07-نوفمبر-2019

ثيودور رومبوتس/ بلجيكا

تمطّى بروميثيوس (1) في مكانه، سوّى ثوبه الحريريّ الأبيض المنسدل، لفّه جيّدًا حول جذعه ثمّ ثبّت أطرافه العليا على كتفه الأيسر. ارتدى نعله العتيق وهو يتساءل كيف غدا لباس البشر الآن بعد كل هذه القرون؟ رفع دفّة كتاب الأساطير قليلًا وأطلّ برأسه حذرًا، أخرج السّاق الأولى، انزلق إلى الأمام أكثر وألحق ساقه الثّانية. فتح الدّفّة إلى أقصى جانبها وقفز إلى الخارج. سرى خدر مفاجئ في أطرافه أثقل حركته لدقائق، فهو لم يتحرّك منذ قرون طويلة بحريّة وزاد قيده إلى الصخرة الكبيرة في تيبّسها، هنّأ نفسه على الحرّية أخيرًا، ولعن القيد شامتًا لما أصابه من صدأ وتآكل. التفت وأغلق الكتاب بقوّة جعلت غبار السنين يغشاه حملق فيما حوله، رفوف تملأ المكان، تصل إلى السّقف مملوءة كتبًا.

على هدى ضوء شاحب خطا على أطراف قدميه، وكلّما خرج من ممرّ وجد نفسه في آخر مماثل. تشابهت كلّ الأروقة برفوفها وكتبها الكثيرة. ظلّ يتجوّل فيما بينها دهشًا، يتصفّح بناظريه عناوين الكتب يحاول تذكّر ما بدا مألوفًا ويستغرب العناوين التّي عقبت زمنه، وبين الفينة والأخرى تصله نهنات  وخطى بعيدة. توغّل أكثر بين الممرّات حتى انتهى إلى آخرها عند حائط عال تتوسطه بوابة كبيرة موصدة. حاول فتحها لكنّها ثقيلة لا يمكن معالجتها، ابتعد متّخذًا طريقًا آخر بين الممرّات المتاهة. تقدم حتى خرج من باب جانبيّ، وجد نفسه في قاعة فسيحة تملؤها طاولات جلاّسها كثر، الكلّ منكبّ على كتاب أمامه لا يرفع عنه بصره، لا صوت سوى تلك النهنهات التي سمع مثلها بالدّاخل وحفيف الورق  بين الأيادي. مشى على رؤوس أصابعه حتى لا يخدش الصّمت، انسحب والدّهشة تعقد لسانه من هيئة الناس المعقّدة الذين رآهم بالدّاخل، لا شيء يبدو مألوفًا، لا شي يشبه القِدَم. حاول المضيّ دون أن يثير انتباه أحد، حتى فجأة وجد نفسه تحت بوابة تفضي مباشرة إلى الطريق.

انزوى خلف إحدى السّيارات وتأمّل ما حوله، أبنية كثيرة تملأ المكان غريبة التصميم، وطرقات سوداء مكتظة بعربات كالعلب بدت له عجيبة، ففي عصره هناك عربات تسحبها الأحصنة وهذه تتحرك لوحدها، خطا حذرًا يريد قطع الطريق فأطلقت أبواق السيارات أصواتًا كادت تصيبه بالجنون، كان آخر عهده ببوق هرقل، رغم صوته القوي إلاّ أنّه كان مألوفًا، أما هذه فتثير الصّداع وتشتت التّركيز. كادت  تصدمه سيّارة مجنونة وهو يحملق في الأسلاك المعلقة التي تملأ السّماء، ابتعد عن الطريق وسلك بين السيّارات المركونة سبيلًا. فما راعه إلاّ  لغط وجمهرة أناس تعترضه، توجّس والصّراخ يعلو أكثر:

-اشتعلت النّار.

-أوقفوه..

-أطفئوا النيران..

-ستلتهمه..

-هذا بوعزيزي آخر..

- اللعنة، أهذه هي الحرية؟

- أنجدوا رزوقة (2)...

-الماء، الماء..

- الرجل يحترق..

- لك الله يا عبد الرّزاق2 ينصفك...

زحف بروميثيوس على أطرافه الأربعة، تقدّم بين أرجل المتجمّعين ونظر حيث يحملقون بفزع. رجل تشتعل النّار فيه، يتخبّط بلا هوادة ويستغيث، ولا أحد يقدر على الاقتراب منه. سرح بصره في ألسنة اللّهب بينما تداعت أفكاره كشريط سريع اللّقطات، كم هام حبًّا في البشر، وكم أشفق عليهم وظلام الكهوف يؤرقهم والبرد والجوع يعصفان بهم، كم من مرّة لجأ لزيوس(3) طالبًا مساعدته من أجلهم، ورغم رفضه طلبه إلاّ أنّه لم يستسلم بل تحدّى ملكه، وقدّم لهم هبات كثيرة ساعدت على تسهيل حياتهم. لن ينسى هول ما حصل معه وهو يقوم برحلته إلى جبل الأولمب سرًّا وقد طال به البحث بين الكهوف والمغارات، لا يريد شيئًا سوى قبس من نار. لولا الصدفة التي جعلته يكتشف الشرارة حين شقّت الظّلام لقضى زمنًا طويلًا في البحث. تذكّر تلك المخاطرة وهو يختلس شرارة منها. كم كان راضيًا بقدره حين اكتشف زيوس فعلته وعاقبه، قيّده إلى جلمود صخر بأعلى قمّة الجبل وأمر النسر الالهي بأكل كبده. لن ينسى آلامه التّي لا تنتهي حين أمر زيوس بأن يخلق له كبد جديد كلّما فنى كبد. تحمّل قدره بصبر وشجاعة لأنّه كان يعرف أنّ عقابه سينتهي يومًا ما وأنّ مستقبلًا أفضل ينتظر معشر البشر.

أهذه هي النّار التّي سرقها من أجلهم؟ ها هي اليوم تشتعل فيهم وتقتلهم بدلًا من أن تكون سبيلًا للمعرفة وأداة إبداع. كان يعرف أن البشر سيسيؤن التّصرف يومًا ما، لكن لم يتخيّل أن يصل بهم الأمر إلى أن ينحدروا إلى العصر الحديدي الذّي سطّره القدر. بمرارة استرجع أنشودته التّي كان يواسي نفسه بها وهو مقيّد إلى الصّخرة على قمّة الجبل وأنشد:

بسبب حبّي للإنسان (4)

أكابد هذه الآلام

كما ترونني إلهًا مسكينًا

مربوطًا بالسلاسل

في جلمود صخر

تسخر مني الرّياح

مكروهًا من باقي الآلهة

يجب أن أمتثل لقدري

قدر الإمكان

اسمعني أيها الفضاء السّماويّ

اسمعيني أمّنا الأرض

أنصتي إلى آهات كربي وبؤسي

ثمّة شيء يقترب4..

ردّدها بحزن ومرارة وقد اختلط صوته بصراخ الرّجل المشتعل وصرخات النّاس فيما حوله، بكى بروميثيوس بشدّة وهو الذّي لم يبك يومًا حتّى حين يأكل النّسر كبده. لكم تغيّر البشر، تركوا الإبداع والفنّ والعلم والفلسفة، وانحدروا إلى حضيض الجريمة وقلّة الشّرف، أيكون زيوس على حق حين أخبره أنّ الإنسان يسيء استخدام نعم الآلهة؟ لكم تغيّرت هذه المخلوقات الضّعيفة، صارت على غير عهده بها.

لم يقدر أحد على إطفاء النّار، احترق الرّجل وحين خبا اللّهب حملته سيارة الإسعاف إلى المستشفى.

انسحب بروميثيوس مبتعدًا، لاحت له فجوة في حائط متداع، قفز فيها بلا تردّد. سقط في مكان ما، وقف مترنحًا، تناهت إليه أصوات أدوات الأكل مختلطة بموسيقى وإيقاع خطوات تروح وتجيء بلا توقّف، اقترب من الباب الموارب، نظر من الشّقّ، طاولات كثيرة تزيّنها مأكولات وشراب جلس إليها روّاد كثر، كلّ شاب يجلس إلى فتاته وقد تشابكت الأيدي والتقت النظرات والتصقت الأجساد. فجأة طغت على كلّ الضّجيج ضحكة مجلجلة طويلة، نظر إلى صاحبتها، بدا له وجهها مألوفًا، مسح بناظريه كلّ المكان وانتهى إلى وجهها ثانية يتأّمّلها ويحاول أن يتذكّر أين يعرفها، التقت نظراتهما، أومأت له برأسها وأسدلت جفنها. فجأة قفز كمن لسعته عقرب وصاح: "باندورا (5)! ... لاااااااااااااااااا... باندورا!". رفع ثوبه إلى ركبتيه وأطلق ساقيه للرّيح، وجد نفسه في الشّارع الرّئيسي، غير بعيد عنه ساعة عملاقة، جرى صوبها، دار حولها، وجد شقًّا في جذعها الحديديّ تسلّل منه إلى داخلها، وتعلّق بالحبل المتدلّي في قلبها، حتى إذا وصل العجلة المتحكّمة في حركة العقارب رفعها قليلًا وانزلق إلى الدّاخل، ذاب مع نبضات الزّمن التي توقّعها العقارب بصبر أبديّ. عاد إلى زمنه، تقدّم في الظّلام يتحسّس طريقه بحذر، حاول تذكّر المكان الأول بدقّة، وزّع الممرّات على ذاكرته حتى وصل إلى رفّ كتب الأساطير، رفع دفّة الكتاب تقدّم بساقه اليمنى ثمّ اليسرى، انزلق بكلّ جسده في الكتاب، وترك الدّفّة تنطبق على الورق، وصمت ثقيل يطبق على المكان، يكتم ضجيج ما في صدور الكتب.

 

هوامش:

1-بروميثيوس هو أحد حكماء التايتن حسب الأسطورة الإغريقية سرق النار وقدّمها للبشر.

2- في إشارة إلى المصور الصحفي عبد الرزاق الرزقي، الذي مات محترقًا يوم 24 كانون الأول/ديسمبر 2018 في مدينة القصرين.

3- زيوس أب الآلهة والبشر عند الاغريق. يحكم آلهة جبل الأولمب باعتباره الأب الوريث.

4- مقطع من نص مسرحي كتبه الكاتب محمد زكريا توفيق حول أسطورة بروميثيوس سارق النار.

5- باندورا أوّل امرأة يونانية وُجدت على الأرض، خُلقت بأمر من الإله زيوس وأُرسلت إلى بروميثيوس وأخيه كجزء من العقوبة على البشرية، حيث فتح أخو بروميثيوس الصندوق الذي بحوزتها ويحوي الشرور والأمراض التي انتشرت في البشرية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

زاوية رؤية حادة

أحتاج أن أسرق الأمل في ساعة غفلة