18-يونيو-2018

قد يحدد الصراع على إرث الإسكندر الأكبر مستقبل المنطقة الأوروبية (Getty)

كان الصراع بين اليونان وجمهورية مقدونيا اليوغسلافية السابقة على إرث الإسكندر الأكبر في أوجه، ومتصلًا بمستقبل العلاقات بين البلدين وربما في منطقة اليورو جميعها. حيث ترفض اليونان أن تًسمى جارتها الشمالية باسم مقدونيا، بسبب إصرارها على أن التاريخ المقدوني هو جزء من التاريخ اليوناني القديم، وتتمسك مقدونيا اليوغسلافية بدورها بهذا التراث، بينما عطل الخلاف انضمام الدولة الصغيرة إلى الاتحاد الأوروبي، وكذلك إلى حلف الناتو، وتحول إلى ملف من ملفات الصراع البارزة في العالم.

ووقعت الدولتان أمس الأحد، اتفاقية تاريخية لإعادة تسمية مقدونيا بجمهورية شمال مقدونيا، وهو ما قد يضع حدًا للنزاع الذي أفسد العلاقات بين البلدين منذ عقود. وقال رئيس الوزراء اليوناني، الكسيس تسيبراس، عند توقيع الاتفاق: "هذه خطوة شجاعة وتاريخية وضرورية لشعوبنا. إننا هنا لشفاء الجراح وفتح طريق للسلام والاخوة والنمو لبلداننا والبلقان وأوروبا".

وكان كبار مسؤولي الاتحاد الأوروبي حاضرين في حفل التوقيع. وقالت مفوضة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، "إنه يوم جيد للغاية بالنسبة للبلدين، وهو أيضًا يوم جيد للاتحاد الأوروبي وأوروبا ودول البلقان". وأضافت "نحن هناك بفضل التفاني والالتزام والشجاعة والقيادة والأمل اللذين وضعهما رئيسا الوزراء في هذه العملية". وعندما حصلت مقدونيا على استقلالها عن يوغسلافيا سلميًا في عام 1991، رفضت اليونان اسمها، قائلة إنها تعزز الطموحات الإقليمية نحو اليونان. حيث إن الأخيرة لديها أيضًا منطقة تسمى مقدونيا، تقع في الجزء الشمالي من البلاد وتضم ثاني أكبر مدينة في اليونان، وهي سالونيك، بالإضافة إلى مواقع أثرية مصنفة في قائمة التراث العالمي لليونسكو. يطل "ألترا صوت" في هذا التقرير المترجم بتصرف عن مجلة "نيوزويك" الأمريكية على تاريخ هذا الخلاف والآفاق التي فتحت أمامه.


للوهلة الأولى يبدو الأمر وكأنه جدال تافه حول اسم أو صفة، لكنه في الحقيقة ينطوي على صراع حول من له الحق في المطالبة بإرث الإسكندر الأكبر. وليس هناك شيء أهم يمكن أن يتعرض للخطر من مستقبل بلد ما، وربما منطقة بأكملها.

ترى اليونان التي تعتمد كثيرًا على تاريخها القديم في قطاع السياحة، بأنه لا يجب السماح لجارتها باستخدام اسم مقدونيا 

لقد أدى النزاع الذي بدأ في أوائل التسعينات بين اليونان، مهد الديمقراطية والعضو القديم في الاتحاد الأوروبي، وجارتها الصغيرة الشمالية، إلى تعثر قدرة البلد المجاور على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وهو التحالف الدولي الأمني الأول في العالم. ودار النزاع حول ما إذا كان يجب أن يطلق على جمهورية مقدونيا اليوغوسلافية السابقة (FYROM) اسم جمهورية مقدونيا فقط، كما يفعل سكانها والعديد من المراقبين الدوليين، أم يجب أن يكون لها اسم آخر.

رأت اليونان التي تعتمد كثيرًا على تاريخها القديم في قطاع السياحة، بأنه لا يجب السماح لجارتها باستخدام اسم مقدونيا لأن اللقب محجوز للجزء الشمالي من البلد الذي يُعتقد أن الإسكندر الأكبر قد ولد فيه قبل 25 قرنًا. ويزعم كلا البلدين أن الإسكندر جزء من تراثهما التاريخي، وقد أثار هذا النزاع المشاعر الوطنية والقومية ودفع المتظاهرين اليونانيين للسير في الشوارع مرتدين خوذات ودورع مثل تلك التي يقال إن القائد العسكري الأسطوري كان يرتديها. وقام مئات الآلاف من المتظاهرين في مناسبات عديدة بمسيرة في المدن اليونانية وهم يرفعون الأعلام ويرددون "مقدونيا هي اليونان" والاسم "في روحنا".

وأشار البعض أن السماح للبلد البلقاني الصغير باستخدام اسم مقدونيا سيشجعه على المطالبة بأجزاء إقليمية من شمال اليونان. وقد تم التعبير عن هذه المخاوف في أوقات كثيرة، بالرغم من أن جيش مقدونيا شديد الضآلة مقارنة بجيش اليونان، إذ يحتل الجيش العسكري اليوناني المرتبة 28 من بين 136 دولة بحسب مؤشر قوة الجيوش للعام 2018، في حين تحتل مقدونيا المرتبة 118.

وفي الوقت ذاته، انطلق متصيدو الإنترنت (اللجان الإلكترونية أو Trolls) لمهاجمة أي معلق يقول إنه يجب تسمية البلد البلقاني غير الساحلي والذي يبلغ عدد سكانه 2.1 مليون نسمة باسم مقدونيا.

اقرأ/ي أيضًا: اليونان.. درس بناء الثقة بين اليسار والجماهير

وكتب أحد مستخدمي تويتر، ويُدعى أنجيلو في 6 من نيسان/أبريل تغريدة يقول فيها: "توقفوا عن تسمية هذا البلد مقدونيا. مقدونيا هي اليونان وستظل دائمًا هي اليونان. إن الاسم مقدس ولا يمكن إعطاؤه للدولة الجديدة".

أشار البعض أن السماح للبلد البلقاني الصغير باستخدام اسم مقدونيا سيشجعه على المطالبة بأجزاء إقليمية من شمال اليونان

في نفس الوقت، شاركت مقدونيا في التصيد الإلكتروني بطريقتها الخاصة. إذ قامت حكومة رئيس الوزراء القومي السابق نيكولا جرويفسكي، التي فقدت السلطة في أوائل عام 2016 عقب عمليات التنصت على المكالمات الهاتفية، والرشوة، وفضائح تزوير الانتخابات، ببناء تماثيل للإسكندر الأكبر ووالديه في أماكن كثيرة من العاصمة إسكوبيا. وسميت الطرق السريعة والمطارات أيضًا باسم الإسكندر الأكبر، في ما بدا أنه رسالة واضحة إلى اليونان بأن مقدونيا لن تتراجع عن موقفها في قضية الاسم.

بالنسبة لكلا البلدين فإن "النزاع القائم حول الاسم"، كما هو معروف في الدوائر الدبلوماسية الدولية، كان مسألة وجودية ملحة تضرب في صميم هوياتهما الوطنية.

كما كان لهذا النزاع تبعات واضحة على مقدونيا وعلى الاستقرار في المنطقة. فقد عرقلت اليونان محاولة انضمام مقدونيا إلى حلف الناتو سنة 2008، وأعاقت عملية انضمام مقدونيا للاتحاد الأوروبي على مدى عقد من الزمان.

أصبحت مقدونيا عضوًا في الأمم المتحدة سنة 1993، بعد مرور حوالي عام على حصولها على الاستقلال من يوغوسلافيا. ولكن عدم توصل مقدونيا إلى اتفاق مع اليونان بشأن قضية الاسم، عنى غياب أي أمل لها في الانضمام إلى المنظمات الرئيسية الأخرى التي تشكل المجتمع الدولي.

وقال جيمس كير ليندسي الخبير في شؤون البلقان في كلية لندن للاقتصاد لمجلة نيوزويك: "سُمح لجمهورية مقدونيا بالانضمام إلى الأمم المتحدة تحت اسم مؤقت: جمهورية مقدونيا اليوغوسلافية السابقة (FYROM). وفي الوقت نفسه، عينت الأمم المتحدة وسيطًا في محاولة منها لحل النزاع. في السنوات التي تلت ذلك، عرف معظم أعضاء الأمم المتحدة البلد باسم جمهورية مقدونيا".

وأضاف أنه "بالرغم من ذلك تمكنت اليونان من منع عضوية مقدونيا في الهيئات الدولية الأخرى حتى يتم حل قضية الاسم، هذا بالرغم أن أثينا وافقت رسميًا على عدم فعل ذلك ضمن اتفاق يقضي بانضمام مقدونيا إلى الأمم المتحدة، لهذا السبب يجب الوصول إلى تسوية نهائية".

وبدا قبل أيام أن البلدين على وشك إيجاد حل لمشكلة الاسم. حيث التقى وزير الخارجية المقدوني نيكولا ديميتروف بنظيره اليوناني، نيكوس كوتزيا، في شهري آذار/ مارس ونيسان/ أبريل خمس مرات على الأقل لإيجاد حل. وأعلنت المفوضية الأوروبية يوم الثلاثاء أنها ستدعم عملية انضمام مقدونيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهو مؤشر واضح على أن بروكسل ترى أن مسألة الاسم ستحل قريبًا.

وقال ديميتروف لمجلة نيوزويك: "أرى الوزير اليوناني نيكوس أكثر من غيره. من الواضح جدًا أننا نمثل بلدين مختلفين وموقفين مختلفين، لكن أشعر أحيانًا أننا على نفس الجانب لأننا نريد حل هذه المشكلة ونواجه نفس المشكلة المتمثلة في وجود قوى في مجتمعاتنا ترغب في دفع النقاش إلى الاتجاه الآخر".

وتابع أنه "في مقدونيا، نشعر أن هناك حاجة ملحة لإنهاء هذا الأمر. من الرائع أن نتحدث عن التاريخ ونفخر بتاريخنا، ولكن حان الوقت للتعامل مع الحاضر والمستقبل".

ورفض ماثيو نيميتز، مفاوض الأمم المتحدة، التعليق على المفاوضات، ولم يستجب وزير الخارجية اليوناني كوتزياس لطلبات التعليق.

لجأت الحكومة الجديدة في مقدونيا بقيادة رئيس الوزراء زوران زاييف، إلى لهجة أكثر توافقيّة من التي اتخذها سلفه. إذ أعيدت تسمية المطار، وقال زاييف إنَّه مستعد لإعادة تسمية الطريق السريع، بالإضافة إلى إزالة تماثيل الإسكندر الأكبر. لكنَّ الأهمّ هو أنَّه اقترح أربعة أسماء بديلة للبلاد، وهي: جمهورية شمال مقدونيا، وجمهورية مقدونيا العليا، وجمهورية فاردار مقدونيا، وجمهورية مقدونيا (إسكوبية).

سيعترض القوميّون اليونانيّون المتطرّفون على استخدام اسم (مقدونيا) بالأساس. لكنّ المفاوضات التي كانت قد أُهملت لسنوات، قد انطلقت مجدّدًا.

وقال ديميتار بيشيف، وهو محلّل لشؤون دول البلقان لمجلة نيوزويك: "تولّى زاييف السلطة بعد انتخابات صعبة، وكان قد وعد بإعادة محاولات الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي. وهو أمر مهم للكتلة الألبانيّة، التي اصطفت بجانبه قبل عامٍ، وكذلك بالنسبة للمتظاهرين الذين احتجوا على الرئيس المقدونيّ غرويفسكي لما يزيد على عامين". وأضاف أنه "وعلى عكس ما كان عليه الوضع في التسعينيّات، باتت اليونان اليوم أكثر قبولًا لاسمٍ مركّب للدولة المجاورة يحتوي على مقدونيا".

يعترض القوميّون اليونانيّون المتطرّفون على استخدام اسم (مقدونيا) بأي شكل

كان ديميتروف هو من ردّد الاعتقاد القائل بأنَّ النزاع الذي استمرّ طويلًا يمكن حلّه قريبًا، فقد أشار إلى أنَّ البلدين يعملان سويًا عن قرب للوصول إلى تسوية.

وقال ديميتروف لنيوزويك: "الغاية هي تحقيق تمييز واضح بين دولة مقدونيا ومنطقة مقدونيا في اليونان، والوصول إلى ذلك بطريقة لا تقلّل من عظمة وهويّة كلا الطرفين وكلا الشعبين". وعلى الرغم من التقدّم الجاري، أشار بعض الخبراء إلى أنَّ تفاصيل الموضوع الأكثر تعقيدًا وصعوبة هي تلك التي تأتي في نهاية المفاوضات.

وبين كير ليندسي متحدّثًا لمجلة النيوزويك، أنه "على الرغم من أنَّ مشكلة اسم مقدونيا تتعلّق في الأساس باسم البلد، إلا أنَّ الأمر ليس بهذه البساطة. توجد في الواقع ثلاث قضايا جوهريّة بحاجة إلى حلّ".

وتابع كير ليندسي: "تريد اليونان أن يستند الاسم الجديد للبلد على اللغة المقدونيّة. أي أنَّه حتى لو كان الاسم المختار هو مقدونيا الجديدة فيجب أن يظل اسم الدولة بالإنجليزية (جمهورية نوفا مقدونيا)". وأضاف "أما المشكلة الثانية، التي قد تكون الأكثر تعقيدًا، فهي الصفة التي ستوضع بجانب اسم الدولة بعد الوصول إلى حلّ. فعلى الرغم من استعداد الكثير من المقدونيّين لتغيير اسم الدولة، إلا أنهم سيكونون أكثر استياءً تجاه إعادة تعريف أنفسهم على أنَّهم من (مقدونيا العليا)، أو القول بأنَّ لغتهم هي على سبيل المثال (المقدونيّة الجديدة)". وفي الواقع، رفض بعض المقدونيّين فكرة أنَّه يتوجّب على المجتمع الدولي الإشارة إلى بلادهم حسب اسمها في اللغة المقدونيّة.

وقال ميتوديجا كولوسكي، رئيس منظّمة United Macedonian Diaspora التي يقع مقرّها في واشنطن، لمجلة نيوزويك: "تريد اليونان أن تُسمَى مقدونيا بـ (ريبابليكا غورنا مقدونيا Republika Gorna Makedonija)، أي بدون ترجمة للاسم. جرّب أن تلفظه!".

ثمّ هناك المشكلة الثالثة الشائكة التي تتعلق بإن كان يجب أن يكون للبلد اسمان. يقول المقدونيّون بوجوب أن يكون هناك اسمان، الاسم الجديد المتّفق عليه، واسم "جمهورية مقدونيا"، وهو الاسم الذي يظهر في دستور الدولة، والذي يمكن أن يُستخدم داخل البلاد، أو من قِبل الدول التي سبق لها أن اعترفت بالاسم، بما فيها الولايات المتّحدة.

اقرأ/ي أيضًا: في مقدونيا.. حدود بين ريتا وطفولتها

ويشير كولوسكي إلى أنَّ "اليونان تريد أن يتغيَّر الدستور المقدونيّ، وتريد من مقدونيا أن تعدّل كتب التاريخ المدرسيّة. وهذا أمرٌ غير مقبول. تمتلك مقدونيا الحقّ الكامل في تقرير مصيرها طبقًا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان وجميع الاتفاقيات الأوروبيّة".

ويضيف كولوسكي أنه "بالنظر إلى أنَّ 137 دولة تعترف بدولة مقدونيا باسم مقدونيا، فإنَّ أفضل حلٍّ هو أن تنسحب مقدونيا من مفاوضات التسمية، وتدعو الأمين العام للأمم المتّحدة إلى أن يلغي منصب المبعوث الخاص الذي يعمل على حل هذا النزاع، وأن تلحّ من أجل الوصول إلى قرار من الجمعية العامّة يسمح لمقدونيا بأن تنال الاعتراف الدبلوماسيّ الكامل في الأمم المتحدة".

وقد رفضت الحكومة المقدونيّة كما هو متوقّع فكرة تغيير الدستور. وقال كير ليندسي لنيوزويك: "تصرّ اليونان في المقابل على ضرورة استخدام الاسم في جميع الأحوال والظروف. إذ لا يمكن أن يكون هناك اسمان". ويضيف أنه "يمكن أن نذكر هنا أنَّ الموقف اليونانيّ بالنسبة لهذه النقطة الأخيرة يتّفق كليًّا مع القانون الدوليّ العرفيّ السائد".

واتفق العديد من الخبراء على أنَّه لو لم تحلّ هذه المشكلات قريبًا، فإنَّ أثر ذلك سوف ينعكس على المنطقة، إذ إنَّ انضمام مقدونيا لدول الاتحاد الأوروبيّ سيبقى متوقّفًا. وأضاف ديميتروف إنَّ جيلًا كاملًا من المقدونيّين قد ضاع عمره وهو ينتظر، فالانضمام إلى الاتحاد الأوروبيّ سيؤدي إلى تطوّر اقتصاديّ وفرص ستكون ذات فائدة بالنسبة للشباب المقدونيّين.

تريد اليونان أن يتغيَّر الدستور المقدونيّ، وتريد من مقدونيا أن تعدّل كتب التاريخ المدرسيّة

وقال بيشيف لنيوزويك: "أبقت مشكلة الاسم مقدونيا طيّ النسيان منذ عام 2008. صحيحٌ أنَّها لم تؤدِ إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة لكنَّها وضعت البلاد في عزلة، وأدت إلى زيادة الفساد، واستيلاء القوميّين على الدولة". وتابع: "كما أنَّها مشكلة كدّرت السياسية اليونانيّة لسنوات. كان رئيس الوزراء كونستانتين ميتسوتاكيس السابق قد أُسقِط من منصبه في عام 1993 بسبب هذا الأمر".

 

اقرأ/ي أيضًا:

مقدونيا.. بوابة أوروبا المغلقة أمام السوريين

عزف في أثينا