19-أغسطس-2016

من سلسلة أعمال الأوديسة السوداء لـ روماري بيردن/ أمريكا

المرة الأولى على الأرجح كانت صرخة، فكل المرات الأولى تكون صرخات مدويّة، أو مرتجفة. على الأغلب كانت الصرخة لأحد أبطال هوميروس، عندما أرادت الآلهة أن تغرق البشر بالطوفان، ربما غضب إنسان ما، وربما صعد إلى قمة جبل، حاملًا معه حنق البشر على الوجود، على الآلهة، على الحرية التي منحتهم إياها الآلهة ثم غضبت عليهم بسببها، وصرخ: أنتم من منحتمونا الحريّة، لم تغرقوننا؟

آلاف البشر الذين يرتجفون خائفين في زوايا هذا العالم، ويكتبون تلك الكلمة المقدسة على جدران الوجود

الثانية كانت لصمويل بيكيت، أما الثالثة والتي يعرفها الجميع  فكانت لباسم صبري. وبين كل واحدة والأخرى الآلاف منها. آلاف البشر الذين يرتجفون خائفين في زوايا هذا العالم، ويكتبون تلك الكلمة المقدسة على جدران الوجود.
كم المدة الزمنية الفاصلة بين أول إيلوثيريا (كلمة إغريقيّة تعني الحريّة) وهذه؟ هل تغيّر شيء؟ هل أصبحنا أحرارًا يا ترى؟ ما الحريّة أصلًا؟ ولماذا نريدها؟ ماذا سنفعل بها؟

اقرأ/ي أيضًا: باسكار شاكرابورتي.. شاعر يكتب الصمت

تهولني أحيانًا فكرة أننا نطالب بشيء لا نعرفه، بمصطلح فضفاض نصدح به عند كل نزاع مع عائلتنا، مع مجتماعتنا، مع معتقداتنا، نصرخ تمامًا كما صرخ الإنسان الأول، لا أحد يريد إغراقنا، لا طوفان يلوح من بعيد، بل قوس قزح يذكرنا بوعد الآلهة أن لا طوفان يهلك الأرض مرة أخرى (سفر التكوين 9:12)، مع ذلك نصرخ: لماذا تغرقوننا؟

أعرف الكثير من الأشخاص اللاهثين وراء الحرية، أحدهم يريدها ليهرب بعيدًا، أخرج لي قلبه ذات مرة، وقال لي: هذه البلاد أضيّق من قلبي. وعلى قلبه كانت قد ارتسمت خريطة الوجود.

وآخر يريد الحرية ليؤمن، يردد لي دائمًا: لا أريد ذلك لأؤمن مثل بطل رواية "حياة باي" (رواية بطلها كان مسلمًا ومسيحيًا وهندوسيًا في ذات الوقت)، لا أريد إيمانًا كهذا، ما أريده هو الحرية لأنزع كل إيمان عنّي، أريد أن أعود للبداية، بلا أي سماء تظلني، أن أسير في الشوارع وأستجدي الناس كسرة إيمان، فلا أجدها، أن أشعر أنّي فارغ، فارغ تمامًا، وعند تلك اللحظة التي أكون على وشك الانهيار فيها، أجد الله. أن أحبه شيئًا فشيئًا، صلاة فصلاة، وأن أكون قادرًا على أن أقول له: وجدتك وأنا حر. أريد أن أقسّم حياتي إلى جزأين منفصلين تمامًا، قبل الله وبعده، وأنْ أقابل غريبًا، أنْ ينظر إليّ، فيرى بوضوح الرتق الذي في منتصف روحي، أن يسألني: ما هذا؟ فأهتف: الله.

وآخر كان يريدها ليحب، يريد أن يمتلك قلبه كاملًا، ثم يأخذ قلبه هذا بكل ما فيه، بحجراته الأربع وأفراحه الخمس وأحزانه الكثيرة، أن يضعه في يدي الشخص الذي يحبه وأن يقول له بصوت مرتجف: هاك، افتحه!

أكثرهم حزنًا قال لي: أريد الحريّة لأبكي، ثم انخرط في البكاء

ورابع يريدها ليقول ما يريد، إنّه يعلم جيدًا ما الذي يحدث للذين يغصّون بكلماتهم، تكبر كلماتهم داخلهم، تبتلعهم ويتحولون هم إلى صدى(أسطورة إيكو التي تحولت إلى صدى حين لم تستطع البوح بمشاعرها لنيركيسوس). هو مقبرة للكلمات، لم يقل يومًا ما يريد، غصّ بكل اعترافاته وأحلامه وآرائه، ويقول أنّه مرة غص بضحكة أيضًا. وأكثرهم حزنًا قال لي: أريد الحريّة لأبكي، ثم انخرط في البكاء.

اقرأ/ي أيضًا: قريش جاءت من سوريا

أعتقد أن الفرق الوحيد بين ما نطالب به الآن وبين الإليوثيريا التي صرخ بها أبطال هوميروس أنهم كانوا يريدونها لئلا يموتوا، كانو يريدون أن يحبوا للأبد ويؤمنوا للأبد ويبكوا للأبد. وليس أبطال هوميروس وحدهم، أتذكر أوروك؟ أتذكر الرجل الذي أراد أن يحزن على موت صاحبه للأبد (جلجامش)؟ نحن لا نختلف عنهم كثيرًا، لكننا صغار جدًا وضعفاء، لذا تضاءلت أسبابنا لطلب الحريّة، أصبحنا نريدها لنفعل تلك الأشياء لمدة محدودة، فأنت مثلًا، أعرف أنك تريد الحريّة لتؤمن وتحب وتهرب وتخاف وتصرخ وتبكي، لكنّك تريد أن تفعل كل ذلك قليلًا، لأنك تعلم كم أنت هش. وأنا أيضًا، أريدها لأتكلم وأرى وأغضب وأتمنى وأخيب وأرتجف، أريد قليلًا من كل هذا.

لكن ماذا لو حصلنا عليها ثم حصل ما حذرنا منه أنسي الحاج في "خواتم"؟ ماذا لو فضحت فينا الحريّة عريًا مخيفًا، فراغًا شاسعًا لا يرتقه شيء. ماذا لو كنّا نخبئ خلف الحريّة أكوانًا من الخواء؟ 

تلك الإيلوثيريا اللعينة، إننا نحبها ونريدها وإن لم نكن نعلم ما هي، لكننا لن نكون بخير حين نحصل عليها بعد سنوات من الصراخ باسمها، ثم نقف مشدوهين: ماذا الآن؟ ماذا نفعل بها؟ فنكتشف أننا منذ البدء "لم نكن أكثر منها".

اقرأ/ي أيضًا:

إيلان بابيه يفضح "فكرة إسرائيل"

إنسان الخوف