن المفوضية الأممية العليا لحقوق الإنسان سنة 2018، وجود عمليات عسكرية للتحالف تمت بخرق صريح للقوانين الدولية، ودون احترام مبدأ تمييز الأهداف (مدنية/عسكرية) والذي تنص عليه اتفاقية جنيف 1949، والتي ترجح إدانة هذه القوات بارتكاب جرائم حرب، وفق ما سجله التقرير في النقاط الآتية:

  • الاستخدام العشوائي للأسلحة الثقيلة في مناطق سكنية، دون تمييز الأهداف.
  • قصف الأحياء السكنية، والأسواق، وحفلات الأعراس، والجنازات وتجمعات العزاء.
  • قصف مواقع محرمة حسب قائمة القانون الدولي.
  • تنفيذ ضربات مزدوجة لنفس الهدف خلال فارق زمني قصير.

مع ذلك لا زالت دول كفرنسا، وأمريكا والمملكة المتحدة، تزود قوات التحالف بالسلاح، خارقة بذلك ما تقر به المعاهدة الدولية لتجارة السلاح ATT، والتي تنص بالحرف على: أن المعاهدة تلزم الدول المصدرة للسلاح بتتبع صادراتها، وضمان أن لا تخرق هذه الصادرات الحظر الدولي لهذه التجارة، أو أن تستغل هذه الصادرات في جرائم ضد حقوق الإنسان، بما فيها الإرهاب.

على هذا القاعدة، أي نص المعاهدة الدولية لتجارة الأسلحة، تقوم تحركات المجتمع المدني الفرنسي، أبرزها جمعية العمل الأمني من أجل الأخلاق الجمهورية ASER، والتي تناضل من باريس لدفعها كي توقف بيع الأسلحة للسعودية. نضال هذه الجمعية يأخذ منحيين، الأول هو التظاهر الميداني، والثاني هو العمل القانوني على مستوى المحكمة والبرلمان الفرنسيين وكذلك على مستوى هياكل الأمم المتحدة، والتي تجد في ما ذكر آنفًا من جرائم ومظاهر دموية لكارثة الحرب على اليمن، سببًا كافيًا لقطع التعامل مع الدول المسؤولة، في حين ترى أن الدولة الفرنسية في إصرارها على استمرار هذه العلاقة التجارية تخرق القوانين الدولية والمعاهدة الدولية لتجارة الأسلحة.

المقاطعة الدولية

رغم هذا الإصرار العنيد للدولة الفرنسية في مشاركة السعودية جرائمها، قد عرفت الآونة الأخيرة استفاقة أخلاقية على المستوى الدولي، حيث قررت دول عديدة من مجتمع مصدري السلاح تجميد صفقاتها مع المملكة العربية. هكذا اتخذت ألمانيا قرار إلغاء كل عقود التسليح والمعدات اللوجيستية الأخيرة التي أبرمتها مع السعودية، كذلك النمسا التي قامت بالخطوة نفسها داعية المجتمع الأوروبي لأن يحذو حذوها. وبلجيكا التي ألغت ستة عقود تسليح، وإسبانيا حيث أوقفت تسليم 400 قنبلة موجهة بالليزر لقائد "التحالف العربي"، وفنلندا والدنمارك والنرويج الذين أقروا عدم بيع السلاح لكل من السعودية والإمارات.

اقرأ/ي أيضًا: شراء الوهم.. السعودية تتصدر قائمة مستوردي السلاح في العالم

هكذا صارت حلقة التسليح ضيقة على دول التحالف ضد اليمن، مع دعوات من هولندا إلى انتهاج سياسة أوروبية تعمم حظر بيع الأسلحة لهذه الدول، ومن بقي ممن يصر على تلطيخ يديه بالدماء البريئة، هو المعهود منه دائمًا تلطيخها والمقصود مثلث الشر: فرنسا، بريطانيا وأمريكا. بالمقابل لم تشمل خطوات تضييق الخناق على السعودية في أوروبا مجال التسليح فقط، بل تأبى حتى أوبرا "لا سكالا" بميلانو الإيطالية أن تكون جزءًا من هذا العار.

يبين تقرير صادر عن المفوضية الأممية العليا لحقوق الإنسان سنة 2018، وجود عمليات عسكرية للتحالف السعودي تمت بخرق صريح للقوانين الدولية، ودون تمييز الأهداف العسكرية والمدنية

فقد قررت دار الأوبرا الإيطالية المرموقة أن تمنع محاولات اختراقها المستمرة من المال السعودي، وتلطيخ تاريخها العريق وقيمتها الثقافية بهذا التدخل، والذي كان يجري في الخفاء بعلة إقحام وزير الثقافة السعودي في مكتب إدارة الدار، وبالتالي رفضت هبة سعودية تقدر بـ 3.4 مليون دولار، نقلًا عن وكالة رويترز للأنباء.