17-يناير-2019

الجولاني (صورة وزعتها جبهة النصرة في وقت سابق)

الفكر في الجوهر حل، فهم  للواقع، محاولة واعية لمعرفة المبدأ أو القانون الكلي التي يحكم عمل الظاهرات المتختلفة في الواقع المتعين، محاولة عقلية جريئة لرد الكثرة للواحد. عقل جماعات الجهاد الإسلامي المعاصرة عقل أصولي، ينهض على فكرة المطابقة بين أفعال البشر المعاصرين مع أفعال أسلافهم من الصحابة، دون أية مراعاة للظروف التاريخية المصاحبة لكل حادثة أو موقف، ففي معرض قراءة شرعيي "جبهة النصرة" لإرغام خصومهم  "أحرار الشام" و"صقور الشام" في ريف ادلب وحماة، ومن قبلهم "حركة نور الدين الزنكي" في ريف حلب على توقيع صك استسلام، لم يجدوا حرجًا من مقابلة انتصارهم المزعوم هذا بحادثة تنازل الحسن بن علي بن أبي طالب عن حقه بالخلافة لمعاوية بن أبي سفيان عام 61 هــ، المعروف إسلاميًا بعام الجماعة.

ينهض عقل جماعات الجهاد الإسلامي المعاصرة على فكرة المطابقة بين أفعال البشر المعاصرين مع أفعال أسلافهم من الصحابة

وفق تلك القراءة السابقة، يصر أنصار الجولاني على أن يقدموا أنفسهم لنا بمظهر الأنصار الأطهار، الذين أنيطت بهم مهمة توحيد جسد الجماعة الإسلامية المنقسمة على نفسها، التي يهون في سبيل تحقيق وحدتها المقدسة كل شيء سواء تعلق ذلك الشيء باستباحة دم الخصوم، التمردين على وحدة الجماعة، الذي لا يجد أنصار الجولاني حرجا في المطابقة بينهم وبين المرتدين عن دين الله، متناسين مرتبتهم العقائدية السابقة  كـ"أخوة المنهج"، أو تعلق بمصادرة أملاكهم وانتهاك أعراضهم .

اقرأ/ي أيضًا: الجولاني ينفصل عن القاعدة: إلى أين؟

عجيب أمر النصرة إذ تستنجد بعام الجماعة وكأن كل حدث في الزمن الحالي ما هو إلا مجرد أصداء لحدث تم حدوثه في الزمن التأسيسي الأول، وما كل ذلك إلا لتطفي القداسة على الجولاني كأمير للمؤمنين، له على جميع المسلمين حق البيعة والطاعة، حتى ولو أدت قرارته إلى خراب البصرة.

في محاولة لفهم السهولة التي تميز بها انتصارالجولاني العسكري على خصومه في المنهج، يبسط لنا الإعلامي إياد الجعفري عبر مقالته في موقع المدن الالكتروني "لماذا انتصرت تحرير الشام؟"، الالتفاف الشعبي الذي تحظى فيه جبهة النصرة في المناطق التي تبسط سيطرتها فيها، معددًا مناقب منتسبيها الأخلاقية البعيدة كل البعد عن الفساد والرشوة والتنمرعلى الناس، دون أن يشرح لنا الأسباب التي ما زالت تقف وراء رفض سكان مدينة معرة النعمان بالسماح لفصيل الجولاني بادارة مدينتهم، ما دام الجولاني وأنصاره بمثل هذا النقاء الأخلاقي الذي يكاد يصل في إشراقه إلى الأخلاق النبوية.

يعيب الجعفري على المثقفين السوريين، ومن لف لفهم من الكتبة المتبطرين في منافي الأرضي انفصالهم عن الواقع لعدم قدرتهم على رؤية الوجه الحسن لفصيل الجولاني، الذي يراه ويعرفه سكان المنطقة الخاضعين لسيطرته، ذلك الوجه المشرق القادرعلى حمياتهم من توغل جنود الأسد، دون أن يحدثنا عن الوجه القبيح لفصيل الجولاني الذي يبادل أمن الناس بحريتهم وكرامتهه، تلك التي ثاروا لاستردادها من براثن سلطة آل الأسد المملوكية.

في المقال، ثمة مفاضلة بين استبداد الجولاني على استبداد الأسد، الأمر الذي يكشف عن  قصر نظر في التمييز بين التمرد والثورة، فإحلال سلطة الجولاني محل سلطة الأسد في العرف الثوري ليس أكثرمن تمرد باهت، ذلك أن الثورة قطع مع كل استبداد مهما يكن شكله ولونه، سواء تجلى ذلك الاستبداد بلبوس ديني أو دنيوي، فمن قال إن السوريين ثاروا على سلطة آل الأسد ليرزخوا تحت سلطة الجولاني. الثورة في العمق  تجاوز لمفهوم الدولة السلالية التي يحكمها بيت الأسد، كما دولة الخلافة التي يحلم بتأسيسها الجولاني. كل من الدولتين تستمدان شرعيتهما واستمرارتيهما من العنف الذي تسلطه على محكوميها، فالعنف الانقلابي الذي قام به الأسد عند استيلائه على السلطة كان مشهدًا افتتاحيًا لعنف ماحق وكلي لا راد له.

العنف والأسد صنوان، حيث لا يمكن لأي سوري قدر له العيش في ظلال دولته أن ينجو من وطأة مدونة العنف الذي قد تطاله فيما لو فكر بانتهاك رموز السيادة الأسدية. الأسد صانع مفارقات من العيار الثقيل، فهو لم  يدرب السوريين على تحمل العنف فحسب، بل على القبول به واستساغته، كما لو كان وسيلة لحمايتهم من الأخطار الوجودية.

في المقابل، فإن عنف الجولاني عنف متفجر يكاد يطال كل شيء، البشر والحجر، مأخوذًا بفكرة منح القداسة للأشياء من جديد بعد أن غرقت بالدنس الدينوي، إنه عنف تبريري يبيح  استخدام وتوظيف العنف على نطاق واسع، ما دام يخدم فكرة إعادة تأسيس دولة دينية على النمط النبوي الأول، تحتل فيها الشريعة أو إعادة  تطبيق حدودها الشرعية المعطلة منذ أكثر من قرنين من الزمن، دون الأخذ بالاعتبارات السياقات التاريخية التي أملت نظام العقوبات، الحدود الشرعية، في المجتمع العربي قبل الإسلام.

ثمة وهم عميق في أوساط أنصار جبهة النصرة بإمكانيتها على تحويل دولة الخلافة الراشدة العادلة إلى واقع معاش

ثمة وهم عميق في أوساط أنصار النصرة كما في التيار الشعبي الذي يقع تحت سيطرتها، بإمكانية قدرة النصرة في تحويل الحلم التاريخي للمسلمين المتمثل بالعيش في دولة الخلافة الراشدة العادلة إلى واقع معاش، وهو حلم يستحيل تحقيقه ما دامت جبهة النصرة ترفض العيش وفق مبادئ الديمقراطية المتعارف عليها عالميًا  التي تصر على اعتبارها كفرًا صراحًا، كما تصر على التمسك بطرق الحكم القبلية التي عرفها العرب في القرن السابع الميلادي، السلطة لمن يحوزها بالحرب أو الغلبة، التي لم يكن لها أن تعترف بأي دور حقوقي للفرد المسلم، كونها مسألة خارج السياق الحضاري للمجتمع القبلي آنذك.

اقرأ/ي أيضًا: الجولاني... طالبان ع البال

إن الحفاظ على نقد منهج النصرة العدمي في السياسية والاجتماع والحياة، كما فضح رغباتها الواعية في إجبار بعض السوريين على العيش تحت مظلة منطقها العقائدي القرووسطي، القائم على اعتبار المختلفين عنها فكريًا أو عقائديًا كفارًا أو مرتدين؛ لا يندرج تحت مظلة الناس المنفصلين عن الواقع، بقدرما يندرج تحت مهمة فضح العماء الأيدلوجي الذي يمكن أن يقع تحت غوايته أناس مثل كاتب هذا المقال، ذلك أن مهمة الإعلامي  الحق لا يمكن لها أن تقع ضمن القبول بإكراهات الأمر الواقع  سواء كانت سياسية أو عقائدية، بقدر ما تقع في الدفاع عن حقوق الإنسان الأساسية والانتصار لها، أي تكن الجهة التي تقوم بالتطاول على سلبها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"جبهة النصرة"... داخل تنظيم "القاعدة" أم خارجه؟

ماذا تعرف عن الفصائل القوقازية المقاتلة في سوريا؟