إيران: بين صراع الهيمنة وتداعيات الوعي الإقليمي
20 يونيو 2025
هل اتخذ قرار إسقاط النظام الإيراني فعليًا، أم أن ما يجري لا يعدو كونه ورقة ضغط لإجباره على تقديم تنازلات؟ سؤال يتردد دون أن يجد إجابة حاسمة، منذ الضربة الإسرائيلية فجر يوم الجمعة، 13 حزيران/يونيو.
ورغم ما قيل يومها عن "ضربة النهاية"، فإن الأحداث التالية بدّدت ذلك الانطباع، وإن بقيت إسرائيل صاحبة اليد العليا في موازين القوة.
الولايات المتحدة... بين صراع القيادة وأوهام الانتصار
المشهد الدولي اليوم مختلف كليًا عن زمن غزو العراق عام 2003. كانت الولايات المتحدة حينها تقف صفًا واحدًا خلف إدارة جورج بوش، مدفوعة بهوس ما بعد 11 أيلول/سبتمبر. أما اليوم، فالصورة أكثر تعقيدًا؛ الإدارة الأميركية تعاني من انقسامات داخلية، تتبدل فيها الوجوه والتحالفات بسرعة، وتفتقر إلى صرامة القيادة التي ميزت عهد المحافظين الجدد.
وفي ظل هذا الارتباك، قد تُوظف الحرب ضد إيران كتعويض عن فشل سياسات ترامب الاقتصادية، وتحديدًا تعثر تعريفاته الجمركية في تشكيل اقتصاد عالمي يعيد لأميركا مركزيتها.
أوروبا الحائرة
أما في أوروبا، فرغم التصريحات عالية النبرة، فإن الواقع أكثر حذرًا. القارة العجوز، التي لم تتعافَ بعد من استنزاف أوكرانيا، لا تبدو مستعدة لمغامرة جديدة. الموقف الأوروبي، الملتزم ضمنيًا بأمن إسرائيل، ما زال يراهن على إمكانية احتواء النظام الإيراني بدلًا من إسقاطه.
قد تُوظف الحرب ضد إيران كتعويض عن فشل سياسات ترامب الاقتصادية
في العمق، تخوض أوروبا معركتها الكبرى مع ذاتها: كيف تعيد تعريف دورها بعيدًا عن التبعية الكاملة لواشنطن؟ فالنموذج البريطاني ليس مغريًا لباريس أو برلين، اللتين تريان في مزيد من الحروب تهديدًا مباشرًا لمصالحهما الاقتصادية والاجتماعية.
الصين وروسيا: دعوات عقلانية أم مراوغة استراتيجية؟
في الشرق، تقف روسيا والصين في منطقة رمادية من الخطاب التقليدي: دعوات للحوار، وتمسك بالقانون الدولي، ورفض للتصعيد. لكنها مواقف، وإن بدت عقلانية، تحمل في طياتها خطرًا استراتيجيًا؛ فسقوط إيران لا يعني فقط خسارة حليف، بل أيضًا اتساع طوق الحصار حول موسكو، وتقدم أميركي حتى مشارف المحيط الهادئ. ذلك التردد قد يُرغم موسكو وبكين لاحقًا على خوض معاركهما الأهم داخل حدودهما. وهذا تحديدًا هو الدرس الإيراني الذي لم تستوعبه طهران مبكرًا: أن التردد في غزة ولبنان له ثمن يُدفع اليوم في إيران.
هل تبدأ لحظة الوعي الإقليمي المشترك؟
في العالم العربي، لا تزال الأولوية هي تحييد بلدانها عن نيران الإقليم. لكن التداعيات الأهم قد لا تكون عسكرية، بل ذهنية. تنهار اليوم، أمام أعين الجميع، مقولة أن إيران "تقاتل بالوكلاء" بينما تبقي أراضيها بمنأى عن الرد. هذا الانكشاف يعيد تشكيل الوعي الجمعي، ويفتح بابًا لتقارب محتمل بين السنة والشيعة، طالما أن طهران قررت دفع الثمن مباشرة. قد نكون أمام لحظة تأسيس لرؤية إقليمية جديدة، بشرط أن تتخلى إيران عن هاجس "تصدير الثورة" وتعيد التموضع في مشروع شراكة حقيقية مع شعوب المنطقة، خارج الفئوية والمذهبية.
واشنطن وإدارة الحرب من وراء الستار
تشارك الولايات المتحدة في الجهد العسكري القائم، بحدود غير معلومة بدقة. وفي الوقت الذي يطالبها فيه نتنياهو بالمزيد، يبدو أن واشنطن حريصة على ألّا تظهر بمظهر من يُدار من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي. يدرك البنتاغون بدوره أن استهداف منشأة "فوردو" النووية وحده لن يكون كافيًا لإجبار إيران على الخضوع.
فقط في حال ترسخت قناعة بإمكانية توجيه ضربة تُفقد إيران قدرتها على الرد وتشلّ تمامًا قدرتها على إطلاق أي صاروخ، حينها قد تتحرك أميركا. تحرك يُصاغ على مقاس دونالد ترامب فقط، ليحصد من خلاله نصرًا يعيد إحياء شعار "أميركا أولًا"، ولكن هذه المرة عبر القوة العارية. فمع انحسار وهج "الحرب على الإرهاب"، بات المشروع الأميركي بحاجة إلى خصم رمزي جديد… والشرق الأوسط يبدو مرشحا دائما لهذا الدور.
هل يمكن أن تستمر هذه الحرب دون أن تنزلق إلى ما هو أخطر؟ سؤال لا يقل أهمية عن سؤال "إلى أين نحن ذاهبون؟". لكن ما بات واضحًا أن مجرد امتلاك أدوات التدمير لا يعني إحكام السيطرة.
التحولات الجارية، مهما بدت دراماتيكية أو مؤلمة، قد تفتح الباب أمام مشروع إقليمي جديد
من "الوطن الآمن" إلى ساحة للصواريخ والطوارئ
كلما طال أمد الحرب، ازدادت هشاشة الأساس الذي بُني عليه المشروع الصهيوني: فكرة "الوطن الآمن" ليهود العالم. إسرائيل التي نشأت كملاذ من الاضطهاد، تتحول اليوم إلى ساحة مواجهة دائمة. ومع تصاعد عدم الاستقرار، وتكرار سيناريوهات الإخلاء والطوارئ، تترسخ فكرة معاكسة تمامًا: هذه الدولة ليست أكثر أمنًا من غيرها، بل قد تكون أقل. هذا التحول، إذا استمر، لن يُقاس بعدد الصواريخ، بل بعدد من يختارون الرحيل. إنها أزمة في العمق، تتجاوز السياسة والسلاح، وتصل إلى سؤال الوجود ذاته.
مشروع إقليمي جديد يتشكل؟
التحولات الجارية، مهما بدت دراماتيكية أو مؤلمة، قد تفتح الباب أمام مشروع إقليمي جديد. مشروع يتجاوز الهويات القاتلة، وينهض على قيم العدالة والمساواة والعيش المشترك. ففي لحظات الانهيار الكبرى، لا تتفكك فقط الأنظمة والمشاريع الفاشلة، بل تُولد أيضًا إمكانيات بديلة.
وقد يكون أكثر هذه الإمكانيات راديكالية وإنسانية في آن، هو إعادة طرح القضية الفلسطينية من خارج سردية الدولتين أو الحلول المؤقتة. فلسطين، في قلب هذا المشروع، لا بوصفها ملفًا تفاوضيًا، بل بوصفها اختبارًا أخلاقيًا لإمكانية قيام دولة واحدة ديمقراطية على كامل الأرض، تُعامل فيها الناس على أساس المواطنة لا العرق أو الدين، ويُعاد فيها الاعتبار لفكرة المساواة باعتبارها الضامن الوحيد للسلام والاستقرار.
ربما تكون هذه الفكرة، اليوم، أشبه ببذرة صغيرة تُزرع في أرض مليئة بالركام، لكن ما من بديل حقيقي عنها في ظل تآكل كل الأوهام الأخرى. والسؤال لا يزال نفسه: من يملك الشجاعة لزراعتها؟ ومن يملك الخيال السياسي الكافي ليؤمن بأنها قد تنمو؟