01-فبراير-2023
إلياس كانيتي

إلياس كانيتي (1905- 1994)

إلياس كانيتي (1905- 1994) روائي وكاتب مسرحي وباحث ألماني. حاصل على نوبل للآداب عام 1981، كان مهتمًا بالأدب والسياسة وعلم الاجتماع والفلسفة.

لم يكتب إلياس كانيتي سوى رواية واحدة.  كان الجزء الأساسي في نتاجه هو كتابة السير الذاتية، خصوصًا في حصيلة الملحوظات والتسجيلات ودوام التفكّر الطويل بالأشياء.  

كانيتي لم يفِ بوعده، كما كتب مرارًا، حين نوى وضعَ كتاب "ضد الموت"، ولكن في الملحوظات والخواطر التي كان يكتبها يوميًا، كثير منها عالج موضوع الموت وإعلان حربه الهاجسية التي أعلنها عليه.

ناشر كتبه الألماني جمع هذه النصوص اليوميّة التي يجمعها هاجس الموت وأصدرها في تحفة أدبيّة عزّ نظيرُها.

من أعماله

في المسرح: العرس، كوميديا الأباطيل، المستفيدون من التأجيل.

في الرواية: له عمل واحد هو "الإعدام حرقًا".

في السيرة الذاتية: اللّسان الناجي، المشغل في الأذن، ألعاب النّظر.

وله عمل يتيم ينتمي إلى أدب الرّحلة هو عبارة عن تحقيق كتب بعد زيارته إلى مراكش المغربيّة بعنوان "أصوات مراكش" عام 1968 لاقى استحسان القارئ الأوروبي آنذاك.

هنا مختارات من كتاباته الأخيرة "ضد الموت"


1943

 

الموت ابن الإله، وأخرس والده.

قد يكون الموت أسهل

إذا لم يبق شيء أبدًا من الذات

أي ذكرى يحفظها شخص آخر،

وأي اسم وأي إرادة أخيرة

وبلا جثة.

 

1948

 

التقدّم في السّن هو التخلي عن الحركة

أو لا أسافر في كلّ مكان من العالم

ثم تستقرّ في مدينة.

وبعد سنوات عدة، تنزل في البيت، ثم في الغرفة.

في الغرفة لا يعود العجوز قادرًا على النهوض

فينام.

 

1951

 

أيهما أكثر تقديسًا، الضحية التي لا تشك في شيء

أو الضحية الواعية، ابراهيم أم إسحق،

أو أي ميت أو المسيح،

الحيوان أو الجنديّ؟

إنه السّؤال الكبير لكلّ عقيدة

ومن يجرؤ على الحسم؟

 

1952

 

هل يمكن للغة لا تعرف كلمة "الموت"

أن تكون قابلة للحياة؟

 

1955

 

اروِ، اروِ، حتى يتمنى أحد لا يموت أيّ شخص.

ألف ليلة وليلة،

مليون وليلة.

 

1960

 

ماذا عساني أفعل إذا قال الطبيب: أنت لا تشكو من أي شيء. سأنادي فيزا ثم سأذهب للتنزه قليلًا في المدينة، وربما، أشتري بعض الكتب. لأنه من دون شراء كتب، لا أستطيع الشعور بالانفعال، إنه كالكحول عند الآخرين، ثم وابتداء من هذه الليلة، أنكبُّ على الكتابة كمجنون، كلّ يوم، وأضع عددًا محددًا من الصفحات، لا تكون صغيرة جدًا.

وماذا عساني أفعل إذا قال لي الطبيب: نت مصاب بالسرطان، سأنادي فيزا وسأقول لها تمامًا ما قلت في تلك الحالة.. ربما أجعل صوتي أكثر فرحًا لكن أكثر إقناعًا. وبدلًا من ذهابي للتنزه، أذهب إلى المقهى وأتناقش مع ذاتي. أكف عن شراء الكتب.

مساء، قبل هبوط الليل، أجلس إلى طاولة عملي وأنكبُّ على الكتابة. أضعُ على الأقل عشر صفحات خارقة. وفي غضون ذلك، أذهبُ لأحادث أخي. في الصيف أسافر مع فيزا. أريد أن أذهب إلى باريس وإلى زوريخ وإلى فيينا. وأعيش أخيرًا كما كان يجب أن أعيش دومًا، بنشاط، محموم، وحتى ولو لم يتبق لي سوى سنة للعيش، سأخلق أكبر رواية في عصرنا، حيث تكون كل كلمة غير مسبوقة، بالإضافة إلى أمور أخرى.

واحد أكمل نتاجه في الثلاثين ويموت مئويًا. فلديه الوقت ليعرف المجد، النسيان، ثم إعادة الاكتشاف.

 

1964

 

أنشأت مكتبة تكفيني لثلاثمئة عام،

وكلُّ ما أحتاجُ إليه

هو فقط لهذه السّنة.

 

1965

 

صورة سيارات لا تحصى من سيارات هذه المدينة، سيرها الذي لا يتوقف والذي يؤدي إلى الاصطدامات.

السيارة التي يُرجى اختراعها أيضًا، هي التي تكون فيها المنجى من كل الأخطار. ولا نكون معرضين مجددًا للموت. إلاّ عند الخروج منها. سيارات آمنة. آمنًا تمامًا، يركبها الناس، لحظة واحدة، ليحسّوا بالخلود. سيارتي في منأى عن خطر، إنها أقلامي. فما دمت أكتب فإني أحس أنني بأمان. وما يهم، هو عدم التوقف.

وذلك قد يكون أي شيء بالنسبة إليّ، إلاّ إذا كان رسالة، أي لا شيء يكون مفروضًا من الخارج. وإذا لم أكتب شيئًا على امتداد أيام، فأنا ضائع، بائس، كئيب، هش، شكاك، مؤرق بألف خطرة.

كنتُ أريد العزلة. وها أنا أمتلكها الآن. ولكن هل ما زلت أريدها؟ ما من عزلة إلاّ ضد الأحياء. فضد الموت هي غير موجودة. وهم موجودون دائمًا هنا.

 

1966

 

الاكتشافات الأكثر أهمية، الأكثر معقولية،

الأكثر إيلامًا، الأكثر صبرًا،

الأكثر صحّة، لم تستطع حتى الآن خرمشة سطح

الموت.

وما دامت ستبقى عاجزة

فيمكن للشعراء أن يخرمشوا بهدوء.

 

1971

 

ذكرى أي كائن فقدناه يمكن منحنا الحب لكل الآخرين. ماذا فقد المسيح؟ فجوة الأناجيل. قرأت ما كتبه مختلف الفلاسفة عن الموت، وشعرت بالخجل منهم. أتراني الوحيد الذي اكتشف مجددًا السبيل المؤدي إلى الشعور الأول للبشرية البدائية؟ أترى موت أبي المبكّر وفر لي استعارة هذا الصوت؟

أتراه كانت الضحية الضرورية لهذا الاكتشاف الأساسي؟

هذا لا يترك فيه أيّ ظلّ للشك بأني كان يمكن أن أكون شخصًا مختلفًا، لو كنت بقيت في تلك الفترة في إنجلترا، لو لم يمت أبي أبكر أكيد، كنت أصبحت شاعرًا باللغة الإنجليزية، لكن لا أستطيع تصوّر أنّه لولا هذه الصدمة النفسية الأصلية، لكان لي أن أكتب،أشياء لا قيمة لها وعندها كنت سأكون طبيبًا. ومن دون أدنى شك، هناك أحداث أساسية تغيرك تغييرًا جذريًا.

نافذة، صغيرة، تطل على مستقبل تخلّص من الموت.

 

1973

 

ملحوظة من الفترة الزوريخية، عندما كنا نقيم في شارع سو شير: كنت أتمنى الموت البطولي من أجل أمي؟

كتبت ذلك على قصاصة ورق دسستها في كتاب. وكان شعوري كبيرٌ بالخجل عندما اكتشفت أمي هذه القصاصة من الورق. كنت أفكر بحريق أرمي نفسي فيه لأنقذها. كنت أتصور نفسي مدمرًا للنار بيدي. كنت حينئذ في الثانية عشرة.

كنت صغيرًا، ونحيلًا، لكنني لم أكن أقلق علاوة على ذلك من الطريقة التي سأتخذها لحملها.

كنت أرى الحريق التي سأرمي نفسي فيه بشجاعة، كنت أرى نفسي حاملًا أمي بذراعيّ. وكان رائعًا أن أنجح في إنقاذها، وكنت لأموت وأنا أضحي بنفسي من أجلها.

لم أكن أفكر لا بالحروق ولا بالألم، الشيء الوحيد الذي كان يهمني هو أن أموت من أجلها.

 

1978

 

ماذا حلّ بكل ما تكدس فيك، من هذه الأشياء، كل هذه الأشياء، كمية هائلة من الذكريات الحزينة، والعادات، والأسئلة غير المسبوقة، والأجوبة المجمدة، والأفكار، والانفعالات، ومن الحنان، ومن القسوة، كل ذلك، كل ذلك، ماذا سيحل بها إذا انطفأت الحياة فيك. كل هذا التكديس، من أجل لا شيء؟

 

1980

 

الزلزال الأرضي هو شكل الموت الأكثر خصوصية: الأرض كقاتلة.

الفظيع ليس في افتراس الحيوانات بعضها بعضًا، ذلك لأنها ماذا تعرف عن الموت؟ فالبشر الذين يعرفون "ما الموت"، يستمرون في القتل.

كم من الوقت يلزم العيش للتخلص مما يسميكم شبابًا؟

 

1981

 

هذا المنطق الذي تلفع به وجود غوته: جان بول هولدرلن، أ. ت. هدفهمان، كلايست، نوفاليس، حنيبعل.

 مُتَّسع من المكان في هذه الحياة.

 

1982

 

عندما توفيت أمي، اقسمت بأن أكتبَ كتابًا عن الموت. أعدت قراءة هذا الوعد قبل البارحة، في الرسائل التي كتبت إلى فيزا. قرأت في منتصف الليل كما في الأيام الخوالي، وكتبت أيضًا في تلك الفترة يجب أن تصبح خالدة. وهذا ما صارته، ومنذ ذلك الحين، كذلك تلك التي كتبت ذلك. فهي أيضًا صارت خالدة. وما دام هناك بشر، فلن يستطيع أحد أن ينتزعهما منهما ذلك.

لكن ما لم أكتب، هو ذلك الكتاب ضد الموت. بهذا أنا مذنب، منذ 15 حزيران 1937، قبل 45 عامًا.

عليّ أن أجد وقتًا لهذا الكتاب.

 

1983

 

اليوم تبلغ هيرا زوجتي الخمسين عامًا.

أن أكون عشت هذا اليوم، يعزيني بكثير من الأمور.

كنا جالسين ثلاثتنا إلى الطاولة التي وضعت عليها الزهور الحمراء الكبيرة المفتوحة التي اعتدناها منذ وضعها بشكل مختلف.

كان يومًا هادئًا، ضحكة جوهانا السعيدة، بسمة هيرا المشرقة، مزحاتي الثقيلة نوعًا ما.

لا أحد يعرف مما هو مصنوع المستقبل، عذابات ترتسم من كلّ جثة وقد مرّت الآن، وربما في المرة القادمة لن ترحل، ربما ستكون النهاية، لكن في هذا النهار جاءت. كنت جالسًا برفقة أحبائي المهمين وملاكيّ، وإذا كان عليّ أن أذهب ستبقى هذه الصورة في عيني.

 

1986

 

مات في نومي

بمَ كانَ يحلُم؟

 

1987

 

آن الأوان للتخلّي عن الموت، كلّ الناس يعرفون أنّك تكرهه. والتّكرار لا يجعل كرهك أحدَّ، وإنما مضجر.

 

1990

 

في كل ميتة، هو العام كله يموت. إنّه معنى المسيح على الصليب.

التفكر في أنّ إيمان اليهود يرتبط بإيمان الفراعنة. التفكر في أنني أهملت الله لمصلحة أوزيريس؟

لكنت شاركت في الهجرة. لكن ما كنت بقيت إلى جانب معتقداتي.

بين الرومان، ما كنت صرت مسيحيًا، كنت ملت الى إيزيس. ليست إيزيس التي تحمل طفلها، ولكن إيزيس التي تبحث عن بقايا أوزيرس وتشرحها.

هناك فترات قاتمة وطويلة في حياتي نسيت فيها إيزيس لكن حدث أن توفي أحد أحبائي، فانطلقت ومثلها، إلى بحثي.

لكنني لم أجد أبدًا البقايا.

الطفولي منك، إنّك بعد سبعين عامًا، لم تتقبل موت والدك. كنت في السابعة، هذه الطفولة بالذات، هذه الطفولية، التي يمكن أن تكون ضرورية للعالم.

 

1992

 

توصلت شيئًا فشيئًا إلى القول لنفسي، أنّه ما من شيء أتفه أو أسخف وأكثر ابتذالًا وديماغوجية إلا معركتي ضد الموت.

لماذا عدم اللامبالاة بالمكان الذي فيه قبرنا؟

أناس يأتون، فيما بعد، ليروا أين "نرتاح".

إنه لم يعد يتنفس ولكنه استمر في القراءة.

 

1993

 

أنا التسعيني عندي مشروع لأصبح بروست جديدًا سيبدأ غدًا.

لا يُترك شيء. نترك جملًا ركيكة الكتابة، وأكثر غموضًا في الفهم.

لكن إذا كان حقًا كلّ شيء باطلًا، إذا كان حقًا لم تعطِ ثمان وثمانون سنة شيئًا جيدًا، إذا كانت كلّ ساعة، كلّ يوم، كلّ شهر، كلّ سنة تضيع في العدم، لماذا إذن تستمر في تسجيل ما يعذبك!!

هذه الجمل أليست هنا لتكون مقروءة من شخص ما وتضيء. من عساه يلتقطها، يهضمها، يتفكّرها، ويجعل منها عسلًا؟