30-أكتوبر-2020

مدينة سلمية

بعد أكثر من عشرين عامًا على مغادرتي طفولتي، أدركت أنه كان يجب علي أن أكون، منذ أكثر من عشرين عامًا، متبرمًا ونزقًا وأشعر -ولو قليلًا- بالضجر. وإذ إنني لم أكن كذلك، فإن الأمر مشى بصورة مختلفة.

لطالما بدت مدينة سلمية أشبه ما تكون بالمعزولة والمنسية على نحو يثير التساؤل

كانت تبدو "سلمية" (وسط سوريا) في ذلك الوقت مدينة أشبه ما تكون بالمعزولة والمنسية على نحو يثير التساؤل، تبدو وكأنها، للتوّ، خرجت من فيلم عن غزاة متوحشين استباحوها على نحو غامض وسري، لم يتركوا فيها بيوتًا مدمرة أو ركامًا أو أشجارًا مقطوعة أو محروقة.. إنما تركوا كل ما يشير إلى أنهم، للتو، خرجوا منها وهم بكامل بربريتهم، وتركوا أهلها وكأنهم مستعدون للبقاء زمنًا طويلًا لا يفعلون شيئًا سوى إزالة مستمرة لآثار ذلك الغزو الذي لا دليل مادي عليه إنما آثار من كل حدب وصوب.

اقرأ/ي أيضًا: الكتابة الشجرية والكتابة العشبية

في حارة من حاراتها لم تكن قد سميت بعد، وفي شارع لم يكن قد سمي أيضًا، كنت أواظب على اللعب أمام المحل الوحيد في الحارة: "دكان أبو علي" الذي منح الشارع والحارة اسمه: "حارة أبوعلي"، و"شارع أبو علي"، عندما أتذكر ذلك الدكان أتذكر كم كانت بائسة تلك الحارة وكم كان فقيرًا ذلك الشارع حتى يستمدا اسميهما من "أبو علي" ودکانه: غرفة صغيرة طينية متهالكة بسقف خشبي وقد كثرت الأعمدة في وسطها لتقيها من السقوط، وكثرت كذلك قطع النايلون على سقفها لتمنع المطر -دون جدوى- من التسرب إليها. فيما كان الباب عريضًا وكبيرًا يضطر أبو علي لحمله في الفتح والإغلاق. لكن مفتاحه الكبير كان مفيدًا لنساء الحارة؛ إذ إنهن يشبّهن أشياءهن الثمينة والسرية به: "قد مفتاح أبو علي"!

كان أبوعلي يبيع في دكانه كل شيء حتى الاسبرين: "يمو. تنادي أمي، جبلي من عند بوعلي حبة أسبرين وخلي يسجلها"، إذ كان التسجيل (دفتر الدين) هو الشرط الوحيد ليشتري الناس أي شيء من عند "أبوعلي"، الذي كان يجلس في الدكان بعد الظهر، بعد أن ينتهي من عمله لدى "الحكومة"، كما كانوا يطلقون على مؤسسات الدولة. فيما كانت زوجته تجلس قبل الظهر، وهنا تبدأ حكاية "أم علي": المرأة البدائية في أواخر القرن العشرين.

كغالبية النساء في القرى والمدن المعزولة، فإن "أم علي" لا تعرف القراءة والكتابة، وكان عليها أن تبيع أهل الحارة "على الدفتر" أي: على سبيل الدين، ولا يمكن لها الركون إلى ذاكرتها المكتظة بالهموم والمشاكل العالقة منذ زمن غائر، سحيق، وشديد الألم. لذلك كان عليها أن تبتكر طريقة تسجل فيها الديون. كان عليها إذا، أن تكتب الأشياء. هذا النوع من الكتابة عرفته الأقوام الأولى ما قبل اختراع الكتابة بزمن طويل، إنه رسم الأشياء أكثر من كونه کتابتها. فأعادت هذه الحاجة "أم علي" -فطريًا ودون أن تعي- إلى ذلك الزمن. كانت تفتح دفترها، وقد ابتكرت لكل سلعة شكلًا ترسمه كمقابل رمزي لهذه السلعة. لقد قررت، كمثال، أن الشكل الدائري يرمز للبطاطا، دائرة واحدة تعني كيلو بطاطا واحدًا، فيما نصف کیلو يأخذ شكل نصف دائرة. وكي تميز البندورة عن البطاطا فإنها ترسم، کرمز للبندورة، دائرة في أعلاها خط صغير عمودي، وعندما وجدت أن ثمة أشياء أخرى يجب أن ترسم کدائرة، كالجبس (البطيخ الأخضر) مثلًا، فإنه كان يتوجب عليها أن تعيد رسم رمز البطاطا على أنه دائرة متعرجة قليلًا... وهكذا...

لكل سلعة رمز، ولكل رمز إحداثياته التي لا مجال للخطأ فيها.

وكي لا تزدحم الأشكال في الدفتر، الأمر الذي يهدد بالتداخل والتضارب وفقدان أو استبدال الديون، فإنها كانت لا تنفك تناديني كل ساعة أو ساعتين، حسب توفري في منطقة رؤيتها، بوصفي طفلها المدلل الذي "يأخذ في المدرسة عشرات دائمًا" لأقوم بحل الرموز.. وكتابتها من جديد... لقد صنعت مني شامبليونها (من شامبليون) الخاص الذي يفك رموزها الهيروغليفية بنجاح دائم.

اخترعت أم علي رموزًا لدفتر الديون على عادة الأقوام الأولى ما قبل اختراع الكتابة بزمن طويل

أكثر من هذا، لقد فهمت رموزها وصرت أفكها وحدي، فيما هي تمارس دورها التاريخي في الثرثرة مع الزبونات والنميمة على الجميع.

اقرأ/ي أيضًا: إبداع الأميين.. كيف أنعش البسطاء الثقافة المصرية؟

لكن "الحلو مايكملش" كما يقال. فقد واجهت "أم علي" صعوبة بالغة، وفي الحقيقة بالغة جدًا: بدأت تنسى لمن تعود السلع؛ الرموز المباعة.  فهي تمنح رموزًا للأشياء لا للأشخاص. كان عليها أن تحل هذه المشكلة، ولم تعد قادرة على الوثوق بذاكرتها، ولا بأمانة الزبونات أو بذاكرتهن، لاسيما أن إيفاء الديون يأخذ وقتًا طويلًا يكفي لزعزعة الذاكرة أو النية، ولم يعد يفيدها أن ترسلني، ركضًا، إلى بيوت الجارات، لأسأل كل واحدة منهن، ماذا اشترت اليوم من عند "أم علي"؟ فإما أن أهرب، على الأقل تعبًا من الركض -فهذه المهنة؛ عداء "أم علي" الخاص، لم تكن تعجبني دائمًا- وإما أنني لا أتوفر، دومًا، ضمن مدى رؤيتها.

جلست "أم علي" تفكر، ولم يطل تفكيرها سنوات، كما كان يحدث مع الأقوام الأولى (البدائية كما تسمى) للانتقال من طور إلى طور، بل استغرق أيامًا فقط. لقد قررت أن تستبدل بالأشخاص الرموز، ونفذت من فورها القرار:  منحت لكل شخصية رمزًا يدل عليها. كنّة أم إسماعيل الجديدة، كمثال، وبوصفها عروسًا، منحتها رمزًا عبارة عن رأس عليه طرحة العروس. أما أم نزار فقد منحتها رأسًا ملطخًا ببقايا طعام -عبارة عن تشطيبات عشوائية على الفم- إشارة إلى أنها لا تتوقف عن الأكل... وهكذا. لكل شخصية رمز ولكل رمز إحداثياته التي لا تخطئ.

وكالعادة، كانت تطلبني كل ساعة أو ساعتين لأفك رموزها، على أنني "شامبليون" صغير ينفذ الأوامر والتعليمات بدقة تثير ثقتها.

وإخلاصًا مني لإشاراتها ورموزها، فهمت بسرعة أثارت إعجابها (وهذا شيء ليس حسنًا) رموزها الجديدة. وكالعادة، كنت أجلس طويلًا أفك الرموز، وكانت تعود في هذه الأثناء، لممارسة هوايتها المزمنة: الثرثرة مع الزبونات، والنميمة على الجميع.

وحيث إنني لا أقوم باللعب منذ الصباح الباكر، لحظة أن تفتح الدكان، حتى ما بعد الظهر، إلى أن يأتي العم "أبو علي" من عمله لدى الحكومة، فقد أزعجها الأمر على ما بدا حينها، وقررت قرارًا ذكيًا كعادتها، ونهائيًا أيضًا: ثمة جدار واحد يفصل ما بين بيتينا، قامت على الفور، وبدون تردد، بفتح ثغرة في الجدار، سرعان ما وسّعتها حين لاحظت أنني أسمع صوتها ولا أجيب، ما جعلها تستطيع أن تُدخل كامل رأسها فيه وتضبطني بجرم تجاهل ندائها، وتسحبني كساحرة إلى دكانها؛ بيت الرموز ومصنع الإشارات.. وأنا أمشي وراءها مشية لم أمشها إلا بعد أكثر من عشرين عامًا، وراء النساء اللواتي أحببتهن فقط. وحتى هذه اللحظة، فإنني أعتبرها رمزًا بالنسبة لي، صانعة الرموز تتحول إلى رمز - رمز المرأة الذكية الساحرة الفاتنة الغاوية المغويّة، والتي يمكن، وراءها، أن يمشي الرجال "إلى حتفهم باسمين".

كانت أم علي تلخيصًا مدهشًا لتاريخ الكتابة منذ بدئها كرموز، وانتهائها بالكتابة الأبجدية على ما نعرفها الآن

المرأة قصيرة القامة منتفخة البطن نتيجة مرض هضمي مزمن، العرجاء على الرجلين، الجدة للكثير من الأولاد... وصانعة الرموز تتحول إلى رمز للذكاء وللجمال!

اقرأ/ي أيضًا: سفيتلانا أليكسيفيتش.. حارسة الذاكرة

والآن، وقد شبعت "أم علي" موتًا:

ولا الخدود وقد أُدمين من خجل/ أشهى إلى ناظريّ من خدّها التّربِ

في لجّة تفكري بأمر اللغة والكتابة، وكيف انتقلت الأقوام الأولى (البدائية كما تسمى) إلى الكتابة، ما آلية ذلك، ما الخطوات التي مرت بها... الخ، كانت "أم علي" وإشاراتها ورموزها وانتقالها من طور إلى آخر في اختراع الرموز، وعلى مرأى مني، بل بتواطؤ معي، وعلى نحو من الأنحاء، بمشاركتي، تعينني على فهم الأمر، إذ إنها مرت بالمراحل نفسها التي مرت بها الأقوام الأولى في اختراع الرموز وتبادلها. كانت تلخيصًا مدهشًا لتاريخ الكتابة منذ بدئها كرموز، وانتهائها بالكتابة الأبجدية على ما نعرفها الآن... وما تعريف اللغة إلا أنها: نسق من الرموز.

الأمر الأكثر إرباكًا ومشقة لدى "أم علي" يظهر عندما أكون في المدرسة، خلال الدوام الصباحي، إذ عليها حينها أن تبقي رموزها على حالها؛ مجرد رموز، دون حل، ودون أن تتحول إلى كتابة. فكما أن الرموز الهيروغليفية كانت تنتظر شامبليون، فإن رموز "أم علي" كانت تنتظرني، أنا شامبليون الصغير -إلى الآن تثيرني هذه الفكرة، وأتمنى أن أعثر على "أم علي" أخرى، لأفك لها رموزها- كان على "أم علي" إذًا أن تنتظر عودتي من المدرسة، وإتمامي وظائفي، وتكاسلي، وبطئي في الحركة، واستغلالي حاجتها لي على عادة الأولاد، حتى أذهب إليها وتجعلني أجلس بينها وبين العم "أبو علي"، نعلمه، نحن الاثنين، الرموز والإشارات: هذا الشكل هو شكل البندورة وليس وجه أم محمد ياعم أبوعلي، أما هذه فبيضة، وليست حبة أسبرين يا زوجي العزيز... ولكن دون جدوى. "أبو علي" لن يتعلم إشارات زوجته...

كنا نمضي ساعات وسط الرموز والإشارات؛ كنا نعيش: "أم علي" وزوجها وأنا في إمبراطورية من الإشارات حقًا.

والآن أدرك معنى أنني لم أكن متبرمًا أو نزقًا وأشعر، ولو قليلًا، بالضجر والسخط... إذ إنني لو كنت كذلك، لاخترعت "أم علي" الكتابة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

العالم من منظور السحر

مكتبة آدم فتحي