حالة من الترقب تُخيم على المشهد الفلسطيني في أعقاب العراقيل التي يضعها رئيس حكومة الاحتلال، المُقاد من اليمين المتطرف، بنيامين نتنياهو، أمام اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، والذي دخل حيز التنفيذ في 19 كانون الثاني/يناير الماضي، وسط حالة من الانقسام بشأن استقراء مستقبل الصفقة، ما بين المضي قدمًا في العناد والصلف ونسف الهدنة من جذورها، أو الرضوخ للضغوط واستكمال بقية مراحلها.
مراوغات إسرائيلية لعرقلة الصفقة
وبحسب الاتفاق، الذي يتألف من ثلاث مراحل متتالية، يمتد كل منها 42 يومًا، يكون التفاوض على المرحلة التالية قبل استكمال المرحلة الجارية، وعليه، كان يُفترض أن تنطلق مفاوضات المرحلة الثانية في الثالث من شباط/فبراير الجاري، إلا أن نتنياهو ماطل وراوغ وناور كثيرًا لعرقلة عملية المباحثات، مكتفيًا بإرسال وفد تقني شكلي إلى الدوحة وآخر إلى القاهرة لا يملك أي صلاحيات، فقط مشاركة من باب الحضور الشرفي الذي يمتص به غضب الوسطاء ويُرضي الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومبعوثه للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف.
ماطل نتنياهو وراوغ وناور كثيرًا لعرقلة عملية المباحثات، مكتفيًا بإرسال وفد تقني شكلي إلى الدوحة وآخر إلى القاهرة لا يملك أي صلاحيات
ومع اقتراب المرحلة الأولى من نهايتها، وجد نتنياهو نفسه في مأزق كبير، يضع مستقبله السياسي على المحك، ويحوّل مزاعم الانتصار المطلق التي اعتاد ترديدها لتخدير الرأي العام الإسرائيلي إلى كابوس يؤرقه، خاصة بعد الرسائل والرمزيات التي بعثت بها المقاومة من خلال مشاهد تسليم الأسرى، والتي نسفت كافة المكاسب التي توهم نتنياهو وجنرالاته ومجلسه المصغر أنهم حققوها على مدار 470 يومًا من الحرب، وفضحت سردياته المضللة، وأسقطتها من دائرة التصديق.
نتنياهو بين المطرقة والسندان: صفقة الأسرى أم انهيار الائتلاف؟
بالعودة إلى الوراء قليلًا، نجد أن نتنياهو ما كان ليقبل إبرام الاتفاق، صاغرًا، إلا بعد أن تيقن من العجز الكلي والفشل التام في تحقيق أي من أهداف الحرب المعلنة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وهي القضاء على حماس، تحرير المحتجزين، ضمان ألا يشكل قطاع غزة تهديدًا للداخل الإسرائيلي، إضافة إلى الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة عليه لوضع حد لهذه الحرب التي باتت بلا رؤية ولا هدف، وتحولت إلى حرب استنزاف للجيش الإسرائيلي، الذي تكبد من الخسائر ما لم يتكبده منذ أن وطأت أقدامه التراب الفلسطيني في خمسينيات القرن الماضي.
وبينما كان نتنياهو يجتمع بمجلس حربه المصغر لمناقشة اتفاق وقف إطلاق النار، كانت الشاشة أمامه مقسمة إلى قسمين: الأول، تحرير المحتجزين الإسرائيليين من قبضة المقاومة، هربًا من ضغوط عائلات الأسرى والمعارضة المتزايدة ضده، والثاني، مستقبل ائتلافه الحكومي إذا ما رضخ وأبرم الاتفاق، الذي وصفه وزراء اليمين المتطرف بـ "الهزيمة المذلة"، مع تلويحهم بالانسحاب حال الموافقة عليه.
مناورة سياسية: إجهاض الصفقة قبل أن تكتمل
حاول رئيس الحكومة المأزوم، بما يجيد من لغة المراوغة واستراتيجيات المناورة، الإمساك بالعصا من المنتصف، حيث قسّم الاتفاق إلى مراحل، رافضًا سياسة "الكل بالكل" التي طرحتها المقاومة، ليمنح نفسه فرصة لتقييم المشهد، فإذا كانت الأمور في صالحه، استمر، وإن لم تكن كذلك، انقلب على الهدنة بعد انتهاء المرحلة الأولى، بعد أن يكون العدد الأكبر من الأسرى الأحياء قد تم إطلاق سراحهم وفق بنود الاتفاق.
ورغم الانتهاكات المتكررة والخروقات التي ارتكبها الاحتلال للهدنة، إلا أن المقاومة، بما أبدته من مرونة سياسية، ابتلعت تلك الانتهاكات لإبقاء الاتفاق حيًّا، وتجنبًا للعودة إلى القتال مرة أخرى، وهو ما فوّت الفرصة أكثر من مرة على الحكومة الإسرائيلية لنسف الاتفاق، في ظل تصاعد الضغوط الداخلية والخارجية.
استشعر نتنياهو أن البساط يُسحب من تحت أقدامه، وأن سياسة المناكفة مع المقاومة لم تؤتِ ثمارها، وأن المرحلة الأولى أوشكت على الانتهاء، وعليه أن يُحدد موقفه بشأن مفاوضات المرحلة الثانية، وهو ما وضعه في مأزق حقيقي، بين اليمين المتطرف، الذي يهدد بالانسحاب من الحكومة، وعائلات الأسرى، التي أدركت من خلال شهادات الأسرى المفرج عنهم أن الحكومة هي المعرقل الأساسي للاتفاق، والمتسبب الأول في تعريض حياة أبنائهم للخطر.
من هنا، كان لا بد من قلب الطاولة، وافتعال أزمة جديدة تنسف أجواء التهدئة التي بدأت تخيم على المشهد في غزة، فجاء قرار إرجاء الإفراج عن الدفعة الأخيرة من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال ضمن المرحلة الأولى من الاتفاق، بالتزامن مع تجميد مسار المفاوضات بشأن المرحلة الثانية، وتسطيحها وتهميشها، وخلق حالة من التوتر الميداني عبر الحشد العسكري في غلاف غزة والتلويح بإمكانية استئناف الحرب في أي وقت.
ورقة ترامب: طوق نجاة لنتنياهو أم تعقيد للأزمة؟
وسط هذا المشهد الملتهب، منح ترامب صديقه نتنياهو جرعة من الأمل، بعد أن حُشر الأخير في زاوية ضيقة تحت وطأة الضغوط، وذلك عندما أطلق قنبلته حول تهجير الغزيين وتدويل القطاع وتوسيع الرقعة الاستيطانية لإسرائيل، وهي الهدايا التي أبقت على ائتلاف نتنياهو، الذي كان على وشك الانهيار، وعززت حضوره في الداخل الإسرائيلي.
بقرار إرجاء الإفراج عن الدفعة الأخيرة من الأسرى الفلسطينيين، يكون نتنياهو قد وضع العربة أمام الحصان في مسار المفاوضات بشأن المرحلة الثانية من الاتفاق، مستفيدًا من الدعم المطلق الذي حصل عليه من ترامب، الذي حرضه على نسف الاتفاق وأعلن تأييده الكامل لأي قرار تتخذه إسرائيل، وهو ما مثل ضوءًا أخضر لنتنياهو لعرقلة الدخول في مفاوضات المرحلة الثانية.
لكن يبقى السؤال: ما دوافع نتنياهو لتعطيل الصفقة؟
منذ البداية، كان واضحًا أن مفاوضات المرحلة الثانية ستكون أكثر صعوبة وتعقيدًا من الأولى، إذ تنطوي على قضايا محل خلاف داخل الحكومة الإسرائيلية. وعكست الخروقات والانتهاكات التي ارتكبها الاحتلال خلال المرحلة الأولى نواياه المبيتة لإفشال الاتفاق، خصوصًا بعد الزلزال السياسي الذي أحدثه داخل الائتلاف الحاكم، وما تبعه من انسحابات وزارية وتهديدات بإسقاط الحكومة. أمام هذا الوضع المتأزم، كان على نتنياهو أن يناور للحفاظ على بقائه السياسي بأي ثمن، محاولًا احتواء الضغوط التي يمارسها اليمين المتطرف، الذي هدد بالاستقالة وإسقاط الائتلاف، وهو ما يعني سقوطه في النهاية في مستنقع المحاكمات بتهم الفساد التي تلاحقه.
في الوقت ذاته، سعى رئيس حكومة الاحتلال إلى التهرب من التزامات المرحلة الثانية، والتي تتضمن بنودًا تعتبرها إسرائيل "هزيمة مذلة"، مثل إنهاء الحرب، ووقف إطلاق النار بشكل دائم، والانسحاب الكامل من قطاع غزة، فضلًا عن الإفراج عن أسرى بارزين، على رأسهم مروان البرغوثي وأحمد سعدات، وهي شروط من شأنها أن تعمّق الانقسام داخل حكومته، وتضعفه أمام خصومه السياسيين. كذلك، أدرك نتنياهو أن استمرار مشاهد تسليم المحتجزين الإسرائيليين بتلك الطريقة التي أظهرت المقاومة في موقع قوة، وشكّكت في مزاعم الاحتلال حول "الانتصار المطلق"، يمثل ضربة قاسية للدعاية الإسرائيلية، ما جعله يسعى بكل السبل لوقف هذه المشاهد بأي وسيلة ممكنة.
إلى جانب ذلك، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بحاجة إلى مزيد من الوقت لتقييم الموقف السياسي في الولايات المتحدة، خاصة بعد الطرح الأميركي الداعم لتهجير أهالي غزة، والضوء الأخضر الذي منحه ترامب لإسرائيل لمواصلة عدوانها دون عوائق.
كان واضحًا أن مفاوضات المرحلة الثانية ستكون أكثر صعوبة وتعقيدًا من الأولى، إذ تنطوي على قضايا محل خلاف داخل الحكومة الإسرائيلية
ماذا بعد؟
في ظل هذا السياق، وجد نتنياهو في تسويف المفاوضات أداة ضغط مثالية، يمكن من خلالها استغلال الوضع الراهن لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، سواء من خلال استمرار سياسة الابتزاز، أو من خلال تمديد المرحلة الأولى لأطول فترة ممكنة، بحيث يضمن الإفراج عن مزيد من الأسرى الإسرائيليين دون الاضطرار إلى الالتزام بالبنود الأساسية للمرحلة الثانية، التي تتطلب انسحابًا كاملًا ووقفًا دائمًا لإطلاق النار.
ورغم تراجع احتمالات استئناف الحرب مرة أخرى، خاصة بعد فقدانها لرؤيتها وأهدافها، فإن وجود شخصية مثل ترامب على رأس الإدارة الأميركية، وعقلية مثل نتنياهو على رأس الحكومة الإسرائيلية، يجعل جميع السيناريوهات محتملة، وبنسب ربما تكون متقاربة، ما يفرض على الوسطاء والدبلوماسية العربية مسؤولية مضاعفة لنزع فتيل الأزمة قبل اشتعالها من جديد.