13-يناير-2022

كاريكاتير لـ غاري ووترز/ فرنسا

منذ فترةٍ وجيزة، أعلنت وزارة الأوقاف والشئون الإسلاميّة في الكويت عن نيّتها إقامةَ محاضرة وجاهيّة للأستاذ في كليّة الشريعة د. محمد العصيمي، تحت عنوان: "الفكر النسويّ وخطره على المجتمع الإسلاميّ". وكان مزمعًا أن تُقام المحاضرة يوم الخميس، الثالث والعشرين من كانون الأوّل/ديسمبر، 2021. تفاوتت ردود الأفعال إزاء عنوان المحاضرة، فبينما أيّده جمعٌ، اعترضت جموعٌ عليه، وعدّته تسخيفًا وقدْحًا في جهود النّساء المشتغلات في حقول الدّفاع عن حقوق المرأة في شتّى المجالات. وثمّة من رأى أنّ عناية وزارة من وزارات الدولة بنشاطٍ مثل هذا ما كانت لِتُشهَد لولا تواطؤ الدولة وتسامحها مع تمرير أفكار باغضة ومُشَيْطِنة للحراكات النسويّة ومشوّهة لمجهوداتها في تحقيق العدالة. وذهبت إحدى جرائد الكويت إلى أبعد من ذلك، فنشرت مقطعًا مرئيًّا قصيرًا تنكرُ فيه على وزارة الأوقاف مبادرتها لإقامة المحاضرة، وتربطه بحملةٍ مُزامنة للوزارة تظهر فيها فتاة "فاتها القطار" كما تحبّ مجتمعاتنا أن تصف الظاهرة، فلم تتزوّج بسبب إيلائها الأهميّة لتحصيل دراستها العليا، التي ما إنْ أنهتْها، حتى ندمتْ لفوات الفرصة وتمنّت لو أنّها أخذَتْ بنصيحة والدتها التي أرادتها أن تقدّم الزواج على طموحها الشخصيّ. وعلى إثر هذه الاعتراضات، التي كان أبرزها موقف الجريدة المضادّ، ضُيّق على الوزارة بشكلٍ أو بآخر، حتى اضطرّت إلى إلغاء المحاضرة، فأخذ زميلُ الأستاذ العصيمي، الأستاذ مطلق الجاسر، زمامَ المبادرة، وقرّر استضافة رفيقه في كليّة الشريعة في مساحةٍ صوتيّةٍ على تويتر في الليلةِ ذاتها، مساءَ الخميس.

بالنسبة لمحمد العصيمي فإن الإسلام قد شرّف المرأة، ولذا فإنّ محاضرته لم تكن عن النساء، بل عن النسويّة التي هي، كما يرى، "تحريفٌ للمرأة عن مكانها الطبيعيّ"؛ أي المنزل

وبصرفِ النّظر عن العنوان المُختار للمحاضرة الذي من الطبيعي أن يستفزّ جموعًا بإيحاءاته السلبيّة المتَّهِمة، كنتُ أنا ضمن بضعة أصواتٍ في الفضاء الإلكترونيّ رأتْ أنّ الدعوة إلى الإلغاء ليست الحلّ الأمثل للتعبير عن الاستياء. ولذا، حين تقرّر أن تُقام الندوة عبر الأثير، حضرتُها ودوّنتُ بعض الملاحظات، متطلّعة إلى أنْ أُعْطى فرصة السؤال والتعقيب. لكنّ المستضيف وصاحبه ما استجابا لطلبات المشاركة في ختام الندوة، رغم أنّهما قد بدَيَا واثقيْن مُطْلَقَ الثّقة بمصداقيّة آرائهما. فعلامَ يقلقهما السؤال؟ ولمَ قد تُخيفهما المداخلة وقد بدا من نبرتيهما أنّهما يتأبّطان الحقيقة تأبُّطًا؟ أوما كان أجدى بهما أن يستمعا لما ستقوله النسوة ممّن حضرن على الأقلّ؟ عليّ أنْ أعترفَ بأنّ التجاهل أغضبني بادئ الأمر، فأنا أعشق التنبّؤ بسبُل أمثالهما في ردّ السؤال على صاحبه إذا ما هدّد أحكامًا اعتُنِقَتْ دون طول نظرٍ أو إعمال فكر. لكنّني أُنقِذْتُ بعدئذ بكلماتٍ للجاحظ، استحضارها ذكّرني أنّ الكتابة أنجع وأرفع من الردّ الشفاهيّ الآنيّ الذي قد يحتملُ إخطاءً وعجلة وأمرًا أشدّ ضررًا يرصده أبو عمرو في مقدّمة الحيوان، فيقول: "إذ كان مع التلاقي يشتدّ التصنّع، ويكثرُ التظالم، وتُفرِطُ العصبيّة، وتقوى الحميّة؛ وعند المواجهة والمقابلة، يشتدّ حبُّ الغَلَبة، وشهوة المباهاة والرّياسة، مع الاستحياء من الرّجوع، والأنفة من الخضوع؛ وعن جميع ذلك تحدثُ الضغائن، ويظهرُ التباين، وإذا كانت القلوب على هذه الصّفة وعلى هذه الهيئة، امتنعتْ عن التعرّف، وعميَتْ عن مواضع الدلالة".

اقرأ/ي أيضًا: فلسطين.. نسوية وتمويل

أيّها الفاضلان، لعلّنا نتّفقُ على أنّ التّراجع عن قولٍ أو مراجعته ممّا يشقُّ على النّفس ويثقل عليها. ومع ذلك، هأنذا أكاتِبُكما مطالبةً إيّاكما بمراجعة ما تعتقدان فيه تمام الصّدق ومطلق الحقّ، ذلك أنّني أُحسِن بكما الظّنون وأعرف أنّكما قلتما ما قلتماه قناعةً منكما بواجب ذودكما عن الدّين؛ ذات الدّين الذي يأمركما باتّهام نفسيكما الأمّارة بالسّوء، والذي يشدّدُ على التبيّن في الأمور خشيةَ أن تُصيبا قومًا بجهالةٍ، فتُصبحا بفعلتكما في الآخرةِ من النادمين، والعياذُ بالله!

لقدْ قُلتَ يا أستاذ مُحمّد في مستهلّ كلامك مستاءً ممّن تسبّب في إلغاء المحاضرة إنّنا "لا يجب ولا يصحّ أن نحكمَ قبل أن نستمع"، رغم أنّ العنوان – أيّها الفاضل – يشي بوجود مؤامرة نسويّة على المجتمعات الإسلاميّة، مثلما يوهم قارئه وقارئته أنّ غاية النسويّة العظمى هي القضاء على الأديان وتخريب المجتمعات. فهو، إذًا، عنوانٌ يتضمّن حكمًا واضحًا وضوحَ شمس الظهيرة في الجزيرة. ومع ذلك، أنا معك فيما قرّرته: لا يصحّ أن نصدر حكمًا عامًّا قبل أن نتثبّت. والقراءة تثبّتٌ واستماع. فأخبرني يا مُحمّد: ماذا قرأت فيما حاضَرْتَ به؟ وممّن استمعت؟ وما سبيلك في الاستدلال والتبيّن لتصل إلى حتميّة آرائك وعموميّتها في النسويّة؟ فإنّني أنأى بك عن أن تكون مثل أحمد بن عبد الوهّاب ليس عندك غير أنّك "تشدو من العلم، وتنتِفُ من الأخبار، وتُمَوّهُ نفسك" على حدّ تعبير الجاحظ.

الاعتقاد بأنّ النسويّة كلّ متجانس أو أيديولوجيا ذات رؤى ثابتة تحدّد المكان الطبيعيّ من غير الطبيعيّ للمرأة، هو افتراضٌ يُرد إلى قلّة اطّلاع وتقصيرٍ

قلتَ إنّ الإسلام قد شرّف المرأة، ولذا فإنّ المحاضرة لن تكون عن النساء (!)، بل عن النسويّة التي هي – بتعبيرِك – "تحريفٌ للمرأة عن مكانها الطبيعيّ"؛ تقصدُ المنزلَ بالمكان كما بيّنت. في كلامك – أيّها الفاضل – افتراضان؛ الأوّل جليّ وهو ادّعاؤك أنّ ثمّة "مكان طبيعيّ" وحيد للمرأة يقرّه الإسلام وتريد النسويّة تقويضه ومحاربته؛ والثاني اعتقادك أنّ النسويّة كلٌّ متجانس أو أيديولوجيا ذات رؤى ثابتة تحدّد المكان الطبيعيّ من غير الطبيعيّ للمرأة. وهو افتراضٌ، اسمح لي أن أردّه إلى قلّة اطّلاع وتقصيرٍ في النّظر يشاركك فيهما زميلك الأستاذ مطلق الجاسر الذي خَلُصَ إلى نتيجة عجيبة بأنّ النسويّات "يحتقرن ذواتهنّ". على أيّة حال، فلنُرجئ التعليق على ما أطلقتماه من أحكامٍ هنا قليلًا لنرجعَ إلى "مكان المرأة الطبيعيّ" في الإسلام. إذا كان "الطبيعيُّ" (وأنت هنا تخلط ما بين الطبيعيّ والشرعيّ أو ما تظنّه طبيعيًّا وتظنّه شرعيًّا) أنْ تَلزم النساءُ بيوتهنّ وأُسَرَهُنّ، أَوَ تكونُ إذن قيادةُ عائشة بنت أبي بكر جيشًا من الرّجال إلى البصرة ردًّا لحكم الله فيها أم تأوّلًا للمقاصد؟ أو، قل لي: أتكون فروسيّة نسيبة بنت كعب أو خولة بنت الأزور إثمًا؟ ويكون جلوس الشعراء إلى سُكينة بنت الحسين في المحافل زندقةً؟ وتكون هجرة أمّ كلثوم بنت عقبة (أوّل امرأة تخرجُ من مكّة إلى المدينة دون أخٍ أو زوجٍ أو أبٍ، وحين طالب بها أخواها في مكّة، نزل الوحي ناهيًا: "فإن علمتموهنّ مؤمناتٍ فلا تُرجعوهنّ")، أتكون هجرتها معصيةً؟ أوْ تكون التي جادلتْ النبيَّ في زوجها فَجَرَتْ، وقد سمعَ اللهُ شكواها؟ هؤلاء نسوة بين كثيرات شهدْن هبوط الوحي أو كنّ قريبات العهد به، ولم يلتزمْن "مكانهنّ الطبيعيّ" حسب وصفك.

اقرأ/ي أيضًا: عالَمٌ بلا نِساء!

دعْني أيّها الفاضلُ أشرح لكَ ببعض الإيجاز ما فعلْتَ في محاضرتك: إنّك في سبيل استمالة السامعين والسامعات، وجّهت الحديثَ إلى ضرورة الذود عن الدين وحماية الأسرة. وبإعلانك تبنّي قيمتين يتّفق عليهما العامّة ويشترك معظم الناس في التسليم بأهميّتهما، أردْتَ أن تضعَ الجمهور في حالة نفسيّةٍ تهيّئُه لقبول أحكامك دون مساءلة، إذ جعلْتَ من مبدأ المنافحة عن الأسرة والدين متَّكَأً تستند عليه في شيْطَنَتِك للدراسات أو النشاطات النسويّة. فظنْنتَ أنّك غيرُ مضطرٍّ لتجاوز العموميّات إلى الإسهاب في مناقشة التفاصيل والنظريّات أو الوقائع، وأنّك غيرُ مُحتاجٍ إلى إكثار النّظر فيما أتيتَ تحذّر منه، أو إلى إطالة التأمّل فيما ادّعيت مناقضته لمكانة المرأة في الإسلام. وذلك أنّك توهّمتَ أنّك بانطلاقك من رأي مشتركٍ وأمرٍ مسلّمٍ به، واتّخاذك إيّاه مقدّمةً تروم بها تحقيق الإقناعِ بما تعتقدُ نفعه أو ضرره، تتضاءل حاجتك إلى التزوّد من المعرفةِ والنظرِ في الجزئيّات أو "مزاحمة البحر بالجداول". قد تقول إنّني مهووسة باللغة وتحليل الخطاب، لكنّ الأمرَ في حالتكما – لأكون أكثر صراحةً معك – لا يحتاجُ إلى كشفِ الحجب ونزع الستار. فلقد أضحى هذا الخطاب مُسْتهلَكًا حدّ الأُلفة ومفضوحًا إلى درجةٍ تجعلني أكادُ أجزم أنّ العشرات أو ربّما المئات ممّن استمع إليكما تمنّى لو أنّكما خالفتما التوقّعات، ورفعتما من مستوى الحجج باطّلاعكما – أو حاولتما ذلك على الأقل –، لتتمكّنا من مزج البرهانيّ بالبيانيّ على نحوٍ أكثرَ تماسكًا وتحديًّا؛ يُحترَم فيه السامع والسامعة ويُتعامل معهما على أنّهما ندّان في تحصيل المعرفة لا أقلّ.

باعتمادك على مقدّمات مسلّمٍ بها، قلتَ مستنكرًا: لا يمكن أن يكون الزوج قائمًا بأعمال المنزل، مشدّدًا على أنّ النسويّة "صرفٌ للأسرة عن وظيفتها الأساسيّة، وتعكير لصفو دوامها"، وذلك في عرضِ حديثك عمّا سمّيته – ويا للعجب! – بالدور "التكامليّ" بين النساء والرجال. لسنا بحاجة إلى تحليلٍ لنعرف طبعًا أنّ الوظيفة الأساسيّة هنا موكلة إلى المرأة فقط. كلامٌ عامُّ فيه الكثير من سوء الفهم الناتج عن ندرة المطالعة، مثلما فيه تسخيفٌ للمطالب النسويّة في رفع الظلم القائم على التحيّزات الجنسانيّة. كلامٌ سئمنا الاستدراك على قائليه واستهلاك ذواتنا في الشّرح لمن لا يجهدُ نفسه في بلوغ الفهم في زمن صار فيه شدّ الرّحال لتلقّي العلم يتحصّل بالجلوس إلى جهازٍ يحمّل آلاف الكتبِ والمقالات. لكن، أيّها الفاضل، دعْ عنك سأمي ونسويّتي، ولنَزِن صرامتك في تحديد الأدوار المناسبة للمرأة والرّجل بميزانٍ نبويّ. فهذه – على الضدّ من النسويّة – لغةٌ تشتركُ معي في فهمها. أليس كذلك؟

حين سُئلت عائشة بنت أبي بكر عمّا كان يفعله النبيّ في بيته، في البخاري، نصّ المتن أنه "كان يكونُ في مهنة أهله – تعني خدمة أهله"

أيّها الفاضل، حين سُئلت عائشة بنت أبي بكر عمّا كان يفعله النبيّ في بيته، أتذكرُ ما قالت؟ في البخاري، نصّ المتن أنه "كان يكونُ في مهنة أهله – تعني خدمة أهله"، وعند ابن حجر بتخريج أحمد، أنّها قالت "كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم"، وفي رواية للزهريّ زيادة "يحلب شاته" و"يرقع دلوه". فإنْ قلتَ إنّ أخلاق النبوّة استثناء، أو قلتَ ما كان الأمر على سبيل العادة وإنما يُفهَمُ الأمرُ على الأحيان، رددتك إلى آخر المتن عند ابن حجر، أو عند الزهريّ – بتخريج الترمذيّ – حيث تختمُ بـقولها "ما كان إلا بشرًا من البشر"؛ فإنّ في الملفوظين على اختلافهما دلالات واضحةٌ لمن استدلّ واستنطق. جاءت إجابات عائشة جُمَلًا فعليّة مضارعة تدلّ ببساطة شديدة على الاستمرار. ولو أنّ الأمرَ كان محمولًا على الأحيان لاستثْنَتْ واستدْرَكَتْ وهي الفصيحة اللّبيبة، أو أنّه كان خاصًّا بأخلاقِ النبوّة، لما ردّتْ الأمر إلى العادة والعُرف بمُوازاتها الأعمال المنزليّة جدًّا التي كان يقوم بها النبيّ بأعمال أيّ رجلٍ آخر في بيته. أليستْ في لغتها دلالةٌ على شيوع الفعل وشهرته إلى درجة غياب الحدّ الفاصل في تحديد إيكال دور "الوظيفة الأساسيّة" لطرفي العلاقة الزوجيّة؟! الوظيفة التي استبْعدْتَ أن يكون الرجل قائمًا بها، فأوّلتَ ما وصفته بالتكامل على أنّه تعيينٌ لأدوار ثابتة وصارمة، الخروج عنها خروجٌ عن "الطبيعة".

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "من تاريخ الحركة النسوية اليهودية".. النسوية الدينية

أيّها الأستاذان، إنّني أبذلُ جهدًا عظيمًا في إحسانِ الظنّ بكما وفي احترام درجاتكما العلميّة ومكانتكما الأكاديميّة، فهل أحسنتما أنتما إليها حين اتّخذتما من الاعتراف بمكانتكما الفاضلة سببًا يُمرّر لكما خلط الحابل بالنابل حين اتّهمتما مصداقيّة الناشطات في حقوق المرأة، وحين أفتيتما في النسويّة؛ أي فيما لم تبلغا فيه من جديّة المطالعة ما يؤهّلكما لذلك؟ معاذ الله أن أكون اتّهمتكما زورًا، فما أنا إلّا مستمعةٌ أجادتْ الإنصات، وهي تدركُ أنّ البلوغ في المعارف يكون على قدر العناية، وأنّ العناية تتطلّب إطالة النظر، وأنّ النظرَ لن يكثُر– على حدّ قول الجاحظ – حتى تكثُر الخواطر، "ولن تكثر الخواطر حتى تكثر الحوائج، ولن تبعد الرؤية إلا لبُعد الغاية وشدّة الحاجة". فإذا لمْ تُضطًهد حقوقكما، ولمْ تُسلباها أو تُقايَضا عليها، ولم تُعاملا كمواطنَيْن من الدرجة الثانية في دولة تدّعي المدنيّة، ولم يُتحكّم بمصيريكما واختياراتكما، فمن أين ستكثر حوائجكما للبحث في دراساتٍ ونظريّات تعنى بإنهاء التحيّزات الاجتماعية والسياسيّة وغيرها ضدّ النساء؟ إلّا أن تكون لديكما حاجة في تحقيق العدل والإحسان ورفع المظالم كافّة. وكم هي مهمّة شاقّة أن نرى الأشياء على ما هي عليه فنعترف بها وندرك تقصيرنا وامتيازاتنا وتحيّزاتنا.

لقد قلتَ يا أستاذ مطلق – وهأنذا أعود لاستنتاجك العجيب – إنّ النسويّات "يحتقرن ذواتهنّ" بمطالبتهنّ المساواة لأنّ في ذلك اتّهامًا لأنفسهنّ بالعيب والنقص – أو كما قلت –، مستدلًّا على ما خلُصتَ إليه بقول لسيمون دي بوفوار تتمنى فيه لو أنّها لم تكنْ امرأة. فلنفكّر بالأمر على النحو الذي اقترحته أيّها الفاضل، ونتساءل: لو أنّ رجلًا سُجِن ظلمًا فتمنّى حريّته، أيكون مُحتقرًا نفسه إذ تمنّى خلاصًا لعذاباته أم يكون محترمًا لذاته راغبًا في تغيير الظروف أو الأنظمة التي أدّت إلى ظلمه؟ الإجابة بدهيّة لكلينا، ولذا فلنعد لدي بوفوار التي تمنّت "لو أنّها لم تكن امرأة". أنا أيّها الفاضل لا أدري عن أيّ مقالة أخذت معلومتك، أو من أيّ صفحة ويكيبيديا اقتطعتها، لكنّني أعرف كيف أضع القول في سياق كتاباتها، لا سيّما في "الجنس الثاني"، الذي ناقشت فيه بتفصيلٍ فكرةَ أنّ "المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح كذلك". وما تعنيه بقولها هذا – والحديث عن مجتمعها تحديدًا بصرف النظر عن التقاطعات الممكنة مع سياقات أخرى – أنّ المعايير الأنثويّة وتحديد ما هو مقبولٌ وغيرُ مقبولٍ من النساء أمورٌ سابقة الوجود على وجود المرأة. بمعنى أنّ البنت تكبر في ظلّ وجود تعريف سابق على ماهيّتها مستمدّ – حسب دي بوفوار – من مفاهيم مجتمعيّة ذكوريّة ترى المرأة موضوعًا لا ذاتًا؛ أي أنّها تنزع عنها أهليّتها في الاختيار والكينونة. ولذلك تدعو دي بوفوار النساء إلى أن يُعِدن صياغة ذواتهنّ بمحاولة التحرّر ممّا قد فرضه عليهنّ النظام الذكوريّ من أدوار. وهكذا، حين تتمنّى دي بوفوار لو أنّها لم تولد امرأة في مجتمع يحدّد فيه الرجال أدوار الأنوثة وماهيّتها، إنّها تتمنّى خلاصًا من قيودٍ كبّلت النساء وتحكّمت بمصائرهنّ، أي أنّها تتمنى لو أنّها ما اضطرّت إلى أن تكون في موقعٍ يستلزم منها نضالًا مستمرًّا لتخرجَ عن تعريفٍ اختير لها كرهًا. هل تبدو لك الرغبة في حريّة الاختيار – التي هي بلغة الشرع شرط التكليف والمحاسبة – "تحقيرًا للذات"؟!

قال مطلق الجاسر إنّ النسويّات "يحتقرن ذواتهنّ" بمطالبتهنّ المساواة لأنّ في ذلك اتّهامًا لأنفسهنّ بالعيب والنقص

أرجوك ألا تُخطئ فهمي هنا، أو تأخذ كلامي دفاعًا مُطلقًا عن دي بوفوار أيّها الفاضل. فأنا ما أردتُ غير تبيان خطئك في الفهم الناتج عن تحيّزك وقلّة عنايتك في بلوغ المعرفة. هذا عدا عن أنّكما – كما أشرتُ في موضعٍ سالف هنا – تفترضان أنّ النسويّة كلٌّ متجانسٌ أو مذهبٌ أصوليّ يأخذُ بمبدئي "إجماع الجمهور" و"لحوم العلماء مسمومة" اللذين تتبنّيانهما على الأغلب. ولذلك، حين هاجمتَ دي بوفوار محاكمًا حياتها، بعد تحليلك العجيب "لتحقيرها ذاتها"، ظنْنتَ أنّك جرّحتَ برمحِ نقدك جوهر النسوية، واعتقدْتَ أنّك قد خدَشْتَ صورة المثال النسويّ المنزّه عن النقد والتخطيء والمراجعة عند النسويّات. لعلّي أخيّب ظنونكما أيّها الفاضلان إنْ أخبرتكما أنّ نقودات نسويّة كثيرة كُتبت عن فلسفة دي بوفوار، أو أخبرتكما أنّ النسويّة – مثل أيّ حقل معرفيّ آخر – مرّت بمراحل تاريخيّة تُراجَعُ فيها أفكار وكتابات وممارسات منظّراتها ومنظّريها، حتّى تفرّعت منها مدارسُ ذات رؤى مختلفة، منها الإسلامي، والاشتراكي، والراديكالي، والليبرالي، وما بعد الاستعماري، وغيرها. وهي مدراس وإن اتّفقت على وجود المشكلة، اختلفت في تحديد ماهيّـتها وسبل القضاء عليها. ولو أنّكما سمحتما في نهاية المحاضرة بالتعليق، لاستدركتُ عليكما بهذا التنبيه البسيط. لكنّني بالتأكيد لم أكُنْ لأحرصَ على شرح تاريخ الفكر النسويّ لكما، فمكانتكما أستاذين جامعيّين تؤهّلكما لمعرفة طرق البحث الصحيحة؛ كل ما تحتاجانه أيّها الفاضلان أن تكثرَ حوائجكما فتكثرَ خواطركما فيكثرَ سعيكما في طلب معرفةِ ما لا تعرفانه حقّ المعرفة.

اقرأ/ي أيضًا: مسودة في نقد النسوية

أرجو أيّها الكريمان ألا أكون مدّعية حين أقول إنّكما قد وقعتما في حيْص بيْص في مواضعَ كثيرة، لا تقتصر على ما سبق التعليق عليه. فقد اختلطت عليكما الأمور حدّ ألّا تفرّقا بين ما تنتقده النسويّة وما تتبنّاه. فقلت أيّها الفاضلُ محمّد ما معناه أنّ النسويّة صنيع "الرأسماليّة"، وأنّ الفكر النسويّ وراء ما نراه من تسليعٍ لأجساد النساء في الإعلام. وهذا والله من أعجب ما سمعت، وإنْ أعجبْ، فعجبٌ قولكم! فإنّك قد ظلمْتَ بجملتك هذه دراساتٍ ونشاطات ومبادرات نسويّة حاربَتْ على مدى عصورٍ وما زالتْ تقاوم تشييء المرأة وتسليعها؛ ليس في الإعلام فقط، بل في كافّة المجالات. وإنّني لا أجانبُ صوابًا لو قلتُ إنّ أبرز من تصدّى بالقلم لتاريخ التعامل مع النساء بوصفهنّ "موضوعات" و"أشياء" هنّ الناقدات النسويّات في مجالات الفنون والآداب وعلوم الاجتماع والدراسات الثقافيّة وما بعد الاستعماريّة، وغيرها.  خطأ فادحٌ منك أيّها الأستاذ أن تتّهم النسويّة بتبنّي ما تجتهدُ مدارسها في تقويضه؛ خطأٌ ما كنتَ اقترفته، لو أنّكَ أطلْتَ النّظر، وما اكتفيتَ بالاعتماد على مكانتك الفاضلة في تمرير أحكامك. خطأٌ تنطلق فيه – أغلب الظنّ – عن اعتقادٍ بأنّ النسويّة "انحلال".

إنّ النسويّة يا محمّد ليست كما وصفتَ (وكثيرةٌ أوصافك!) بأنّها "خَلْقُ صراعٍ بين المرأة والرجل"، وإنمّا هي صراعٌ مع الأنظمة التي تضطهد المرأة وتعدّها دون الرجلِ منزلةً واستحقاقًا للحقوق، مرّةً باسم الطبيعة، ومرّةً باسم المجتمع، ومرّةً باسم الله والأديان (لا سيّما إن كان من نصّب نفسه قاضيًا يُفتي في مصائر النساء رجلَ دينٍ يتعامل مع النصوص حرفيًّا لا مقاصديًّا؛ يُملي فهمه علينا ويتوقّع أن نقول: آمين!). هذا الصراعُ – كما تسمّيه –، أو النضالُ – مثلما أحبّ أنا أن أسمّيه – من أجلِ نيلِ حياةٍ كريمةٍ آمنةٍ يسودها العدلُ ويُقضى فيها على كلّ أشكال القمع والاضطهاد (أوليست هذه دعوة إسلاميّة في جوهرها أيضًا؟!). فإذا كنتما تُنكران وجود تلك الأشكال أو تسخّفان من واقعيّتها، كنتَما جزءًا من المشكلة التي نسعى جاهدات لمحاربتها؛ لا لأنّكما رجلان، بل لأنّكما رجلان اختارا أن يحافظا على الأوضاع القائمة بإنكارهما وجود المشكلة، وإصرارهما بذلك على أن يكونا سببًا في استمرار ظلم المؤسسات والأنظمة للنساء مستغلَّيْن انحياز ميزان القوى لصالحهما. ولقد فعلْتَ ذلك أيها الأستاذ محمّد إذ اتّهمتَ الناشطات النسويّات في الكويت بتعمّد "خلقِ الصّراع" (وكأنّ في الأمر تسلية!)، حين أتيتَ على ذكر حملات المطالبة بحماية النساء المعنَّفات. فقلتَ باستخفافٍ هذي مبالغة في تصوير ما سميّته "حالاتٍ شاذّة أو فرديّة" في المجتمع. ولو أنّك – دون حاجةٍ لإطالة النّظر – تأمّلت في أخبار السنتين الماضيتين فقط، لرأيتَ تصاعدًا مفجعًا في أرقام القتلى من النساء اللاتي رخصت أرواحهنّ بفعل تهاون القوانين مع قتلتهنّ وقلّة مبالاة مؤسّسات الدولة، وسوءِ تأويلٍ للدّين، ورجال ذوي امتيازاتٍ يرون من الظاهرة "حالاتٍ شاذّة". ولو كنتما أكثر عنايةً بما حكمتما عليه بالشاذّ النادر واتّهمتما النسويّات لسعيهنّ في القضاء عليه بأنّهنّ متآمراتٌ على المجتمع، لما نطقتما بالأحكام جزافًا وألقيتما بالكلام على عواهنه من دون تبصّر، ولَأَدْرَكْتُما أنّ في الإنكار تآمرًا على المجتمع وفي تشخيص العلل ثم محاولة استئصال الأورامِ بعد الاعتراف بها ضمانًا ببناء مجتمعاتٍ أكثر أمنًا وعدالةً، لا تتعرّض فيها النساء كلّ يومٍ إلى شتّى أنواع التعنيف اللّفظي والجسديّ (راجعا على سبيل المثال دراسة لوزارة العدل في الكويت تحلّل قضايا العنف ضدّ المرأة – المبلّغ عنها فقط – خلال عشر سنوات 2000-2009، ثمّ واجهاني بادّعاء "الشذوذ". بكبسة زرّ، وبلا حاجةٍ إلى خيلٍ وسرجٍ وشدّ رحالٍ، تحصلان عليها!)

النسويّة ليست "خَلْقُ صراعٍ بين المرأة والرجل"، وإنمّا هي صراعٌ مع الأنظمة التي تضطهد المرأة وتعدّها دون الرجلِ منزلةً واستحقاقًا للحقوق

اقرأ/ي أيضًا: صناعة العلاقات العامة من المنظور الجندري

لقد أكّدتُ لكما أيّها الفاضلان في غير موضعٍ أنّني لستُ أهدفُ إلى الأخذ بيديكما لأشرح لكما ما استهترتَما بجدواه واتّهمتماه على غير هدىً. وأجدني بذلتُ جهدي لئلا أتجاوز التعقيب والإشارة إلى الشرح المستفيض والتدريس، وإن كنتُ لم آتِ على ذكر كلّ مغالطاتكما التي سئمتُ عدّها وتدوينها. فأنا أيّها الأستاذان يرهقني توضيح الواضح، وليس يصحُّ في الأفهامِ شيءٌ إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلُ. ومع ذلك، هأنذا كتبت لكما أعلّقُ على بعض قلتماه في تلك المحاضرة، لأنّني لم أسطعْ معكما صبرًا. أسأل المولى أنْ "يجعلَ بينكما وبين المعرفةِ نسبًا، وبين الصدق سببًا، وأن يزيّنَ في عيونكما الإنصاف". آمين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كتاب "المرأة في العصور الوسطى الإسلامية".. تهافت الصورة النمطية للمرأة المسلمة