04-أكتوبر-2020

إليود كيبتشوغي (Getty)

بعد عدة تأجيلات وطول انتظار وارتقاب، ينطلق اليوم ماراثون لندن، أحد أهم وأشهر الفعاليات المرتبطة برياضة جري المسافات الطويلة في العالم. بدأت فكرة هذا الماراثون اللندني، الحديث نسبيًا في تاريخ الماراثونات، في إحدى حانات لندن، حين كان مؤسسا هذا الحدث العالمي، وهما العدّاءان البريطانيان، جون ديزلي وكريس براشر، يتحدثان في إحدى حانات لندن عن ماراثون نيويورك، وعن الشهرة التي راكمها منذ عام 1970، وعن ضرورة أن يكون للندن ماراثونها الخاص بها.

في ماراثون لندن هذا العام يبرز كالعادة اسم العداء الكيني المعجزة "إليود كيبتشوغي"، الذي حطّم كل الأرقام القياسية في سباقات المسافات الطويلة، وأسرع عداء ماراثون عرفه العالم على الإطلاق

لماراثون لندن رغم حداثته تاريخ مثير يعجّ بالإنجازات والأرقام والمبالغ الطائلة من التبرعات التي جمعها منذ انطلاقه بداية الثمانينات، إذ يقدّر أن مجموع التبرعات التي راكمها قد وصلت إلى أكثر من مليار جنيه استرليني. واستمرّ اهتمام أعظم العدائين حول العالم بالتوافد على السباق في كل عام، إلى أن صار ماراثون لندن واحدًا من سباقات الماراثون العالمية الكبرى، المعروفة باسم (World Marathon Majors) منذ العام 2006، لتكون في طبقة ماراثون بوسطن، وطوكيو، وبرلين، وشيكاغو، ونيويورك.

كيبتشوغي في ماراثون لندن 2020 (Getty)

في ماراثون لندن هذا العام يبرز كالعادة اسم العداء الكيني المعجزة "إليود كيبتشوغي"، الذي حطّم كل الأرقام القياسية في سباقات المسافات الطويلة، وأسرع عداء ماراثون عرفه العالم على الإطلاق، والذي ما يزال يحتفظ بلقبه منذ العام 2018 حتى اليوم، تلك السنة التي عانق بها كيبتشوغي المجد، وتوّج خلالها بماراثون برلين بزمن (2:01:39) لمسافة 42.2 كم. إن كنت غير مهتم برياضة المسافات الطويلة، فربما يفيدك أن تعلم أن قطع هذه المسافة في مدة تقل عن 4 ساعات تعد إنجازًا عظيمًا لأي عدّاء هاوٍ، وكل ما دون ذلك هو إنجاز يختص به المحترفون، وصولًا إلى زمن ساعتين ودقيقتين. أما ما هو أقل من ساعتين ودقيقتين، فهو إنجاز لم يحققه سوى كيبتشوغي، وعدّاء إثيوبي آخر هو الأسطورة كينينيسا بيكلي، والذي تبع كيبتشوغي بفارق ثانيتين فقط، أي بواقع 2:01:41 ثانية، وذلك في نفس ماراثون برلين عام 2019.

الماراثون المستحيل

يمكن الحديث كثيرًا عن الماراثونات، تاريخها وأرقامها القياسية، وما نما حولها من شبكة مصالح تجارية رأسمالية مليارية، وأنماط من السلوك الاستهلاكي في أسوأ أشكاله، هذا عدا عن الحديث عن رياضة الجري كظاهرة ثقافية وتتبع أصولها وطفرتها منذ سبعينات القرن الماضي في الولايات المتحدة كممارسة مرتبطة بالرجل الأبيض ونمط عيشه، والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها العالم منذ تلك الفترة حتى اليوم. لكن سأتحدث اليوم سريعًا عن قصّة ماراثون مستحيل، ورقم قياسي بعيد المنال على البشر. إنه الرقم القياسي الذي حققه كيبتشوغي في حدث مشهود نادر، في تشرين الأول/أكتوبر 2019، حين اخترق "حاجز الموت"، وأنهى مسافة 42.2 كم في أقل من ساعتين، ليكسر حاجز الساعتين لأول مرة في التاريخ. وللتوضيح، فإن إنهاء الماراثون بأقل من ساعتين، مرتبط في خيال الرياضيين والمختصين العارفين بهذا المجال بأمر واحد فقط: الموت!

لكن كيف تمكّن كيبتشوغي من جري هذه المسافة كلها، بهذا الزمن المستحيل؟ ولماذا رفض العالم حتى اليوم الاعتراف بهذا الإنجاز وإدراجه ضمن الأرقام القياسية العالمية؟

دعونا نرجع إلى البداية. سباقات الماراثون حول العالم بدأت في القرن التاسع عشر، عام 1896، لكن الإنجازات في هذه السباقات لم تدوّن من قبل الاتحاد الدولي لألعاب القوى (IAAF) إلا اعتبارًا من العام 1920، وأصبح الاتحاد الجهة الوحيدة التي تمنح الاعتراف بأي رقم قياسي جديد، ضمن معايير صارمة تتعلق بتسجيل السباق واعتماد المسافة والتأكد منها، إضافة إلى دراسة مسار السباق وتضاريسه وارتفاع الأرض التي يركض عليها العدّاؤون، والتقنيات المستخدمة في قياس الزمن، وغير ذلك من التفاصيل التقنية الدقيقة. وقد تطوّر الزمن الذي قطعه العداؤون المحترفون منذ تلك الفترة إلى يومنا هذا، إذ كان أسرع وقت مسجّل منذ العام 1908 هو للعداء الأمريكي جوني هايس بواقع (2:55:18)، ليستمر بعدها تطوّر أداء العدائين وطرق تدريبهم ودعمهم والتنافس بينهم، حتى وصلنا إلى عصر كيبتشوغي وبيكلي، بعيدًا عن حاجز الساعتين بدقيقة واحدة، هي التي تفصل في عرف الخبراء بين الطبيعي والخيالي، بل بين الحياة واحتمال الموت.

رغم ذلك، ظل المعنيون بهذه الصنعة يحاولون "شراء" هذه الدقيقة، فأعلنت شركة نايكي الأمريكية، التي تبلغ قيمتها السوقية 126 مليار دولار أمريكي، وتصل إيراداتها السنوية إلى حوالي 40 مليار دولار، أنها تسعى إلى كسر حاجز الساعتين، وذلك في مشروع أطلقته عام 2016 باسم (Breaking2)، دعت إليه ثلاثة من نخبة العدائين العالميين، وفي مقدمتهم بالطبع إليود كيبتشوغي، وسيرزيناي تاديسي، وليليسا ديسيسا. جمعت نايكي عدّها وعتادها وخبراءها وعلماءها كي تحضّر العدائين وظروف التجربة والعدائين المساعدين وفحص الظروف الجويّة وحركة الريح، ووضعت كل قدراتها من أجل أن يتمكن الثلاثة العدائون أو أحدهم من كسر هذه الدقيقة اللعينة. انتهت التجربة، لكن 25 ثانية فقط كانت كفيلة بفشل التجربة. كيبتشوغي أنهى الماراثون في ساعتين و25 ثانية، وتبعه زميلاه الأرتيري زيرسيناي بساعتين وست دقائق وواحد وخمسين ثانية، ثم الإثيوبي ديسيسا بساعتين و14 دقيقة و10 ثوان. 

(ويكيبيديا)

لكن الأمر لم يقف عند هذا الحدّ. ففي العام 2019 تم التجهيز لتحدّ جديد لكسر حاجز الساعتين، وتجاوز الثواني الخمس والعشرين المتبقية، بضغط فضول بشري يسعى لإثبات إمكان "بشريّ" ما، وعالمٍ من "البزنس" الرديف الذي بات متوحشًا بكل معنى الكلمة. فقد رأت شركة "إنيوس"، وهي شركة بريطانية للكيماويات، ضمن شركة أم تمتلك عددًا من العلامات التجارية الرياضية العالمية الفخمة في المملكة المتحدة، أن الأمر قد يتطلّب تجربة أخرى بمستوى أعلى من الدعم والتمويل.

(ويكيبيديا)

ومثلما جرى عام 2016، حظيت هذه التجربة بمستويات غير معقولة من الترتيبات والدعم والدراسات الميدانية والاختبارات البدنية والنفسية والتدريبات المخصصة والمعدّات والأجهزة التقنية، وصولًا إلى الملابس والأحذية، والمشروبات والمكملات الغذائية. كل ذلك كان يدفع المعلقين على التجربة للقول بأنها أشبه بمحاولة الوصول إلى القمر، لكن في عالم الرياضة. إنها لحظة "نيل أرمسترونغ" لكن على سطح الأرض هذه المرة على حدّ تعبير أحد المعلقين الرياضيين الذين تابعوا الحدث. بل إن كيبتشوغي نفسه كما تنقل مجلة الأتلانتيك الأمريكية تحدّث عن كسر حاجز الساعتين ووصفه بأنه شعر وكأنه قد بلغ القمر. محرر الأتلانتيك وكاتب المقال يسخر من هذه المقارنة ويقول: "قد تكون هذه المقارنة جريئة، لكن الوصول إلى القمر في عالم الجري قد تحقق بالفعل عام 1954 (مشيرًا إلى اللحظة التي ركض فيها العدّاء البريطاني روجر بانيستر ميلًا كاملًا بأقل من 4 دقائق لأول مرة في التاريخ)، أمّا ما حققه كيبتشوغي في كسر حاجز الساعتين في مسافة الماراثون، فهو أشبه بالهبوط على المريخ".

تحقق الحلم المراوغ بالفعل، وكسر كيبتشوغي حاجز الساعتين قاطعًا مسافة 42.2 كم في (1:59:40.2( على أرض مستوية في فينا عاصمة النمسا، في 12 تشرين الأول/أكتوبر 2019. ولكي أقرّب لك صورة عن سرعة ذلك، واستحالته، تخيّل أنّك تركض بأقصى قدر من سرعتك في أفضل ظروفك الصحية والبدنية، لكن ما فعله كيبتشوغي هو أنه فعل ذلك، لمدة ساعتين إلا 20 ثانية!

لكن الذي لم يتغيّر هو أن العالم لم يعترف بهذا الإنجاز، حيث ما تزال الجهات المخوّلة مصرّة على اعتبار ما حدث "مخالفًا للظروف الطبيعية" باعتبار حجم التدخلات التقنية التي أحاطت بكافّة تفاصيل تلك التجربة.

ظروف مثالية "مصطنعة"

 بحسب الأتلانتيك أيضًا، فإن التخطيط للتجربة بلغ حدًا "فانتازيًا" من المثالية. ابتداءً من تحديد مكان التجربة، على مضمار حول نهر الدانوب في النمسا، سطحه مستو تمامًا، على ارتفاع قريب من مستوى سطح البحر. أمام كيبتشوغي سيارة كهربائية ينطلق منها مؤشر ليزر ليعطيه فكرة عن السرعة التي يتوجب عليه الالتزام بها، وكان يركض من حوله 41 عدّاء مساندًا موزعين على مجموعات (يعرفون باسم "أرانب السباق"، وهم الذي يجرون مع العدّاء بالتناوب أثناء التدريب لتشجيعه على الحفاظ على سرعة ثابتة مطلوبة)، وكانت كل مجموعة تجري حوله بالتناوب وفق تشكيلة حدّدها الخبراء المختصون بعلوم الديناميكا الهوائية بشكل دقيق، تهدف إلى الحدّ من قوة الريح التي قد تؤثّر على سرعة كيبتشوغي.

أما كيبتشوغي نفسه، فشارك بالتجربة التي صمّمت خصيصًا من أجله، مرتديًا نسخة معدلة من حذاء "فابورفلاي" من نايكي، وهو حذاء مثير للجدل في عالم الجري لتأثيره بشكل زائد على سرعة العدائين في سباقات المسافات الطويلة. أما أثناء الجري فقد توفّر له أفضل مشروبات الطاقة المدعمة بالكربوهيدرات. أما موعد التجربة، فلم يحدّد بشكل قاطع، وإنما اختيرت له فترة من ثمانية أيام، كي يختار منها الخبراء اليوم الذي يتناسب لأقصى حدّ ممكن مع الظروف الجوية المثالية التي يطمحون لإجراء التجربة فيها.

تحقق الحلم المراوغ بالفعل، وكسر كيبتشوغي حاجز الساعتين قاطعًا مسافة 42.2 كم  على أرض مستوية في فينا عاصمة النمسا، في 12 تشرين الأول/أكتوبر 2019

كيبتشوغي في التجربة لم يكن يتنافس سوى مع نفسه، ما جعل التجربة نفسها خارج الظروف المعروفة لسباقات الماراثون الرسمية، وقد اجتمع ذلك مع الظروف "الفوق-مثالية" من الدعم والترتيب، حتى أنّ إنجاز كيبتشوغي لم يعترف به كرقم قياسيّ كما أسلفنا، ليبقى كسر حاجز الساعتين إنجازًا لم يتحقّق واقعيًا حتى هذه اللحظة، التي تسبق انتهاء ماراثون لندن بساعات قليلة.

كيبتشوغي في تحدي إينيوس 2019 (Getty)

الأسطورة هو كيبتشوغي نفسه

لكن الثابت في كل هذا الجدل حول الماراثون والتجارب المثيرة للجدل لكسر حاجز الساعتين، هو أن كيبتشوغي نفسه سيظل واحدًا من أعظم العدائين الذين عرفتهم البشرية، وهو الذي كان أصلًا من فتح الباب لمجرّد تفكير القائمين على صنعة الجري في العالم بأن قطع مسافة الماراثون في أقل من ساعتين من ضمن الممكنات البشرية التي يمكن أن نطمح إلى تحقيقها. باول بيسيغليو في مقاله سالف الذكر في الأتلانتيك اختصر الأمر بمقارنة محقّة حين قال إن كيبتشوغي في عالم الجري هو نظير مايكل جوردان في عالم كرة السلة، أسطورتان لا تتكرران. لقد كان تحدي "إنيسيو" تجربة غير متسقة مع سباقات الماراثون التي عرفها العالم منذ مطلع القرن العشرين، لكنه أيضًا دليل جديد على عظمة كيبتشوغي، وهو في نظر البعض انتصار جديد من نوع ما للبشرية، لما فيه على الأقلّ من برهنة على أثر العلم والتقنية على النشاط البشري في أقصى ممكناته. 

ما تبقّى من تحدّي "إينيوس" عام 2019 هو صورة كيبتشوغي نفسه لدى محبيه، الذي يذكره الجميع دومًا بأنه العدّاء الفلّاح الذي يقطع المسافات بسحر ابتسامته التي لا تفارق وجهه أثناء الجري، وفلسفته البسيطة التي ترى في الجري سبيلًا لعالم أكثر عدلًا وجمالًا للجميع.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الكتّاب العدّاؤون.. الجري امتدادًا لفعل الكتابة

عندما تفوّق هاروكي موراكامي عليّ في الجري!