18-مارس-2017

شكل الإنترنت أداة مركزية للثورة التونسية (Getty)

بمناسبة الاحتفاء باليوم الوطني لحريّة الإنترنت، عقدت هيئة الحقيقة والكرامة التي تتولى تنفيذ مسار العدالة الانتقالية بتونس، جلسة استماع علنية مخصّصة لانتهاكات حرية الإنترنت، تمّ خلالها عرض 5 شهادات، من بينها شهادة والدة زهير اليحياوي الذي يُكنى بـ"شهيد الإنترنت". وهو شاب تونسي أنشأ موقعًا معارضًا للنظام سنة 2001 باسم "تونيزين" قبل أن يقع اعتقاله ومحاكمته، ليتوفى سنة 2005 من مخلّفات التعذيب الوحشي الذي تعرّض له.

جند نظام بن علي أجهزته القمعية لتتبّع إبحار التونسيين على الإنترنت، فبعث جهازًا خاصًّا للرقابة والتتبع وفرض قوانين لتبرير الرقابة

وقد تناولت هذه الجلسة تاريخ انتهاكات حرية الإنترنت وتحديدًا آلة الرقابة والحجب الإلكتروني الذي مارسه نظام بن علي ضد المواطنين والناشطين.

اقرأ/ي أيضًا: زهير اليحياوي.. شهيد الإنترنت التونسي

مصادرة حرية التعبير على الإنترنت

كانت تونس البلد الأول عربيًّا وأفريقيًّا في الربط بشبكة الإنترنت منذ أوائل التسعينيات، وقد عمل نظام بن علي على استغلال ذلك لتجميل صورته. غير أن فضاء الإنترنت كان في الواقع فضاءً موازيًا للنشاط والتعبير. حيث بات يمكن للأصوات الحرة من خلاله ممارسة مواطنتها والتعبير عن قناعاتها مع إغلاق النظام للفضاء العام واحتكاره للمجال السمعي والبصري. فللتذكير، لم يمنح نظام الاستبداد منذ انقلاب بن علي سنة 1987 رخصة النشر لأيّ وسيلة إعلام مستقلّة.

ولمواجهة هذا الفضاء الجديد، جنّد النظام أجهزته القمعية لتتبّع إبحار التونسيين على الإنترنت. فبعث جهازًا خاصًّا في المعلوماتيّة للرقابة والتتبع، وفرض ترسانة من القوانين لتبرير ممارسة المصادرة والرقابة. حيث تفرض هذه القوانين مثلًا على مزوّد خدمة الإنترنت مسؤولية المحتوى المتصفح من الحرفاء، ويلزمه بإبلاغ "الوكالة التونسية للإنترنت" بالقائمة الاسمية لمنخرطيه.

كما مثل قانون مكافحة الإرهاب لسنة 2003 تعلّة لتوسيع دائرة الجرائم الإرهابية لتطال حرية الإبحار على الإنترنت. حيث تمت عدة محاكمات بموجب هذه القوانين من بينها محاكمة مجموعة "شباب جرجيس" سنة 2003 "بتهمة تكوين مجموعات إرهابية واعتمدت المحكمة على أدلة متمثلة في ملفات محملة من الإنترنت. وفي جلسة الاستماع العلنية، قدّم حمزة المحروق ووالد عبد الغفار قيزة، وهما من ضحايا "مجموعة جرجيس" شهادتهما للعموم.

وعبد الغفار قيزة هو شاب تونسي تم اعتقاله سنة 2003 وهو في سن العشرين بسبب توصله برسالة إلكترونية حول كيفية السفر إلى فلسطين، فتفطن لذلك صاحب مركز عمومي للإنترنت وأعلم أعوان الأمن وعلى إثر ذلك انطلقت حملة من الاعتقالات شملته. وتعرّض الشاب لتعذيب وحشي على غرار الوثق بالسلاسل وتغطيس الرأس بالماء العفن إلى حد الخنق وتهديده بالقتل عن طريق الصاعق الكهربائي. وتعرض الشاب لمحاكمة غير عادلة وتم إطلاق سراحه بصفة شرطية سنة 2006 بسبب مرضه بالسلّ. وقد طالب والده في جلسة الاستماع بـ"محاكمة الضالعين" في هذه المأساة.

كما تحدث، في نفس الإطار، الشاب حمزة محروق عن التعذيب الذي تعرض إليه ومعاناة ما بعد سجنه. حيث أشار إلى أن الانتهاكات تواصلت بعد السجن، فقد وقع إخضاعه للمراقبة الإداريّة حتى سنة 2011. كما تحدث محروق عن منعه من الارتزاق، وهرسلة كافة أفراد أسرته بمنعهم من السفر. وكشفت هاتان الشهادتان عن وحشية نظام بن علي في ممارسة أشنع الانتهاكات بحق شباب تم اعتقالهم ومحاكمتهم بسبب نشاطهم في فضاء الإنترنت.

اقرأ/ي أيضًا: "تدوينة ساخرة" قد تؤدي بك إلى الإيقاف في تونس!

نظام بن علي وآلة الرقابة والحجب

عمد نظام بن علي في تونس في عديد المناسبات إلى قطع الربط بالإنترنت على عدد من الجمعيات المدنية

عمل نظام بن علي على ممارسة الرقابة والحجب بوسائل متطورة لتعطيل الولوج للمواقع المصنفة كمناوئة. حيث كان يقوم بمراقبة واعتراض البريد، وكانت تتولّى شرطة الإنترنت إخفاء وعرقلة الملفّات المرتبطة به. كما عمد النظام في عديد المناسبات إلى قطع الربط بالإنترنت على عدد من الجمعيات المدنية.

حيث لحقت عمليات المراقبة والحجب المعارضين السياسيين والجمعيّات المستقلّة والنقابات وحتّى البعثات الدبلوماسية. وقام النظام بحجب عديد المواقع والصفحات وتحديدًا مواقع حقوق الإنسان ومواقع المعارضة ومواقع إيواء الفيديو مثل "يوتيوب" و"دايلي موشن" حيث لم يقع رفع الحجب عن هذين الموقعين إلا ليلة 14 كانون الثاني/يناير 2011.

ولم يفلت التونسيون الناشطون في الخارج من سيف الرقابة. حيث تمّ استهداف المواقع المعارضة المأويّة في الخارج. وقد بلغت الاستثمارات الموظّفة في عمليّات مراقبة الإنترنت حجمًا ضخمًا، تتقاسم أعباءها ميزانيّات وزارة الاتصال ووزارة الداخليّة ورئاسة الجمهوريّة والوكالة التونسية للاتصال الخارجي.

ولم يكتف نظام بن علي بممارسة الحجب بل قام بتشديد الخناق على الشبكة العنكبوتية وتتبع الأنشطة فيها. حيث بينت هيئة الحقيقة والكرامة أن النظام عمل في الانتخابات الرئاسية سنة 2009 على محاصرة الفضاء الافتراضي والتحرك على شبكة الإنترنت عبر تركيز خلايا جهوية تحت إشراف لجان تنسيق الحزب الحاكم وقتها.

وفي شهادته، تناول سامي بن غربية أدوات النظام لممارسة الرقابة والحجب. وبن غربية هو أحد مؤسّسي موقع "نواة" سنة 2004 وهو ناشط حقوقي اضطر لمغادرة تونس قسرًا، حيث قضى 13 سنة من حياته بالمهجر الاضطراري، ولم يتمكّن من العودة لتونس إلا بعد الثورة.

وتحدث بن غربية عن تسخير النظام لفريق من القراصنة المرتزقة، للتضييق على حرية التعبير عبر الإنترنت. وقال إن هذا الفريق كان يتعمّد إتلاف الأرشيف الإلكتروني للمواقع المعارضة عبر القرصنة. وأكد أن الوكالة التونسية للإنترنت كانت هي المسؤول الأول عن الحجب والقرصنة. وقد وصف المعركة بأنها كانت افتراضية انتقلت لاحقًا إلى الواقع الميداني.

ولم يخف بن غربية تحذيره من تواصل سياسة الرقابة على الإنترنت حتى بعد الثورة، مشيرًا إلى أن المبرر الأخلاقي هو المدخل للحجب السياسي للمعلومة، مشيرًا إلى تعارض الرقابة مع حماية المعطيات الشخصية. وقد شدّد في نهاية شهادته على دور هيئة الحقيقة والكرامة في كشف منظومة الرقابة والحجب الإلكتروني في تونس.

فضاء الإنترنت كفضاء للمقاومة المدنية

رغم تضييق الخناق على الحريات من طرف أجهزة بن علي فقد عمل المدافعون عن حقوق الإنسان على استغلال الإنترنت لكسر الرقابة

رغم تضييق الخناق على الحريات من طرف أجهزة الدولة فقد عمل الناشطون المدافعون عن حقوق الإنسان على استغلال فضاء الإنترنت لكسر الرقابة المفروضة على المجال العام، وذلك من خلال نشأة عديد المواقع الإلكترونية الهادفة لكسر جدار الصمت على الانتهاكات التي تمارسها آلة القمع والاستبداد.

حيث أنشأ سنة 2001 زهير اليحياوي موقع "تونيزين" الذي تميّز بجرأته من خلال نشر بيانات نقدية ونصوص ساخرة من ممارسات النظام، وهو من أوائل المواقع التي نشطت في تحدّ واضح لسلطة دولة الاستبداد. وتم إيقاف زهير في حزيران/يونيو 2002 في مركز الإنترنت الذي يشتغل فيه، وحوكم بسنتين سجنًا نافذة من أجل "نشر أخبار زائفة" و"اختلاس واستعمال خطوط اتصال"، ولم يقع إطلاق سراحه إلاّ نهاية 2003، وتوفّي لاحقا في آذار/مارس 2005 من مخلفات التعذيب الذي تعرض له.

وقد تحدثت والدة زهير اليحياوي في شهادتها عن وحشية التعذيب الذي تعرض له ابنها ومخلفاته. وطالبت بمحاسبة من مارسوا التعذيب. كما قدّم الناشط فؤاد بوزواش، وهو أحد مؤسسي موقع "تونيزين"، شهادته التي استعرض خلالها المقاومة المدنية عبر فضاء الإنترنت منذ بداية الألفية الجديدة.

من جانب آخر، كشفت الهيئة أن تنظيم تونس سنة 2005 للقمة العالمية لمجتمع المعلومات مثل حدثًا فارقًا في تأريخ نظام الرقابة والصنصرة. حيث تصاعد خلال هذه المناسبة الخناق على الفضاء الإلكتروني وحجب المدونات وتتبع المدونين وإيقافهم. وقد مورس وقتها الحجب على نطاق واسع على موقع القمة نفسه، وتمّت مصادرة تقرير لمنظّمة العفو الدوليّة، وتعرّض ناشطون وصحفيّون إلى الاعتداء. وبذلك كانت هذه القمة مناسبة للتحشيد وليتبلور وعي جماعي على ضرورة مواجهة نظام الاستبداد طلبًا لأبسط الحقوق وهو حق التعبير في فضاء الإنترنت.

ساهمت الشبكات الاجتماعية في نقل أحداث الثورة التونسية إلى العالم رغم الإيقافات والتعذيب بالتوازي مع تعتيم الإعلام الرسمي

فنشأت لاحقًا عدة حركات وأنشطة على الفضاء الافتراضي ثم على الميدان في مواجهة آلة الرقابة والحجب. حيث اعتمد المدوّنون التونسيون وسائل مختلفة بهدف التعبير عن رفضهم لسياسة حجب المواقع وتتبع المدونين وذلك من خلال نشر صور كاريكاتيرية ونصوص ساخرة. وتكثفت التظاهرات من بينها حملة "لا للحجب" خاصة بعد غلق موقع فيسبوك في صائفة 2008، وحملة "نهار على عمار" سنة 2010 قبل أشهر من اندلاع الثورة و"عمار" هي كناية عن آلة الرقابة في تونس.

كما لعب لاحقًا فضاء الإنترنت دورًا حاسمًا في أحداث الثورة. حيث تناقل عبره الشباب أخبار الاحتجاجات فتم تشارك الصور ومقاطع الفيديو. وقد انتشر بكثافة هاشتاغ "سيدي بوزيد" على موقع تويتر طيلة أيام الحراك الثوري. حيث ساهمت الشبكات الاجتماعية في نقل أحداث الثورة التونسية إلى العالم رغم الإيقافات والتعذيب في وزارة الداخلية بالتوازي مع تعتيم الإعلام الرسمي.

لقد وجد النظام حينها نفسه عاجزًا عن مواجهة هذا الطوفان ولعله لذلك مثلت آخر ورقة لعبها الرئيس المخلوع يوم 13 كانون الثاني/يناير 2011 هو إعلان تعليق الرقابة على الإنترنت. ولكن كان للشعب التونسي الكلمة الأخيرة يوم 14 كانون الثاني/يناير. ولذلك اعترافًا بدور روّاد مقاومة الاستبداد عبر فضاء الإنترنت، أعلن رئيس الجمهورية السابق المنصف المرزوقي سنة 2012 في الذكرى السابعة لوفاة زهير اليحياوي يوم 13 آذار/مارس من كل سنة يومًا وطنيًا لحرية الإنترنت.

اقرأ/ي أيضًا:

تعذيب وعنف متواصل.. أرق تونس الثورة

صحفيون مصريون.. "اشتراهم" بن علي لتمجيد نظامه!