14-مايو-2018

الكتابة باختصار، موجودة دائمًا، ومُلحة دائمًا (أندريا يوتشيني/ الغارديان)

نشرت الروائية الإيطالية إيلينا فيرانتي، في صحيفة الغارديان، نصًا بديعًا عن الكتابة كسلطة طاغية على النفس، تفوق في إلحاحها وحضورها الدائم، أي شيء آخر في الحياة، بما في ذلك، للأسف، الأحباء. في السطور التالية ننقل لكم نصها مترجمًا بتصرف.


إذا شعرت بحاجة للكتابة، فيجب عليك حتمًا أن تكتب. لا تثق في أولئك الذين يقولون لك: "لمصلحتك؛ لا تضيع وقتك في هذا"، إذ إن حيلة التثبيط بالكلمات اللطيفة، من بين أكثر الأساليب انتشارًا.

إذا شعرت بحاجة للكتابة، فيجب عليك تلبية هذه الحاجة، دون الالتفات إلى المثبطين أو الكلاشيهات المعتادة حول الكتابة والكُتّاب

ولا يجب عليك كذلك أن تثق فيمن يقول لك ردًا على رغبتك في الكتابة: "ما زلت شابًا تنقصك الخبرة. يجب عليك الانتظار"، إذ لا يجب علينا تأجيل الكتابة حتى نُعمّر بما يكفي أو نقرأ المزيد، أو أن يُصبح لدينا مكتب خاص في غرفة خاصة، أو حتى أن نمر بتجارب كثيفة غير مسبوقة، أو نعيش في انعزال عن العالم، أو أي شيء من الكلاشيهات المعتاد تكرارها حول الكتابة.

اقرأ/ي أيضًا: الكتابة ومساوئ التصنيف

أما فيما يخص نشر ما تكتبه، فبالتأكيد يمكن تأجيل ذلك. بل في الحقيقة يمكن أن نقرر ألا ننشر على الإطلاق ما نكتبه، لكن الكتابة في حد ذاتها لا يجب تأجيلها لوقت لاحق بأي شكل من الأشكال.

حين تكون الكتابة طريقتنا للوجود في العالم، فإنها تلح علينا، مُشددة على حضورها الطاغي على كافة جوانب الحياة الأخرى التي لا تعد ولا تحصى كالحب والدراسة والعمل، وغيرها. تلح علينا الكتابة في أي وقت، حتى في الأوقات التي لا يكون بحوزتنا فيها قلم وورقة أو أيًا كانت وسيلة الكتابة.

نحن الذين تُسيطر الكتابة علينا، نعبد الكلمة المكتوبة، إذ تُملي علينا عقولنا الجُمل والعبارات، حتى في غياب الأدوات التي نحتاجها لنسجل بها ما تفيض به أذهاننا. 

إن الكتابة باختصار، موجودة دائمًا، ومُلحة دائمًا، وقد تُبعد عنا أي شيء آخر، حتى الذين نُحبّهم، حتى أولادنا الذين يطلبون منّا اللعب معهم، ويحتاجون منّا الاهتمام بهم.

لدى الكتابة سلطة طاغية، تُبعدنا عن الأحباء، وتقربنا أكثر من ذواتنا (أندريا يوتشيني/ الغارديان)
للكتابة سلطة طاغية، تُبعدنا عن الأحباء، وتقربنا أكثر من ذواتنا (أندريا يوتشيني/ الغارديان)

بالطبع يصيبنا الشعور بالذنب، لكن لاحقًا، عندما نفرغ من الكتابة، إذ لو خالجنا هذا الشعور مبكرًا دون أن نقدر على كبته، ولو تركنا السيادة لمسؤوليتنا العاطفية، فقد يعني هذا أن الكتابة لا تملك سلطتها الكافية علينا. وبالمقياس المعتاد، سنكون حينئذ أفضل من الفنانين والمبدعين، الذين هم في نظر الآخرين مغرورون وممتلئون بأنفسهم، ومتمركزون حول ذواتهم، وهم في الحقيقة رهن لما يُلَح به عليهم داخليًا.

لكن عليك الانتباه، فالإلحاح الداخلي، وثورة النفس الراغبة في البوح بالكتابة، الرغبة الجامحة في السرد الكتابي، ذلك لا يعني بالضرورة إنتاج عمل كتابي جيد. فحتى لو امتلكنا النداء الداخلي للكتابة، فالكتابة في حد ذاتها لا تنتج عملًا مُذهلًا، ولا يجب أن تنتظر ذلك إن كنت راغبًا في تلبية نداء حاجتك للكتابة فورًا.

وبإمكان المرء أن يكون ناجحًا لو أنّه حوّل لهيب الكتابة المشتعل بداخله، إلى عمل مُربح. لكن مع ذلك، ليس بوسع أحد على الإطلاق أن يحتوي الكتابة ضمن إطار مهني يجمعها بالسيرة المهنية والراتب والعلاوات.

إن  النجاح، والهيبة التي تصاحب هذا النجاح، ليسا دليلًا على أي شيء فيما يخص الكتابة، خاصةً لو أن طموحات المرء الأدبية مرتفعة، فيظل الكاتب المشغول بهم الكتابة، في حالة من عدم الرضا، سواءً كان ناجحًا أم لا. ستظل الكتابة تذكرنا بأنها أداة تمكننا من استخراج المزيد من ذواتنا، لأنفسنا، وربما للآخرين أحيانًا. 

رغبتنا الجامحة في الكتابة لا تعني بالضرورة إنتاج عمل كتابي جيد، فالكتابة في حد ذاتها لا تنتج أعمالًا مذهلة بقدر ما هي بوح عن النفس

ستظل الكتابة، وما تعبّر عن من رغبتنا في سبر أغوار ذواتنا، هاجسًا مصاحبًا، مع نوع من اليأس ربما، وعلى مدار حياتنا. وإذا ما أخبرنا الآخرون بأن هذا يكفي، وأننا قد قدمنا كل ما يمكن تقديمه، فإننا لن نثق في هذا القول، ولا يجب علينا أن نثق أبدًا، حتى نلفظ آخر أنفاسنا. سنظل رهنًا للشك الدائم في أنّ المزيد من داخلنا يستحق البحث، والتعبير عنه، والتفكير فيه بالكتابة.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

وحش "الكلام الفارغ".. أو لماذا صرت أخاف من الكتابة

فرانز كافكا: هل يساعدنا الأرق على الكتابة؟