03-يوليو-2016

Photo by Daniel Berehulak/Getty Images

بعد عام من منتصف عشرينيات القرن المنصرم تنحرف عقارب الساعة نحو الثانية وأربعين دقيقة بتوقيت الانحناء الشهير لنهر التايمز، تباغت الأم إرهاصات الولادة في منزل والدتها بشارع بورتون، تولد تلك الطفلة الجميلة ليفرح قاطنو برمنجهام بالمولودة الأولى لملكهم حاكم تلك البلاد التي لا تنطوي الشمس أبدًا عن أنظارها، وجاءت الوريثة الثالثة لحكم ما يقرب من ربع سكان العالم، لم تتوانَ المربية الفاضلة كورفي عن إعداد الوريثة الجديدة للعرش، ولا أحد يعلم إن كان ميلادها هو موعد الغروب لإمبراطورية ما وراء البحار.

زغلول ورفاقه يدعون إلى استقلال أرض الكنانة عن التاج البريطاني، تتسلم الدولة الجليدية الناشئة في أعالي العالم الجديد زمام الأمور في إدارة شؤون مواطنيها الوافدين من كل حدب وصوب، مايكل كولين يناضل من أجل انفصال أيرلندا عن إمبراطورية ما وراء البحار. نعود إلى تلك الصغيرة الحسناء الآن أصبح عمرها قرابة الخمسة عشر ربيعًا، بلادها تحارب من أجل أوروبا في حرب عالمية لا يعلم أحد متى تنتهي، وكشيم الملوك والأمراء إبان الأزمات، تمسك الصغيرة بميكرفون هيئة الإذاعة البريطانية مخاطبة الأطفال الآخرين الذين تم إجلاؤهم من المدن وتقول: "إننا نحاول فعل كل ما بوسعنا من أجل مساندة جنودنا والبحارة والطيارين البواسل، كما نحاول أيضا تحمل نصيبنا من أسى وخطر الحرب ونعلم جميعًا أن في النهاية كل شيء سيكون على ما يُرام".

اقرأ/ي أيضًا: بريطانيا العظمى بين الخيال والحقيقة

قبل أن ينتحر هتلر وتضع الحرب أوزارها كانت الأميرة تقود شاحنة الصليب الأحمر البريطاني لإنقاذ الجرحى والمصابين. ينتصر تشرشل بمساعدة القوى الصاعدة في أقصى الغرب، الآن أوروبا مستقلة، ولكن بلا شباب وبلا مال وبلا أمل، قطبا الشرق والغرب يعلمان أن الفرصة قد حانت لكي يرثا الأم العجوز. أدركا أنه لا قيمة لبسط السيادة العسكرية وفقدان المزيد من الأرواح طالما يمكن أن يوكل الأمر إلى حفنة من أصحاب البدل الكاكي من القوميين أصحاب الشعارات الرنانة لوراثة ممتلكات الأمم العجوز المنهكة اقتصاديًا من آثار الحرب.

في عام 1947 تتزوج الأميرة من فليب دوق ادنبرة بسبب إجراءات التقشف التي كانت سارية المفعول سنة 1947، لجأت الملكة إلى القسائم التموينية لشراء مستلزمات ثوب زفافها، وكان جورج السادس على فراش المرض. ويتكرر ظهور الشابة الجميلة في المناسبات بدلًا منه.

في رحلتها السياحية بكينيا يأتيها الخبر اليقين: أنتِ الآن ملكة هذا العرش الثقيل المتمرد. وفي دير وستمنستر وقبل ثلاثة وستين عامًا من الآن تعتلي إليزابيث الثانية عرش بريطانيا، تتعالى النزعات القومية، زعماء وهميون، وعسكر طالما كانوا كاذبين يعدون شعوبهم بالاستقلال والحرية والديمقراطية. لقد تقاسم السوفيت والأمريكان أمر هؤلاء المخبولين بالسلطة، ناصر مصر وآل نهرو الهند وتيتو يوغوسلافيا وفرانكو إسبانيا وهوشي منه فيتنام وسوهارتو ماليزيا وآل سعود الحجاز وغيرهم ممن أقنعوا شعوبهم أنهم يعملون على استقلالهم وما كانوا إلا مجرد مندوبين لحكم السوفيت والأمريكان. فتلك الشعوب لا استقلال لها طالما تسبح بين ضفتي الشيوعية السوفيتية والرأسمالية الأمريكية.

إليزابيث تفقد في الثلاثة عقود الأولى من حكمها كل من بورما وسيلون وملايو ومالطا وغانا ونيجيريا والصومال وسياليون وكينيا وزنزبار وجامبيا وبتسوانا وسويزرلاند وجنوب إفريقيا وهوندراس وزيمبابوي وزامبيا وجمايكا وترينيداد وتوباجو وباربادوس وبروني وغيرهم من الدول والجزر الأخرى في أنحاء هذا العالم، تفقد بعدها المملكة البريطانية سيطرتها على دول الكاريبي. لندن غارقة في أزمات اقتصادية. إليزابيث الجميلة تفقد أراضي مملكتها واحدة تلو الأخرى.

وفي نهاية السبعينيات تظهر امرأة ذات طابع فريد وشخصية قوية إنها مارجريت تاتشر، المرأة الحديدية التي تولت زمام الأمور في حقبة الثمانينيات، وهي الحقبة الوحيدة في العهد الإليزابيثي التي صمدت فيها بريطانيا ضد محاولات الانهيار. حافظت المرأة القوية على عرش المرأة الجميلة في اتحاد نسائي نادر من أجل التاج البريطاني، ولأول مرة منذ حرب قناة السويس تتدخل لندن عسكريًا للدفاع عن أراضيها في جزر فوكلاند التابعة للأرجنتين، تحتفظ بريطانيا بسيطرتها على ما يزيد عن أربع عشرة دولة خارج الجزر البريطانية، تسمى بمجموعها بـ "أراضي ما وراء البحار البريطانية"، انضمت بريطانيا على استحياء إلى الاتحاد الأوروبي مع بعض من الخصوصية الاقتصادية والتشريعية. لم يكن البريطانيون يومًا متحمسين لفكرة انضمامهم إلى الاتحاد الأوروبي منذ دخلوه عام 1973.

اقرأ/ي أيضًا: الربيع الأوروبي.. بداية لتفكيك القارة العجوز

وقد ظل المشككون في جدوى الاتحاد يعبّرون بصخب عن رغبتهم في الانسحاب منه. يتولى توني بلير زمام الأمور بالتزامن مع وصول الرئيس الأرعن إلى سدة حكم بلاد العم سام، يقرران سويًا: "هيا بنا نحرق العالم ونحارب في أفغانستان وبلاد الرافدين". ليواجه العالم أكبر أزمة مالية منذ العشرينيات.

تنقلب الأمور رأسًا علي عقب، اليونان تغرق في الديون، إيطاليا وإسبانيا على المحك، يشعر البريطانيون أن هؤلاء عالة على اقتصادهم، تلوح أزمات المهاجرين واللاجئين إبان فترة الربيع العربي، لتعج لندن بالجنسيات والأعراق المختلفة، مزيدًا من الاختلاف الذي قد يؤدي إلى الانفجار.

الإنجليز يشعرون أن الاتحاد الأوروبي أصبح عبئًا ثقيلًا على كاهلهم، الصراع الانتخابي بين حزبي المحافظين والعمال، وفور حزب المحافظين في الانتخابات البرلمانية في مايو/أيار عام 2015. أكد حينها زعيم الحزب ديفيد كاميرون في خطاب الانتصار على وعده الانتخابي المتعلق بإجراء استفتاء شعبي حول بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.

الآن السيدة الجميلة في عقدها التاسع، كأكبر ملكة في تاريخ العالم، تواجه بلادها مخاطر التفكك والانهيار إبان استفتاء يونيو لعام 2016، أيرلندا واسكتلندا يريدان البقاء ويدعوان إلى الانفصال عن تاج الملكة، إليزابيث الجميلة تقدم بها العمر وتتهاوى إمبراطوريتها بصورة درماتيكية مأساوية. نحن أبناء العالم جميعًا في أي من بقاعه كنا تحت سيطرة نظام عالمي خاضع للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وقد انتقلت ملكيتنا إلى معسكري الشرق والغرب، لا نحلم باستقلال زائف، دفة العالم لابد أن تقودها إحدى القوى العظمى. تلك هي الحتمية التاريخية منذ إمبراطورية رمسيس الثاني.

اقرأ/ي أيضًا:

7 حجج وراء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي

هل يكون البريكسيت نذير فوز ترامب بالرئاسة؟