05-يونيو-2020

من صحف الثورة السورية

بقي السوريون منذ استيلاء حزب البعث على السلطة في سوريا، خاصة بعد انقضاض حافظ الأسد على البلد، بلا صحافة ولا إعلام! كان صوتهم مخنوقًا، مبحوحًا، مقتولًا أكثر من نصف قرن. التلفزيون الرسمي والراديو الرسمي والصحف الرسمية كانت صوت النظام فقط، بل صوت القائد الملهم، الحكيم. الشعب الذي كان يُصدر صحفًا صباحية وأخرى مسائية في مرحلة ما قبل البعث، وكانت الصحافة وسيلته للقول والكتابة والتفكير والنقد والسخرية والتهكم وإسقاط الحكومات وتقويم اعوجاجها وفضحها، وكانت وسيلته للتسلية أيضًا، بقي أكثر من نصف قرن بلا صحافة!

عاش السوريون منذ استيلاء حزب البعث على السلطة في سوريا، خاصة بعد انقضاض حافظ الأسد على البلد، بلا صحافة ولا إعلام!

كيف يمكن أن يتحقق ذلك لشعب من شعوب الأرض؟ ذلك هو سر الاستبداد التاريخي، سر استبداد من نوع خاص، استبداد غير مُغطّى بأية بهرجة، بأية زخارف، بأية خدائع، استبداد معلن ومكشوف على نحو صفيق، استبداد يعتقل معارضيه ويسجنهم لمدة خمس وعشرين عامًا، وأحيانًا أكثر، على مرأى من الجميع؛ شعبه وشعوب العالم وحكامه أيضًا! ذلك فقط ما يفسر بقاء شعب منتج للصحافة والإعلام بلا صحافة وإعلام طيلة تلك المدة.

اقرأ/ي أيضًا: رامي مخلوف.. سقوط المحرّم الرابع

خلال الثورة، في عامها الأول فقط، أسّس شباب الثورة وصباياها عددًا كبيرًا من الصحف والمواقع والصفحات التي تنقل أخبار الثورة وتطوراتها ومجرياتها، وتعرض لآراء المشاركين فيها. بعض الصحف كانت تصدر ورقيًّا أيضًا، لكن ليس دائمًا لتعذر ذلك داخل سوريا، وللتكلفة المرتفعة للطباعة في الخارج. بالإضافة إلى ذلك أنشئت شبكات إخبارية كانت تنقل الحدث بعد تصويره بكاميرا موبايل غالبًا، منها، كمثال، شبكة شام الإخبارية -وهي قد تكون أول شبكة إعلام سورية بدأت بنقل أخبار ونشاطات الثورة- التي تأسست منذ شباط/فبراير 2011 أي قبل انطلاقة الثورة بأيام! ربما كعمل استباقي، فقد كانت كافة الدلائل في هذه الفترة تشير إلى إمكانية قيام ثورة في سوريا. وقد استطاع بعض إعلاميي الثورة بث الفيديوهات مباشرة عبر بعض القنوات التلفزيونية: أورينت، العربية، والجزيرة كمثال. عدا الصفحات الإعلامية التي أنشئت على موقع الفيسبوك، وعدا الفيديوهات التي كان ينشرها بعضهم على موقع يوتيوب بمبادرة فردية أحيانًا. أظهرت هذه الصحف والمواقع وباقي الوسائل قدرات الشباب والصبايا الإعلامية التي كانت غائبة غيابًا شبه كامل عن العمل الإعلامي ما قبل الثورة، سواء في الصحف الثلاث أو في صحافة المنطقة والصحافة العربية!

قد يكون سبب هذه الثورة الإعلامية إضافة إلى الرغبة التي فرضها الواقع لرصد مجريات الثورة ونقل أخبارها إلى العالم، هو، أيضًا، إحياء النزعة السورية التاريخية في إنتاج الصحافة والإعلام التي اندثرت خلال حكم الاستبداد منذ أكثر من نصف قرن من جانب، وإرضاء شوق مقموع في العمل الصحافي والإعلامي من جانب آخر. تنوعت هذه الصحف والمواقع وباقي الوسائل بين العمل الإخباري والسياسي وبين العمل الثقافي، كما ظهرت صحف ومواقع  وصفحات فيسبوك وشبكات إخبارية، أيضًا، لنقل مجريات المعارك بين الجيش الحر بداية والنظام منذ أن عبرت الثورة ذلك العبور المرير نحو التسلح. ثمة صحف بقيت لفترة مواظبة على الصدور من داخل سوريا منذ نشأتها، وبعضها توقف لأسباب عديدة سواء في الداخل أو في الخارج. توقفها في الخارج كان غالبًا لأسباب مالية، أما في الداخل، فبالإضافة للأسباب المالية، ثمة أسباب أمنية، وجودية: بعض الإعلاميين استشهد، فقد سُجّل استشهاد عدد كبير من إعلاميي الثورة الذين بدأ نشاطهم مع انطلاقة الثورة ولم يكن لهم وجود على أي وسيلة إعلامية قبلها، وبعضهم اعتُقل، وبعضهم هُجِّر أو نزح... لكن الثابت أن طاقات السوري في العمل الإعلامي تفجرت دفعة واحدة، وتطورت على نحو احترافي يومًا إثر يوم بلا دورات تدريبية ولا شهادات خبرة ولا معلمين ولا أكاديميات! الميدان، الشجاعة، الثورية، الرغبة التي لا تُردّ ولا تزول في إسقاط النظام... ذلك هو ما حفّز العمل الإعلامي وطوره.

الميدان، الشجاعة، الثورية، الرغبة التي لا تُردّ ولا تزول في إسقاط النظام... ذلك هو ما حفّز العمل الإعلامي السوري وطوره

وبالاستناد على نتائج العمل الصحفي في سنوات الثورة الأولى المتمثل في إيصال صوت الثورة إلى العالم، وكشف الملابسات التي انطوت عليها مجريات العمل الميداني، بالإضافة إلى كشف الكذب والتضليل اللذين لم تنفك الثورة المضادة تروج لهما، وغير ذلك... نستطيع القول إنه كان عملًا ناجحًا إلى حد كبير على الرغم من حملات التشويه التي طالته سواء من أنصار الثورة أو من خصومها وأعدائها، وعلى الرغم من التهديد بالموت الذي كان النظام يواجههم به، وعلى الرغم، أيضًا، من أن منظمة "مراسلون بلا حدود" صنفت سوريا كأخطر بلد في العالم على الصحفيين خلال عامي 2013 – 2014، بالإضافة إلى المخاطر الأخرى التي تهدد الجميع، وليس الإعلاميين فحسب، كالاشتباكات وسقوط القذائف هنا وهناك وتدمير البيوت والقصف الجوي وخطر الاعتقال وغيرها.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا نكتب عن سوريا؟

رافق تلك الثورة الإعلامية جهد نقدي من مثقفين ومن إعلاميين. تناول هذا الجهد النقدي عمل وأداء الوسائل الإعلامية. بعضهم اعتبر أن لا استراتيجية واضحة لدى بعض هذه الوسائل، وبعضهم اعتبر أن لا خبرة لدى إعلامييها، وبعضهم عاب على بعضهم (انعدام الموضوعية) التي يجب أن يتسم بها الإعلامي كما الوسيلة الإعلامية من حيث وجوب (الحياد) في نقل الخبر. وكان المقترح الأكثر أهمية لديهم للخروج من حالة (الفوضى) الإعلامية تلك هو الذهاب نحو مأسسة العمل الإعلامي الثوري أو البديل ليستطيع الاستمرار وفق أسس منهجية وعملية، ووفق استراتيجية واضحة في نقل الخبر والتعليق عليه، إلى ما هنالك مما يتيحه العمل المؤسساتي ولا يتيحه العمل الفردي أو غير المنظم.

لكن الانتقاد الأكثر حدة والذي وُجه للعديد من هذه الوسائل الإعلامية، وإلى العديد من هؤلاء الإعلاميين هو تنفيذ أجندات الجهات الداعمة الإقليمية أو المحلية أو حتى الدولية واتخاذ بعضهم العمل الإعلامي كنوع من الارتزاق والمتاجرة بالثورة! أو باب لترويج بعض الأفكار المتطرفة والطائفية!

ومع أن استمرار أي فكرة أو عمل مرتبط بنقده، إلا أن أي نقد يوجه للإعلام البديل لا ينبغي أن يكون بمعزل عن تطورات الثورة ومنعراجاتها، أو بمعزل عن رؤية الطحالب والإشنيات الكثيرة التي نمت على جسدها.

علينا أن ندرك أن إعلام الثورة السورية كان يتحرك بين البيوت المهدمة، وتحت قذائف الطائرات وصواريخ سكود

لقد انبثق هذا الإعلام انبثق كتلبية ضرورية جدًا لحاجة الثورة، وبالتالي فإن استمراره وتطوره وتراجعه مرتبط بتطورات الثورة والمنعرجات التي مرت بها. لم يكن الخط البياني للثورة السورية في سنواتها الأولى في تصاعد دائمًا، بل كان ينحني كثيرًا، ويهبط كثيرًا... وهكذا. وكان الإعلام الثوري يتخذ هذا المنحنى ذاته. وحيث إن الثورة اتخذت هذا المنحنى فإن الإعلام قد اتخذه كذلك. إن الكلام عن واجبات الإعلام في استباق الثورة واستشراف آفاقها وتصويبها وغير ذلك يأتي من باب الحرص غالبًا، ولكن، أيضًا، من باب عدم رؤية الواقع كما هو. علينا أن ندرك أن هذا الإعلام كان يتحرك بين البيوت المهدمة، وتحت قذائف الطائرات وصواريخ سكود، وكذلك ضمن التهديد بالاعتقال من جهة أو بالذبح بالسكين من جهة أخرى! وأنا هنا أتحدث عن إعلام الداخل السوري، ما يعني أن أي تفكير لا يأخذ بعين الاعتبار هذه الأهوال التي عاشها الإعلامي هو تفكير قاس وغير واقعي (بجانبه البريء من الشبهات). إذ كيف كان لنا أن نطلب من هؤلاء ما نطلبه من وسائل إعلامية مستقرة، وذات دعم مالي كبير، وتعمل في ظروف من الحرية والحماية، ولها باع طويل في العمل الإعلامي؟!

اقرأ/ي أيضًا: المركز العربي يبحث في مآلات الثورة السورية بعد سبع سنوات على انطلاقها

ضمن تلك الظروف كلها كان لإعلام الثورة أو الإعلام البديل خلال السنوات الأولى نجاحات رأيناها بأم أعيننا، إذ لولاه كيف عرف العالم الثورة وأدرك ما يحدث في سوريا! وانطلاقًا من هذا المعطى لا بد من التذكّر والامتنان والعرفان لأولئك الصحفيين الأوائل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الثورة السورية العظيمة دائمًا

قراءة مختلفة للثورة السورية في 3 كتب