15-مايو-2016

على قمة إحدى تلال الجليل الخضراء أقصى شمال أراضي فلسطين الانتدابية (إسرائيل حاليًا)، وعلى بعد كيلومترات قليلة عن الأراضي اللبنانية، تعج قرية "إقـرث" المهجّرة بحياة مصغّرة منذ قرابة أربع سنوات، أبطالها شبانٌ وشابات يمثلون الجيل الثالث لما يعرف فلسطينيًا بالـ"النكبة".

مما لا شك فيه، أن تجربة إقرث فرضت مشهدًا جديدًا للقرى الفلسطينية المهجّرة، والذي كان مختزلا بتلك البيوت الحجرية المهجورة 

كغيرها من قرى فلسطين المدمرة، والتي يقدّر عددها بحوالي 531، غابت الحياة عن إقرث لعقود طويلة، ولم يتبق من معالمها سوى كنيسة الروم الكاثوليك ومقبرة مسيحية.

ففي عام 1948، أجلي سكان إقرث من مساكنهم، ونزحوا دون مقاومة إلى بلدات فلسطينية مجاورة وأخرى لبنانية، على أمل العودة بعد فترة قصيرة مؤقتة، بحسب وعود القوات الإسرائيلية، إلا أن ذلك لم يحصل قط، حتى هُدمت مساكن القرية كاملة ليلة عيد الميلاد من عام 1951.

في الأعوام اللاحقة، خاض أهالي إقرث معارك قانونية عبر المحاكم الإسرائيلية، إذ حصلوا لاحقـًا على قرار نادر من نوعه في التاريخ الإسرائيلي، والذي يقضي بأحقية أهالي القرية بالعودة إلى مساكنهم التي أخرجوا منها رغمًا عنهم، لكنه ظل حبرًا على ورق طوال عقود، ولم تنفذه السلطات الإسرائيلية "لأسباب أمنية نظرًا لقرب القرية من الحدود اللبنانية"، على حد وصفها.

اقرأ/ي أيضًا: المقاومة الفلسطينية واستغلال الحكومات العربية

تطبيقٌ عملي للعودة

بالرغم من عدم انقطاع الزيارات شبه الشهرية إلى إقرث المهجرة طوال سنوات في ظل المنع من العودة، إلا أن شبان وشابات القرية لم يسلموا بالأمر الواقع، بل كان لهم رأي آخر. ففي أغسطس\تموز من عام 2012، وتزامنًا مع ما يعرف بـ"الربيع العربي" الذي فجره شبان العرب في بلدانهم، حسم شبان إقرث قرارهم القاضي بالعودة الكاملة إلى إقرث والاستقرار فيها على مدار الساعة، رغمًا عن السلطات الإسرائيلية.

"إقرث كانت مكانًا للزيارة لاستذكار ما حل بنا عام 1948. مع الوقت، أدركت أنها أكثر من ذلك، فهي بيتنا الحقيقي الذي يجب أن نعيش فيه، لا أن نكتفي بزيارته"، يقول أحد شبان القرية أمير طعمة، والذي يدرس العلوم السياسية في جامعة حيفا.

ويؤكد طعمة أن لعائلته فضلٌ كبير في وعيه الوطني، مشيرًا إلى أنه تربى على كونه فلسطينيًا يعيش في "الداخل"، على حد تعبيره، كما ترعرع على ضرورة ممارسة هويته الوطنية في كل مكان.

أما ميساء سبيت، والتي ينحدر كلا والديها من قرية إقرث، فقد ولدت في مدينة حيفا الساحلية، حيث نزحت عائلتها، لكنها اختارت العودة إلى إقرث مع أقرانها صيف 2012.

تقول سبيت: "نؤمن بحقنا في العيش على أرض أجدادنا كحق طبيعي وشرعي، أقرته المحكمة العليا. نعرف أن الظروف السياسية الإقليمية تجعل تطبيق العودة صعب المنال، لكن خصوصية وضعنا كأهالي إقرث ومهجّري الداخل، تضعنا في موقف متقدم نوعًا ما، وتحت مسؤولية أكبر".

عقبات لا بد منها

فكرة العودة الشبابية قد تبدو رومانسية غير قابلة للتطبيق للوهلة الأولى، إلا أنها تحققت رغم المعيقات. إذ بدأ الشبان بتهيئة مبنى الكنسية وما يحيطها، وزرعوا بعض النباتات وأحضروا حمارًا وبضع دجاجات، كما جمعوا الحطب للشتاء، وأمنّوا المياه للصيف الحار، وهيؤوا ملعبًا لكرة القدم، ووضعوا لافتة تشير إلى مدخل القرية الترابي بكلمة "إقرث".

وفي هذا تقول سبيت: "فترة الشتاء لم تكن سهلة كون الغرفة الملاصقة للكنيسة، والتي يسكن فيها الشبان، غير مجهزة بأساسيات السكن". لكنها تؤكد أن "إصرار الشباب تخطى كل العقبات".

تواجُد الشبان في قريتهم يسري وفق نظام المناوبة، أو "الورديات" كما يعرف محليًا، نظرًا لاحتمالية بعد القرية عن أماكن عمل/دراسة البعض.

الشابة رلى جرّيس، والتي نزحت عائلتها إلى بلدة كفر ياسيف المجاورة، حيث ولدت، تشير إلى الأمر لم يرق إطلاقًا للسلطات الإسرائيلية، والتي داهمت القرية مرات عديدة بهدف مصادرة بعض الممتلكات أو تدميرها، منوهة إلى اعتقال عددٍ من الشبان أثناء محاولتهم اعتراض القوات الإسرائيلية، إضافة إلى إعلان إقرث "منطقة عسكرية مغلقة" بين الحين والآخر، مما جعل تواجد العائدين أمرًا يخالف القانون، بل ويجيز إيقافهم.

مع مرور الوقت، أسس شبان القرية صفحة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك أسموها "إقرث"، باللغات الثلاث، العربية والإنجليزية والعبرية. توثق الصفحة الحياة اليومية لشبان القرية، وتدعو الجماهير الفلسطينية للمشاركة بفعاليات القرية المختلفة. كما نشأت علاقات وثيقة بين سكان إقرث وعدد من القرى المجاورة، كسحماتا والبصّة وكفر برعم.

اقرأ/ي أيضًا: إف_35..آخر الهدايا الأمريكية لإسرائيل

العودة كخطر وجودي

"تحرص إسرائيل على السيطرة على أكبر مساحة من الأرض، بأقل عدد من السكان الفلسطينيين" تضيف الشابة رلى جرّيس، وتتابع: "العودة أمر مقلق للغاية للكيان الاستعماري، كونه يهز وجوده، فهو يعيش قلقًا وجوديًا دائمًا من عودة اللاجئين".

على الرغم من إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة لقرارها رقم 194، عام 1948، والذي ينّص في إحدى مواده على "وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم.."، إلا أن ملف اللاجئين يبقى الأكثر حساسية للجانب الإسرائيلي.

السياسيون الفلسطينيون يعتبرونها قضية من قضايا ملف مفاوضات الحل النهائي، إلا أن القيادات الإسرائيلية المتعاقبة لم تتقبل حتى طرحها. إذ اعتبروها خطرًا حقيقيًا يهدد التركيبة الديموغرافية لإسرائيل، والذي قد يقضي كليًا على مشروع الدولة. بل تؤمن إسرائيل بحلٍ مبنيٍ على ثلاث عناصر مترابطة: "إعادة توطين اللاجئين في أماكن سكنهم، تحسين أوضاع معيشتهم، واندماجهم استنادًا للمعاير الإنسانية القانونية".

كما يعتبر إسرائيليون قرار العودة 194 صادرًا كـ "توصية غير ملزمة"، في حين يؤمن آخرون بأن "ملف اللاجئين نتج عن حربين فرضتا على دولتهم عامي 1948 و1967".

لكن على الأرض، باتت إقرث نموذجًـا للعائدين، الذين فرضوا عودتهم على السلطات، كما أضحت وجهة للناشطين من كافة أنحاء البلاد، وتمكنت من جذب وسائل إعلامية كبيرة لطرح ملفهم.

مما لا شك فيه، أن تجربة إقرث فرضت مشهدًا جديدًا للقرى الفلسطينية المهجّرة، والذي كان مختزلا بتلك البيوت الحجرية المهجورة الغارقة بين الأعشاب الطويلة. لقد عاد مشهد الحياة الجزئية إلى إقرث وكنيستها، حيث تنظم الصلوات الأسبوعية، والفعاليات الشهرية، "فأن تزور إقرث يعني أن تشعر أن العودة باتت أقرب"، كما تختم الشابة ميساء سبيت.

اقرأ/ي أيضًا:

جزيرة فاضل..هنا يرقد حلم العودة إلى فلسطين

ثلاثة عوامل وراء عاصفة النفط العالمية