17-يوليو-2017

لقطة من الفيلم

اسم الفيلم: Investigating Paradise - تحقيق عن الجنة
إخراج: مرزاق علواش
سيناريو: مرزاق علواش – بهيّه علواش
المدة: 135 دقيقة
وثائقي درامي – 2017

"نَجْمة" مُحررة صحافية تشاهد فيديو مُنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي لشيخ شهير يتحدث عن الحور العين ويُسهِب في الوصف الحسي لهن عن لون الشعر، وطراوة البشرة، وأشياء من هذا القبيل، وتقرر أن يكون الفيديو بداية لتحقيق صحافي عن "الجنة"، وذلك بطرح سؤال محدد على شرائح مختلفة من المجتمع الجزائري خلال التحقيق، وللجمهور بمعناه الأوسع من خلال الفيلم، عما ينتظرهم في الجنة، والأهم - على الأقل بالنسبة لـ"نَجْمة" - السؤال: لو كان للرجل 72 حورية تستقبله في الجنة، فماذا للمرأة؟ سؤال يأتي من موقع كونها امرأة؛ لكنه لحسن الحظ لم يبق هناك.

لو كان للرجل 72 حورية تستقبله في الجنة، فماذا للمرأة؟

في فيلم "تحقيق الجنة" اختار المخرج مرزاق علواش الطريقة الأمثل للحكاية "petal structure"، دوائر صغيرة من عرض الفيديو وطرح السؤال على الضيف نذهب فيها لسماع إجابته ثم نعود للنقطة الرئيسية، الفيديو والسؤال حيث نذهب بهم لضيف آخر وهكذا، ضيوف من توجهات مختلفه يبدأ معهم الحوار بنفس الطريقة وينتهي بسؤالهم عن تصورهم الشخصي للجنة، وبينهما حديث ممتع وعميق عن أسباب انتشار خطاب ديني يُخاطب الغرائز ويُرغِّب في الموت بعد سنوات من العشرية السوداء في الجزائر، وسماع وجهات نظر مختلفة حول الموضوع يُكمِّل بعضها بعضًا بحيث تصبح كزهرة كبيرة تكتمل أوراقها في النهاية وتجعلك، طوال الفيلم، بين هذه الأوراق عُرضة للسؤال، ولو بشكل غير مباشر، وتنتظر منك إجابتك الشخصية أيضًا. حسنًا "نَجْمة" قامت بالرحلة ووثّقت الإجابات فماذا كان انتظارنا؟

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "حنا آرندت"..سيرة فيلسوفة لم ترض عنها "إسرائيل"

المحرك الرئيسي في فيلم "تحقيق عن الجنة" هو سؤال نسوي؛ وكان يمكن، بالارتكان للاستسهال، كما العادة في الأفلام الوثائقية العربية المماثلة، إكمال رحلة البحث عن إجابة السؤال بشكل سطحي وأخذنا لدوامات من أسئلة المرأة، في رحلة ندب طويلة عن الأوضاع السيئة للمرأة في مجتمعاتنا العربية دون رغبة حقيقية في البحث عن أسباب هذه الأوضاع، مجرد حك للقشرة الخارجية للموضوع يخدرنا قليلًا ويُرضي مجموعات نبحث عن رضاها في الخارج بعمل أفلام سطحية عن المرأة والأقليات في الشرق الأوسط لتوفير معونة مالية لمشاريع قادمة، لكنها لا تساعد في فهم المشكلة نفسها وبالتالي حلها.

وهي أزمة حقيقية للفيلم الوثائقي "تحقيق عن الجنة" تترك له مسار ضيق جدًا جدًا للحركة، يجعل المسار مُكررًا للمواضيع وطرق تناولها، يبدو واضحًا في كل الأفلام الوثائقية ذات الصلة والذي تكون نتائجه فيلمًا يقرر ما هو معروف بالضرورة (أوضاع المرأة السيئة في الوطن العربي والثقافة العربية)، دون رغبة حقيقية في التعب على الفيلم ليعيش أكثر من دقائق عرضه، أو على أقصى تقدير يزيد الحافز لقفزات نسوية فردية، طالما هناك أخريات قدموا نماذج مُختلفة تناولتها أفلام وثائقية، لكنها لا تضيء العتمة التي نسير فيها بحيث تتحول هذه القفزات الفردية لخطوة جماعيه للأمام.

أفلام وموضوعات، رغم تكرارها، لا تُزيح المُعوّقات ولا تكسر مثلًا، رغم كثرتها، الأساطير الشعبية عن العادات والتقاليد المُقيّدة للمرأة بعرضها في العلن لبيان مدى هشاشتها وسذاجتها، دون حتى مشقة الرد عليها، بدلًا من "الزعيق" وشحذ الهمم لمواجهة المجتمع "المُتخلِّف"، و"الرجعي" دون الحديث عن "ماذا نواجه بالضبط؟ "، أو "لماذا؟"، ولماذا مناقشة أمور كهذه وحلها مُهمّة للرجل قبل المرأة؟ بحيث يتحول الفيلم وردود الأفعال عليه أيًا كانت لخطوة ثابتة على الأرض يمكن البناء عليها بدلًا من عمل فيلم كل عام عن العنف ضد المرأة مثلًا، دون أن يقل هذا العنف أو يتحول لجريمة في نظر المجتمع قبل القانون.

يأخذنا علواش عبر فيلمه "تحقيق عن الجنة" في رحلة ممتعة التي لا يعيبها، سوى اختياره لأن يكون الفيلم "دكيودراما –  docu/drama"

تجاوز مرزاق علواش هذا المأزق بالطريقة الصحيحة باختياره عن عَمْد تجاوز السؤال الظاهري، عن الجنّة والحور العين والمرأة، والانطلاق من نفس النقطة لطبقات أعمق للبحث عن الإجابات الحقيقية عبر المساحات التي يمكن للفيلم الوثائقي الحركة فيها واستخدامها بأقصى ما يمكن لهذا الوسيط أن يقدمه للجمهور، الاستقصاء والبحث عن إجابة لسؤال بسيط أخذتنا لمساحات أوسع لمناقشة ظاهرة تكون المرأة وقضاياها فيه عَرض جانبي لمشكلة أكبر يعاني منها المجتمع ككل، وعلينا معالجتها بدلًا من بذل أعمارنا في الإشارة للعَرَض والصراخ دون البحث عن حل حقيقي للمشكلة الأساسية، والذي سيُنهي أعراضها بالتأكيد؛ علاقة الخطاب الديني بالمرأة فعلًا في مجتمعاتنا العربية، وبالأنظمة الاستبدادية، وطرح نموذج الخطاب الديني نفسه للمُسائلة والنقاش.

اقرأ/ي أيضًا: بين فيلمي "معلمة البيانو" و"شيطان النيون".. أن يكون الجمال بداية للرعب

لأجل ذلك تحمل "نَجْمة" السؤال لشباب وفتيات، رجال دين بمرجعيات مُختلفة، وكتَّاب من مواقع متباينة، سياسيين، وفنانين، وأطباء نفسيين، وجهاديين سابقين، سؤال الناس في الشوارع والأسواق ومقاهي الإنترنت واستقبال الإجابات بحيث نذهب في كل مرة لزاوية جديدة تمامًا للموضوع؛ يأخذنا جهادي سابق للحديث عن الجنّة كفكرة تنافسية في الخطابات الدينية الأخرى يفوز فيها الأكثر إنسانية وعملًا للخير مقابل الخطاب الحالي الذي تطغى عليه فكرة امتلاك الجنة ابتداءًا وتحريمها على المخالفين، وعلاقة هذه الفكرة بالموت والجهاد والإرهاب.

يقول أحد الضيوف مثلًا: "بنت شعرها أصفر وعينيها زرقا تبعتله ورق إقامه في دولة أوروبية. دي الجنة بالنسبالهم"، ويأخذنا كاتب آخر للحديث عن الفانتازيا التي تغذي نفسها بخصوص الجنّة، وهذا المفهوم في خيالنا عن "الحياة الأخرى" والذي يمنعنا من الحياة هنا والآن.

فيما تتحدث نسويات أخريات في فيلم "تحقيق عن الجنة" عن فكرة التعامل مع المرأة كمنتج، بينما تقوم كاتبة أخرى بأخذ الحديث لفكرة التعامل مع الجنة نفسها كمنتج تسويقي ثمنه قتل النفس وآخرين. أما أعضاء أحزاب سياسية ومُعارضين فيناقشون الفكرة من زاوية الاستبداد السياسي وعلاقة الجنّة في هذا الخطاب الديني بالخلاص والصبر على القمع والظروف الاقتصادية والاجتماعية السيئة، أو كتبرير للفوز بهذه الجنة بعد تحمل كل هذا في صمت ودون اعتراض.

مُغنية تتحدث عن غياب المساواة وأثر ذلك على خيالات الناس عن الجنة والمرأة فيها، وطبيب نفسي يتحدث عن الحس النقدي الغائب ودور الدولة في ذلك، ومشايخ يتحدثون عن التمسك بالكتاب والسنة والترغيب في رضا الله، لا الطمع في الجنة أو الخوف من النار، وبين هذه اللقاءات، وكأثر جانبي للسؤال وللرحلة، كنا نذهب لتفاصيل أخرى؛ صالة رياضية لتعليم الفنون القتالية ممنوع على الفتيات ارتيادها، فيديو لفتيات صغيرات يتم تغطية رؤوسهن في المدارس في طقس جماعي، وآخر لشيخ ينهى عن المُنكر بكسر أقفال الحب على جسر في مدينة صغيرة في الجزائر، نساء مُنتقبات يتعلمن الرمي بالرصاص، أغنيه جزائرية ذات إيقاع سريع عن الجنة التي سيرى فيها المُغني أُمه التي ماتت، وأخبار في الإذاعة عن عمليات تهريب كبيرة للسلاح عبر الحدود.

الوثائقي مساحة للاكتشاف والتعلم ولرؤية ذواتنا وسؤال أنفسنا الأسئلة الحقيقية التي نحتاجها، والتعب في محاولات العثور على الإجابة

خلال 135 دقيقة يأخذنا علواش عبر بطلته "نَجْمة" في هذه الرحلة المُمتعة التي لا يعيبها، في رأيي، سوى اختياره لأن يكون الفيلم "دكيودراما – docu/drama"، حيث "نجمة" تقوم بدورها الممثلة الجزائرية "سليمة عُبادة" ما جعل كل المشاهد لها في الصحيفة والمنزل مشاهد تمثيلية لا ضرورة لها، خصوصًا أنه كان يمكن استبدالها بصحافيّة حقيقية تقوم باللقاءات مع الضيوف دون أن يؤثر هذا على شكل الفيلم النهائي بصورة كبيرة، الاختيار الذي جعل الجمهور (خاصة غير الجزائري والذي لا يعرف الممثلة أصلًا) قلقًا حيال كل مشاهد "نجمة" في العمل والمنزل ويشعر بالحيرة والشك تجاه ما هو "حقيقي" في الفيلم وما هو "مكتوب"، وتم اختيار أماكن الكاميرا وإعادة اللقطات وكتابة النص فيه بعناية.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Shame".. وحكاية نيويورك التي تبتلع العار

ضخّم هذه الحيرة التباين الكبير بين لقاءات الناس في السوق مثلًا وبين مشاهد "نجمة" مع أمها في البيت وجعل الانتقال بين "الحقيقي" و"المفتعل"، بين ما هو "وثائقي" وما هو "درامي" فجوة يسقط فيها المُشاهد وتشغله عن الموضوع الرئيسي للفيلم، وهي نقطة ضعف في فيلم يعيبه أيضًا أنه كان طويلًا أكثر من اللازم بنصف ساعة على الأقل، حيث أصابه التكرار والترهل في الربع الأخير من الفيلم وجعله زائدًا عن الحاجة لأنه لا يضيف أي جديد بعد أن وصل المشاهد حد التشبع من كل وجهات النظر حول الموضوع، وهى نقطه ذات صلة بترتيب اللقاءات حيث أظن أنه كان يتوجب وضع لقاء النسويات في بداية الفيلم لا نهايته، باعتبار أن السؤال نسوي بالأساس، ومن ثم الخروج من الزاوية النسوية للموضوع - التعامل مع المرأة كسلعة كما جاء في إجابات الضيوف- للزاوية الأوسع والتي توالى اكتشافها بتوالي إجابات الضيوف.

نسختي الشخصية من فيلم "تحقيق عن الجنة" سيُحذَف منها النصف ساعة الأخيرة، وستكون النهاية الحقيقية للفيلم بذهاب "نجمة" للجامعة وهذا الزحام الكبير من الشباب والفتيات حولها؛ المشهد الصامت لمحاولات سؤالهم وإجراء حوارات معهم، والرفض من جانبهم، و"نجمة" وهي أمام سؤال كبير مُلح أخذها لمساحة أوسع من تلك التي كانت تُدركها في بداية رحلة البحث، تتوه معه في النهاية وسط جموع الشباب الحائرين بحثًا عن إجابتها الشخصية.

غير أن هذه العيوب، وإن كان من السهل تلافيها، لم تخصم من رصيد فيلم "تحقيق عن الجنة" كونه تخلص من مشاكل أكبر بكثير؛ أولها طبعًا: تجاوز فخ تناول الموضوع بسطحية وعمل فيلم استقصائي خفيف، لا يبحث عن الإجابة أصلًا بقدر ما يبحث عن الإثارة.

المخرج مرزاق علواش فعل ما يمكن أن يفعله أي فنان "حقيقي"؛ مواجهة السؤال بشجاعة، بغض النظر عن الهواجس بخصوص ما سيصل إليه في النهاية ووقع هذا على الجمهور الذي لا يود أحد إغضابه بالطبع، يمكن ملاحظة هذا بسهولة بالمقارنة مع أي فيلم مماثل كان محركه الرئيسي سؤال نسوي، وبقى في المساحة الآمنة التي لا تتطلب أكثر من التأكيد على نماذج محددة وحكايات محددة تلقى رواجًا وفقًا لكتيب إرشادات معونات الدول المانحة، أو بالمقارنة مثلًا مع موجة الأفلام التي "تُناقش" قضايا الإرهاب واللعب على الحكاية المُعتادة من الشيخ الخبيث والجهادي الساذج الذي يتم استغلاله باسم الدين والذي يتم قتله في النهاية عند اكتشافه حقيقة الشيخ دون أية إشارة للخطاب الديني نفسه ومراجعته، أو البحث عن لماذا هناك شاب ساذج لهذه الدرجة وشيخ خبيث مُطلق السراح دائمًا؟ أو بالتأكيد الإشارة لدور السُلطة وسياسياتها في كل هذا أصلًا.

اقرأ/ي أيضًا: إعادة نظر: Les Petits Chats.. الحنين لماضٍ ليس لنا

وثانيها: وضوح فيلم "تحقيق عن الجنة" أمام الارتباك المُعتاد والخاص بسؤال: لمن نقدم الفيلم الوثائقي؟ ولأي جمهور؟ حذف أسئلة: ما الذي ينتظره المُشاهد الفرنسي من الفيلم؟ أو ما هي قائمة طلبات الجهات الأجنبية التي شاركت في التمويل؟ والتي يكون نتيجتها عمل فيلم للمتفرج الأوروبي أو للجان تحكيم مهرجانات دولية داعمين لقضايا المرأة وحقوق الأقليات في دول العالم الثالث، والإجابة على الأسئلة الصحيحة: ما الذي يريده فنان حقيقي يصنع فيلمًا يناقش قضيه شائكة للغاية وسيتم اتهامه مُقدمًا بالإلحاد وإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة؟ ولمن يريد أن يقدم الفيلم بالأساس؟ وبأية لغة؟

المخرج مرزاق علواش بفيلمه "تحقيق عن الجنة" واجه السؤال بشجاعة، بغض النظر عن الهواجس بخصوص ما سيصل إليه في النهاية

والإجابة بكون الوثائقي لنا أولًا، مساحة للاكتشاف والتعلم ولرؤية ذواتنا وسؤال أنفسنا الأسئلة الحقيقية التي نحتاجها، والتعب في محاولات العثور على الإجابة المناسبة بدلًا من إثارة أسئلة مثيرة للجدل، دون الرغبة في الإجابة عليها أصلًا، تجلب الشهرة وأموال الداعمين من الخارج مثل: "لو للرجل 72 حور عين فماذا للمرأة؟" ما يظهر بوضوح في ارتباك أفلام وسقوطها في البحر بين شاطئين لم ترس على أحدهما لأنها لم تحدد الوجهة، أو في وضوح صوته واكتسابه أرضية صلبة لدى جمهور يتحدث لغته وهمومه، واكتساب احترام الجمهور على الجانب الآخر من البحر لأنه فيلم أصيل وحقيقي، وهو ما يمكن أن نقوله بخصوص فيلم "تحقيق عن الجنة" ويجعله فيلم، رغم طوله، جدير بالمشاهدة والاحتفاء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الرحلة في ثلاثية الشمال الإيراني لعباس كيارستمي

وثائقي "العساكر".. هل يستحق كل هذا الضجيج؟