06-أكتوبر-2020

إيرج بزشك زاده وروايته

إنّ القيام بعقد مُقارنة بين أعمال الكاتب الإيرانيّ صادق هدايت (1903 - 1951) ورواية مواطنه إيرج بزشك زاده (1928) "خالي العزيز نابليون" (دار المدى 2016، ترجمة أحمد حيدري) قد لا تتعدّى كونها مُجرّد مُمارسة عبثيّة أو ربّما مُجازفة دون طائل، إذ إنّ الأجواء العامّة في مُجمل أعمال هدايت تختلف اختلافًا جذريًا عن تلك القائمة في رواية زاده، بل ويُمكن القول إنّها أجواء مُتضادّة ومُتناقضة تمامًا، فبينما يضعنا الأوّل إزاء أجواء سوداويّة كابوسيّة قاتمة، وبشر مُهمّشين يُكابدون أصنافًا مُختلفة من العذاب والحيرة والبؤس، نجد أنّ أجواء "خالي العزيز نابليون" عبارة عن مساحة مفتوحة على الضحك تشغلها شخصيّات كوميديّة فُكاهيّة ومرحة قادرة، بتصرّفاتها وسلوكها، على قلب القارئ على قفاه من الضحك.

تقدم رواية "خالي العزيز نابليون" مساحة مفتوحة على الضحك تشغلها شخصيّات كوميديّة فُكاهيّة ومرحة بتصرّفاتها وسلوكها

لم نتحدّث إذًا عن المقارنة طالما أنّها غير ممُكنة؟ يُفيد الانطباع الأوّل الذي يتشكّل عندما نضع "خالي العزيز نابليون" مُقابل أعمال هدايت السوداويّة والكابوسيّة بأنّ كلًّا منهما يُمثِّل تيّارًا مُضادًّا للآخر، ولكنّ القراءة الدقيقة للشخصيّات وتركيبتها النفسيّة ووضعها الداخليّ أيضًا، وعقد مُقارنة مُتمهِّلة بينها، تُبيِّنُ وجود تقاطع بين الشخصيّة الرئيسيّة في عمل زاده وبقيّة شخصيّات هدايت لجهة التركيبة النفسيّة والسلوك من جهة، والتعامل مع الخيال وكيفيّة توظيفه في الواقع من جهة ثانية، ولعلّ النقطة الأخيرة تُعدّ نقطة التقاطع الأهمّ في هذا السياق، وإنّ اختلفت طبيعة المكان والزمان وظروف المُحيط وأجوائه.

اقرأ/ي أيضًا: ياسمينة رضا في رواية "هامركلافيير".. الموت كل ما سيحدث

فما يجمع هذه الشخصيّات معًا هو توظيف الخيال لصناعة واقع مُتخيّل ولكنّه بائس وقاتم، وإن اختلفت الأسباب، إذ إنّ شخصيّات مؤلّف "البومة العمياء" تصنعهُ بفعل ظروف مُعيّنة نفسيّة وداخليّة مُتعلّقة بنظرتها للحياة وموقفها منها غالبًا، على العكس من "الخال العزيز"، بطل رواية زاده، الذي صنعهُ لنفسه بغير انتباه، أو ربّما وصل أثناء صناعته حدًّا غير مسموح بتجاوزهُ، قادهُ ما إن وصل إليه، بغير قصد، نحو العقر تمامًا.

يُعرِّفنا إيرج بزشك زاده ببطله "الخال العزيز" بصفتهِ كبير عائلتهِ المُحافظة ومُسيِّر أمورها وحافظ شرفها، عدا عن أنّه قائد عسكريّ فذّ خاض حروبًا عنيفة وشرسة ضدّ قطّاع الطريق والبريطانيين، ولكنّ هذه الحروب كما سيتّضح سريعًا مُجرّد مُعارك وبطولات وهميّة صنعها الخال العزيز في مُخيِّلته الخصبة التي رسَّخت في ذهنه فكرة مُتخيّلة مفادها أنّه ضحيّة مُحتملة للبريطانيين، قبل أن يتطوَّر وهمهُ هذا ليُلغي الاحتمال ويُحِلّ محلّه قناعة راسخة بأنّ البريطانيين يُحيكون مؤامرة ضدّه بهدف الثأر منه نظرًا لما ارتكبهُ بحقّهم في معاركه المُتخيّلة.

أراد الخال العزيز أن يصنع لنفسه عبر حكاياته هذه مكانة استثنائيّة بين أفراد عائلته، وأن يرسّخ أيضًا صورته باعتباره رجلًا وطنيًّا حارب البريطانيين وأذلّهم خلال سنوات خدمته العسكريّة التي كان فيها مُجرّد جنديّ برتبة هزيلة، ولكنّه قدّم نفسهُ لعائلته وللآخرين بصفته قائدًا عسكريًّا من طراز نابليون الذي كان شديد الافتتان به لدرجة أن ساوى معاركهُ المُتخيّلة بمعارك بونابرت، وربط مصيرهُ بمصيرهِ باعتباره كان أيضًا عدوًّا للبريطانيين، ليُطلق عليه صغار عائلته ساخرين "الخال نابليون"، ومن هنا تحديدًا جاء عنوان الرواية التي تعجُّ بشخصيّاتٍ مُختلفة مُستقّلة لها كيانها وهواجسها وأحلامها، ولكنّها مُتَّصلة بشكلٍ مُباشر بـالخال العزيز وبطولاته الوهميّة.

يكمن التقاطع بين أبطال إيرج بزشك زاده صادق هدايت في التعامل مع الخيال وتوظيفه لصناعة واقعٍ بديل ليس ضروريًّا أن يكون أفضل

وبينما نجد أنّ هذه البُطولات والمعارك غدت عند عائلته مصدرًا للتندّر والسخرية والضحك، نُعاين بالمُقابل على الطرف الآخر كيف صارت بالنسبة إليه كابوس لا نهاية لهُ بعد أن خلقت عندهُ نوعًا من "البارانويا" ألغت الحدود القائمة بين الخيال والواقع، ليبدأ الخال العزيز حياة جديدة تُهيمن عليها فكرة أنّه بات هدفًا للبريطانيين الذين أحاطوه بجواسيس ينتظرون الفرصة المُناسبة للتخلّص منه.

اقرأ/ي أيضًا: شيرين نشأت وأزمة الجسد الإيراني

تُحوّل البارانويا شجاعة الخال العزيز المُتخيّلة هذه إلى خوفٍ واقعيّ تُغذّيه مُخيّلته ووساوسه التي أخذت منحىً مُختلفًا بإقامة رجل هندي وزوجته البريطانيّة بالقرب من منزله، إذ اعتقد أنّهما قطعًا جاسوسين بريطانيين، بالإضافة إلى نشوب الحرب العالميّة الثانيّة ودخول القوّات البريطانيّة خلالها إلى إيران، لتبلغ هذه الوساوس ذروتها، ذلك أنّه كان على قناعة بأنّ الغاية من دخول البريطانيين هو الوصول إليه والتخلّص منه، لتأخذ مأساته حينها مسارًا أشدّ بؤسًا، عزّزتهُ التصرّفات الكوميديّة لزوج شقيقته الذي أراد استغلال حالته النفسيّة للثأر منه، أو بجملةٍ أكثر دقّة، لجعله أضحوكة داخل العائلة وخارجها أيضًا بغية الانتقام منه على سخريته المُتكرّرة من نسبه وأصوله.

تظاهر زوج شقيقة الخال العزيز بأنّه يصدّق حكاياته وبطولاته الوهميّة، ثمّ بدّل موقعهُ ليتحوّل من مُجرَّد مُستمتع إلى ما تُنتجهُ مُخيّلة الخال العزيز، إلى شريكٍ في تخصيبها وتغذيتها، إذ أكّد له بدلائل من صناعته وتدبيره أنّ هدف البريطانيين من دخولهم إيران هو التخلّص منه، وأنّ عليه عقد تحالف مع هتلر لمواجهة هذه المؤامرة المُحاكة ضدّه، ثمّ عرض عليه أن يكون وسيطًا ينقل الرسائل بينه وبين هتلر الذي أرسل له حارسًا لحمايته، أو هكذا أوهمه زوج أخته، ذلك أنّ الحارس مُجرّد مُنظّف أحذية جلبهُ بنفسه ووضعه أمام منزل الخال العزيز الذي أدرك، ما إن اختفى الحارس المُتخيّل، أنّ البريطانيين مُطّلعين على تفاصيل حياته بشكلٍ كامل، وأنّ كلّ ما عليه فعلهُ هو انتظار نهايته فقط.

اللقاء أو التقاطع بين شخصيّة إيرج بزشك زاده وشخصيّات صادق هدايت يكمن إذًا في التعامل مع الخيال وتوظيفه أيضًا لصناعة واقعٍ بديل مُتخيّل ليس ضروريًّا أن يكون أفضل. والتقاطع هنا لا يشمل الأحوال والظروف التي دفعت الشخصيّات باتّجاه استثمار الخيال بهذه الطريقة، وإنّما في الفكرة نفسها، فكرة توظيف الخيال سلبًا، بالإضافة أيضًا إلى المصير الذي انتهت إليه هذه الشخصيّات: الموت.

قدّم إيرج بزشك زاده نفسه في رواية "خالي العزيز نابليون" بصفته حكّاءً مُتقنًا لصنعة الحكي ومُتمكّنًا من أدواته

بمعزلٍ عن الخال العزيز ووساوسه، قدّم إيرج بزشك زاده نفسه في روايته هذه بصفته حكّاءً مُتقنًا لصنعة الحكي ومُتمكّنًا من أدواتها، قادرًا في الوقت نفسه على إمداد حكايته بدفعاتٍ هائلة من الفكاهة والكوميديا غير المُصطنعة، وجعل الأزمات والمشاكل التي تُصادف شخصيات العمل فرصة للتندّر والضحك، والمُلفت أنّ هذه الأزمات نفسها بدت في روايات إيرانيّة أخرى، خصوصًا روايات ما بعد وصول الخُميني إلى السلطة، سببًا لأجوائها القاتمة والكابوسيّة، مما يجعل من العمل مُفاجئًا لمن تعرّف إلى إيران عبر تلك الروايات، فما تقدّمه "خالي العزيز نابليون" هو صورة مُغايرة كليًّا لمجتمع يُعرف بعادات وتقاليد مُحافظة، حوّلها زاده هنا إلى مصدر للكوميديا التي قدّمها على مدار أكثر من 700 صفحة ببراعة ساحرة.

اقرأ/ي أيضًا: نسرين ستوده.. الشجاعة المُعدية

ويُمكن أن نضيف هنا أنّ ما فعلهُ الخال العزيز فعلتهُ ولا تزال الأنظمة الدكتاتوريّة إن كان في إيران أو دول غيرها: بناء أسطورة مُتخيّلة وهميّة خاصّة بها، وخلق عدوٍّ مُفترض لا وجود له، تُروّج أنّه يُهدِّد وجودها. وإذا كان الخال العزيز أراد من أساطيره تبّوء مكانة استثنائيّة داخل عائلته وفي مُحيطه تُمكّنه من لعب دور استثنائيّ في حياة أفرادها، فإنّ ما تريدهُ الأنظمة الدكتاتوريّة غالبًا من أساطيرها ونظريّة المؤامرة الخاصّة بها هو تبرير أفعالها وفظائعها، وممارستها بحريّة واسعة يُتيحه الظرف الطارئ القائم على فكرة مُتخيّلة وهميّة: ثمّة عدو ومؤامرة تُهدِّد وجودنا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 فيروزة دوماس.. "خنده دار" بالفارسية

عباس كيارستمي.. ريح الشعر وأوراق السينما