08-ديسمبر-2019

تجد إدارة ماكرون نفسها وجهًا لوجه مع الشارع مرة أخرى (Getty)

استمر الإضراب المفوح في فرنسا، لليوم الرابع على التوالي، ضد نظام التقاعد، مع استمرار تعنت إدارة الرئيس الفرنسي، وإصرار متزايد من النقابات والشارع على التصعيد. ومرة أخرى تجد سياسات حكومة ماكرون نفسها وجهًا لوجه مع الشارع، اليوم ممثلًا بأكثر فئاته تنظيمًا: النقابات العمالية الرافضة للتعديلات الجديدة في نظام التقاعد والملوحة، ببطاقة الشلل العام لمصالح البلاد كرد مباشر، وبإضراب مفتوح كان يوم الخميس، 5 كانون الأول/ديسمبر، موعدًا لانطلاقه، مستهدفًا أكثر القطاعات حيوية كالنقل والتعليم والصناعة والتجارة.

مرة أخرى تجد سياسات حكومة ماكرون نفسها وجهًا لوجه مع الشارع، اليوم ممثلًا بأكثر فئاته تنظيمًا: النقابات العمالية

إضراب يأتي في وقت لم يدع  فيه إحياء الذكرى السنوية لحركة السترات الصفراء في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر، وإن كان باهتًا نوعًا ما، من شك أن فرنسا لم تتعد بعد مرحلة الغليان الاجتماعي. بالمقابل، فإن ما عرفه يوم الذكرى ذاك من صدامات عنيفة احتضنتها العاصمة باريس، بين المتظاهرين وقوات الأمن، يوضح بجلاء فشل حكومة ماكرون في إدارة الأزمة بعد عام من اندلاعها، بينما ظل الهم الحقيقي والوحيد  لمقاربتها الأمنية هو: منع التجمهر في ميدان قوس النصر وشارع الشانزليزيه.

عام مر من التظاهرات الصفراء التي مثلت أيقونة لهذا الاحتقان، وسنة قادمة لن تقل احتقانًا على سابقتها. كل المعطيات تحيل إلى هكذا استنتاج ونحن نبدأ الشهر الأخير من 2019 بتحركين عظيمين انضافا إلى البرنامج النضالي الذي بدأه الشارع؛ أولهما كان قبل أسبوع، حيث كانت جرارات الفلاحين تجتاح باريس، مطبقة الخناق على كافة مداخلها في احتجاج تقوده هذه الطبقة تلبية لدعوات نقاباتها. حيث شهدت الشوارع نفسها ما يزيد عن ألف مزارع يتظاهرون منددين بالقوانين الجديدة المتعلقة بتنظيم معالجة المزروعات، والتي حسب المتظاهرين لم تكن إلا افتعال صراع بين المدينة والقرية، مفسحة المجال لطغيان العمران الربحي على الأراضي الزراعية. والثاني يرسم معالم خميس ما زالت تفاصيله مستمرة، بإضراب لم ينته بعد.

اقرأ/ي أيضًا: ماكرون والشرق الأوسط.. ماذا ترك رجل الوسط لأهل اليمين؟

خميس باريس الأحمر

كل شيء بدأ يوم 23 أيلول/سبتمبر الماضي، عندما نشرت خمس نقابات عمالية فرنسية بيانًا يدعو لإضراب عام مفتوح والتظاهر يوم الـ 5 من كانون الأول/ديسمبر. جاء هذا التصعيد ردًا على تعنت الحكومة في الدفع بتعديل جديد لقانون التقاعد، وعدم الاستجابة لمطالب الإضراب الإنذاري الأول الذي قامت به النقابات لاحقًا ذلك الشهر.

وصولًا إلى صبيحة الخميس الموعودة، أخذ الشلل يدب في مفاصل البلاد: حيث توقفت حركة القطارات بشكل تام، منضافة إلى حركة المواصلات الحضرية من باصات وترامواي، كما علقت متروهات أنفاق باريس رحلاتها كذلك، ومعها شركات الطيران الفرنسية مسببة ارتباكًا كبيرًا في الملاحة الجوية الدولية.

من الاحتجاجات في شوارع فرنسا ضد قانون التقاعد (أ.ف.ب)

مع تقدم ساعات اليوم، احتشدت جماهير الشغيلة الفرنسية في مظاهرات جابت شوارع المدن، إلى جانبها الحركات الطلابية والشبابية، معهم مجموعات لابسة سترات صفراء. رجال ونساء التعليم، محامون، سككيون، رجال إطفاء وحتى الشرطة كلهم اجتمعوا على التعبير عن سخطهم من سياسات الحكومة، مرددين شعارات تراوحت بين المناداة بإسقاط نظام التقاعد الجديد إلى إسقاط نظام إيمانويل ماكرون.

المقاربة الأمنية كذلك كانت حاضرة، فمنذ الساعات الأولى للتحرك انهالت قنابل الغاز على المتظاهرين في ليون، وسرعان ما اندلعت مواجهات في مدينة نانت كذلك، وفي باريس استماتت قوات القمع في منع المتظاهرين من احتلال ميدان قوس النصر. بالاصطدام المباشر، الرشق بالقنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه، كلها وسائل حضرت لقمع المتظاهرين الذين استمروا في المسير إلى ساعات حدود الساعة السادسة من مساء الخميس.

الصحافة بدورها كانت هدفًا لعمليات القمع تلك، بحوادث تحرش وتفتيش قصري استهدفت الصحفيين، يقول عنها "تجمع الصحفيين الغاضبين" بأنها "كانت تهدف إلى إهانة وتهديد شغيلة الإعلام وخرق حرية الممارسة الصحفية". فيما أصيب مراسل وكالة الأناضول للأنباء، مصطفى يالجين، بقنبلة غاز ما تسبب له بجروح خطيرة، وتهديد بفقدان أحد عينيه. إصابات أخرى تواترت في صفوف الصحفيين، بعضهم استهدف بشكل مباشر وأكثر من مرة.

حسابيًا..

"إنه يوم تاريخي!" صرح فيليب مارتينيز الكاتب العام للكونفدرالية العامة للشغل الفرنسية مشيرًا إلى الكم الذي احتشد في مظاهرات يوم الخميس، متابعًا: "ولتقل الحكومة الآن ما تقول، في نظري لقد بلغهم اليوم مدى غضبنا العارم ورفضنا لنظام التقاعد المطروح". ففي باريس وحدها أحصت الكونفيدرالية أزيد من 250 ألف متظاهر، فيما أشارت مفوضية شرطة العاصمة إلى رقم 65 ألف. أما في مجموع البلاد فبلغ الرقم 1.5 مليون متظاهر حسب الكونفدرالية، وفاق 800 ألف حسب الداخلية الفرنسية.

بالنسبة للقطاعات المشاركة في الإضراب، فحسب وزارة التربية الوطنية الفرنسية خاص 78 بالمئة؜ من رجال ونساء التعليم الباريسين الإضراب، و55 بالمئة؜ منهم على مستوى كامل البلاد. فيما صرحت النقابة الوطنية لمدرسي المرحلة الثانوية بأن "75 بالمئة؜ من مدرسي هذه المرحلة هم مضربون!". وأعلن في وقت سابق، أوليفييه ديسوب، كاتب الدولة لدى وزارة الموازنة الفرنسية عن رقم 35 بالمئة من الموظفين الحكوميين مشاركين في الإضراب، و9.8 بالمئة من الموظفين الإقليميين، إضافة إلى 15.9 بالمئة من موظفي قطاع الصحة العمومية. ولم تسلم الداخلية بدورها من الإضراب، حيث طبقت الشرطة عملية "المفوضية الميتة" بتعليق العمل من الساعة العاشرة صباحًا إلى الثالثة بعد الظهر تعبيرًا عن احتجاجهم.

حسب الكونفدرالية فإن 44 بالمئة؜ من عمال شركة الكهرباء الفرنسية أيضًا شاركوا في الإضراب، وفي بعض المحطات النووية فاقت النسبة 80 بالمئة، وفي بعض المحطات الحرارية بلغت 100 بالمئة؜. كما أن سبعة من أصل ثماني منشآت لتكرير البترول دخلت الإضراب.

وقالت نقابات النقل العام إنها ستمدد حتى غد الإثنين على الأقل إضرابها المفتوح الذي أدى إلى إلغاء 90 بالمئة من رحلات القطارات الفائقة السرعة و70 بالمئة من رحلات القطارات بين المناطق، فيما تأثرت جميع خطوط مترو باريس. وعلّق أنس قازيب، مندوب عن نقابة النقل العام، لموقع ميديابار قائلًا: "شاهدوا رعب البورجوازية! إنهم مرعوبون الآن، ونحن مصرون على دحرهم إلى الأبد". هذا وحذرت الشركة الوطنية للسكك الحديد الفرنسية من "أعطال كبيرة جدًا" لرحلات يوروستار وتاليس التي تؤمن رحلات إلى لندن وبروكسل، نقلًا عن وكالة الأنباء الفرنسية.  

وفي وقت سابق، يومين قبل الإضراب، أعلنت وزارة الداخلية الفرنسية عن تعبئة ما لا يقل عن 4000 رجل أمن لـ "تأطير المظاهرات وتأمين المناطق الحساسة" حسب مزاعمها. أثناء التظاهر، كشفت مفوضية الشرطة عن حصيلة 9350 مراقبة احترازية أجرتها للمتظاهرين، ما أسفر عن اعتقال 71 منهم، حسب ما أوردته وكالة أناضول.

حكومة ماكرون.. فن إدارة التعنت

أصر ماكرون أن يكون يوم الخميس يومًا عاديًا، حيث لم تدفعه الإضرابات العارمة التي عرفها لتغيير برمجته، قاضيًا إيَّاه بين ردهات قصر الإليزيه يمارس نشاطاته الروتينية. "هو يوم كباقي أيام الأسبوع" هذه هي الصورة التي أراد رئيس الدولة إيصالها للرأي العام، مجتمعًا بمجلس حكومته في ذات الصبيحة، الشيء الذي أثار حفيظة حتى مستشاريه الذين، ونقلًا عن جريدة لوباريزيان، أشاروا إلى أنها "خطوة غير محسوبة من الناحية الأمنية، أن يجتمع كل قادة البلاد في مكان واحد في يوم الإضطرابات العظيم ذاك".

قبل ذلك، وعلى بعد أربعة أيام من الـ 5 من كانون الأول/ديسمبر، سعى كل من ماكرون ورئيس حكومته إلى الاجتماع مع الأغلبية البرلمانية، لتأكيد دعمها لنظام التقاعد الجديد، في إجراء استباقي لتأمين خطوطه الخلفية داخل البرلمان، وتعويضًا لفشل اجتماعاته الأولى في كبح جماح دعوات الإضراب. فيما تم التجهيز كذلك لخطة نجاة وقت تعطيل مصالح الدولة العامة بفعل الإضراب.

بالمقابل، بالنسبة لأعضاء الحكومة لم يكن دورهم المشاركة في التمثيلية الرئاسية، إذ حسب تقسيم المهمات الذي أقره الرئيس كان واجبهم التواجد في "الجبهة". هكذا قطع كل من رئيس الحكومة إدوارد فيليب ووزير الداخلية كريستوف كاستانير ووزير التربية جان ميشيل بلانكي أشغالهم المكتبية مع حلول منتصف النهار متوجهين في زيارات ميدانية لبؤر الاحتجاج. الأمر ذاته بالنسبة لكل من وزير النقل ووزيرة الانتقال الإيكولوجي الذين تواجدوا بمحطة الشمال في باريس فترة ما بعد ظهيرة الخميس.

يستمر التصعيد في المدن الفرنسية ضد قانون التقاعد (Getty)

في وقت لم تطرح فيه بعد فكرة التراجع عن نظام التقاعد، سعت الحكومة إلى كسر الإضراب بتوفير حلول بديلة للنقل داخل باريس. "الدراجات الهوائية والدراجات الكهربائية والنقل المشترك هو الحل"، هكذا خاطب وزير النقل عموم الشعب، فيما أشار رئيس الحكومة إلى إنشاء موقع إلكتروني وعشرة تطبيقات من أجل "تخفيف تأثير الإضراب على المواطنين". إجراءات قابلت معارضة كبيرة، على رأسها عمدة العاصمة باريس آن هيدالغو التي رفضت الترخيص لتعبئة وزارة النقل حافلات خاصة لكسر إضراب السككيين.

سياسة الإضراب.. اليسار يوحد خطه

"لا يزال الخليط الاجتماعي قابلًا للانفجار"، هكذا وسمت جريدة ليبراسيون المجتمع الفرنسي، ذلك في استطلاع للرأي نشرته أيامًا قليلة قبيل الإضراب. حيث أشارت إلى أن 89 بالمئة من الشعب يعتبر عيشه اليومي أزمة اجتماعية، فيما يعتبر 64 بالمئة؜ من الفرنسيين أن الرئيس ماكرون لا يفهم حقيقة الصعوبات الاجتماعية التي يعاني منها المواطنون، وأنه منقطع عن الواقع.

هذه الغضب الشعبي الذي تأكد عبر المشاركة في الإضراب، يدفعنا لطرح السؤال عن أي بدائل سياسية يطرحها الاحتقان الاجتماعي تعويضًا لفشل إدارة ماكرون للأزمات الداخلية. على الجانب من هذا كله يبزغ شبح مقلق هو صعود نجم لوبان، التي حطمت شعبيتها أرقامًا قياسية في استطلاعات الرأي الشهر الماضي.

لوبان التي أبانت عن موقف ملتبس من الإضراب، من جهة دعت في خرجتها الإعلامية الأخيرة إلى التظاهر ضد قانون التقاعد الجديد، كاسرة بذلك تقاليد حزبها في معارضة التحركات النضالية ذات الطابع النقابي، التي لوح بها معارضوها في الحزب قائلين: "إن التغيير، كما نؤمن به، يأتي من داخل المؤسسات لا الشارع. والانسياق مع هذه الدعوات لطالما انتهى بالحزب إلى الإهانة!".

في وقت يرى مراقبون أنها ليست ثنائية خطاب لزعيمة اليميني المتطرف، بل هو ركوب على موجة الاحتقان الشعبي والتعامل معها بانتهازية هدفها الإمعان في إيكال الضربات لحكومة ماكرون. بينما عبرت الصحافة المقربة من حزبها عن موقف معارض، حيث عنونت مجلة Valeurs Actuelles  تغطيتها للأحداث بـ "مشعلوا الحرائق الجدد، كيف يتم إغراق البلاد في الفوضى؟"، واصفة الإضرابات بالوحشية، والنقابات بالمتطرفة والطلبة بالمخربين.

اقرأ/ي أيضًا :في أوّل زيارة خارجية للودريان.. فرنسا تدير "حربها" في ليبيا من القاهرة

الصفحة الأولى لمجلة Valeurs Actuelles اليمينية الصادرة لعدد شهر كانون الأول/ديسمبر

"هذا الخميس ليس فقط موعدًا نقابيًا، لكنه موعد وطني!" هكذا صرح جان لوك ميلانشون، زعيم حركة فرنسا الأبية اليسارية، في حوار له مع موقع 20 دقيقة حول الإضرابات الأخيرة. مضيفًا أنه "إذا أرادت الحكومة إصلاح التقاعد فيجب عليها أن تضمن بأن لا تكون هناك معاشات تحت خط الفقر، غير ذلك فلن يتم هذا الإصلاح". مشيدًا بالهبة النضالية التي تعرفها البلاد، والتي وصفها بـ "إدانة البشرية للحلول الفردية، وتشييدها عهد التحرك الجماعي". متحدثًا عن توحيد النضال الشعبي، عبر الإضرابات النقابية وخروج السترات الصفراء مجددًا.  وهو ما اجتمع حوله فرقاء اليسار البرلماني، حيث أكد أوليفييه فور زعيم الاشتراكي الفرنسي، بدوره،  أن "إصلاح التقاعد ليس بالأمر الاستعجالي"، فيما استجاب مناضلو حزبه إلى دعوات التظاهر بأعداد كبيرة.

 لم يدع إحياء الذكرى السنوية لحركة السترات الصفراء في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر، وإن كان باهتًا نوعًا ما، من شك أن فرنسا لم تتعد بعد مرحلة الغليان الاجتماعي

"أن نتفق على المعارضة في هذه القضية أمر مهم، لم نكن قادرين عليه في أول الولاية"، يصرح قيادي الحزب الاشتراكي الفرنسي في إشارة إلى التئام صدع اليسار. فيما عرفت الاحتجاجات مشاركة كل الكتلة اليسارية في البرلمان بما فيها الحزب الشيوعي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وفاز ماكرون.. هكذا تُصنع الحظوظ في عالم السياسة 

فيديو: من هو إيمانويل ماكرون؟