إليف شافاق: لماذا ما زلنا في حاجة إلى الروايات؟
12 أكتوبر 2025
هذه المقالة ترجمة لمقالة Given up on reading? Elif Shafak on why we still need novels للكاتبة إليف شافاق على منصة The Guardian.
_________________________________________________________________
كشف استطلاع رأي حديث أجرته مؤسسة "YouGov" أن 40% من البريطانيين لم يقرأوا أي كتاب خلال العام الماضي. وقد تنبأ بذلك الكاتب فيليب روث عام 2000 قائلًا: "لقد انتهى عصر الأدب، والأدلة على ذلك واضحة في الثقافة، وفي المجتمع، وفي الشاشة". كان روث يعتقد أن الاستعداد العقلي الذي يحتاجه الأدب سيختفي حتمًا، وأن الناس سيفقدون العُزلة والتركيز اللازمين لقراءة الروايات.
وتبدو الدراسات الحديثة وكأنها تدعم استنتاجه، إذ انخفض متوسط قدرة الإنسان على التركيز على شيء واحد خلال العقود الأخيرة من نحو دقيقتين ونصف إلى ما يقارب 45 ثانية فقط. وقد لاحظت هذا بنفسي عندما ألقيت محاضرتين في مؤتمر "تيد" يفصل بينهما ما يقرب من عشر سنوات. في عام 2010 طُلب منا ألا يتجاوز زمن المحاضرة عشرين دقيقة، ثم خُفض إلى ثلاث عشرة دقيقة في 2017. وحين سألت عن السبب، أخبرني المنظمون أن متوسط مدى الانتباه قد تقلّص. ومع ذلك، ألقيت محاضرتي في عشرين دقيقة كاملة. وبالطريقة نفسها، أود أن أقاوم فكرة أننا لم نعد بحاجة إلى الروايات.
إذ تُظهر بيانات الاستطلاع نفسه الذي أجرته "YouGov" أن أكثر من 55% من القراء يفضّلون قراءة الروايات. وإذا تحدثت مع أي ناشر أو بائع كتب، سيؤكد لك الأمر نفسه، أن الناس ما زالت ترغب في قراءة الروايات. وبقاء هذا النوع من السرد الطويل حيًّا – حتى الآن – يُعد معجزة حقيقية في عالم يهيّمن عليه فرط المعلومات، وسرعة الاستهلاك، وعبادة الإشباع الفوري.
نحن نعيش في زمنٍ يفيض بالمعلومات، لكنّه يفتقر إلى المعرفة، بل ويفتقر أكثر إلى الحكمة. هذا الفائض من المعلومات يمنحنا في البداية شعورًا بالغرور ثم يصيبنا بالخدر. لذا علينا أن نغيّر هذه المعادلة، وأن نركّز أكثر على المعرفة والحكمة. ومن أجل تحقيق المعرفة، نحن بحاجة إلى الكتب، والصحافة البطيئة، والبودكاست، والتحليلات العميقة، والفعاليات الثقافية. أما من أجل الحكمة، فنحن بحاجة – ضمن أمور أخرى – إلى فن الحكي. نحن بحاجة إلى الكتابة الروائية.
في زمن السرعة والاستهلاك، ما زال أكثر من نصف القرّاء يختارون الروايات، وهي مفارقة تتجلى بالإقبال على السرد الطويل في عالمٍ قصير النَفَس
لكنني لا أدّعي على الإطلاق أن الروائيين حُكماء بل ربما العكس تمامًا، فنحن أقرب إلى فوضى متجسدة تسير على قدمين. لكن السرد الروائي يساعدنا لأنه يحمل في طيّاته البصيرة، والتعاطف، والذكاء العاطفي، والرحمة. وهذا ما قصده ميلان كونديرا حين قال: "حكمة الرواية تختلف تمامًا عن حكمة الفلسفة". وفي النهاية، يبقى فنّ الحكاية أقدم وأكثر حكمة منّا نحن البشر، والكُتّاب يدركون ذلك في أعماقهم، وكذلك القرّاء.
لقد لاحظت في السنوات الأخيرة تغيّرًا في الفئات العُمرية لروّاد الفعاليات الأدبية والمهرجانات الثقافية في بريطانيا، إذ أصبحت أرى عددًا متزايدًا من الشباب. بعضهم يأتي بصحبة والديه، لكن كثيرون يأتون بمفردهم أو مع أصدقائهم. كما يوجد ازدياد ملحوظ في حضور الشباب الذكور لفعاليات الأدب الروائي.
يبدو لي أن كلما ازداد عالمنا اضطرابًا، ازدادت حاجتنا إلى التمهل وقراءة الأدب. ففي عصر الغضب والقلق، وتضارب الثوابت، وتصاعد النزعات القومية والشعبوية، يتعمق الانقسام بين "نحن" و"هم". ووحدها الرواية تهدم هذه الثنائيات.
منذ ملحمة جلجامش، ألقى السرد الطويل بسحره الهادئ على البشر. تعد هذه الملحمة، التي يبلغ عمرها أكثر من أربعة آلاف عام، واحدة من أقدم الأعمال الأدبية في التاريخ، فهي تسبق قصيدة "التحوّلات" لأوفيد، و"الإلياذة والأوديسة" لهوميروس. وهي أيضًا قصة استثنائية ببطلٍ غير مألوف في مركزها. ففي القصيدة، يظهر الملك جلجامش مضطرب الروح والقلب، وهو أيضًا غليظ، وأناني، ومدفوع بشهوة القوة والتملّك والسيطرة. وظل هكذا حتى أرسلت الآلهة إليه رفيقًا: إنكيدو. معًا، سينطلقان في رحلاتٍ بعيدة، ويكتشفان أراضٍ أخرى، والأهم أنهما سيكتشفان أنفسهما أيضًا.
إنها ليست قصة عن الصداقة فحسب، بل عن موضوعات أخرى كثيرة، مثل قدرة الماء والفيضانات على تدمير بيئتنا أو تجديدها، وعن رغبتنا في إطالة أمد الشباب، وعن خوفنا من الموت. في العديد من الأساطير الكلاسيكية، يعود البطل إلى وطنه منتصرًا، لكن ليس في ملحمة جلجامش. فهنا نجد بطلًا فقد صديقه العزيز، وفشل في كل شيء تقريبًا، ولم يحقق أي نصر واضح. ومع ذلك، بعدما ذاق جلجامش مرارة الفشل والهزيمة والحُزن والخوف، يتحول إلى إنسان أكثر رقة وحكمة. فهذه القصيدة القديمة تتحدث عن إمكانية التغيير، وعن حاجتنا العميقة إلى الحكمة.
منذ أن رُويت ملحمة جلجامش ودُوِّنت، سقطت إمبراطوريات وملوك لا حصر لهم، وانتهى عهد "الرجال الأقوياء"، وتحولت أضخم المعالم إلى غبار، ومع ذلك ظلّت هذه القصيدة حيّة وصامدة أمام تقلبات التاريخ، وها نحن، بعد آلاف السنين، ما زلنا نتعلّم منها. فالملك جلجامش، بعد رحلاته وخيباته، يعيد التواصل مع ضعفه الإنساني وقدرته على الصمود في الوقت نفسه. يتعلّم جلجامش كيف يصبح إنسانًا. وهذا بالضبط ما يحدث معنا حين نقرأ روايات عن أشخاص آخرين.