19-ديسمبر-2015

حروفية للتونسي شوف

في بداية الستينيات، كان الشَّاعر كامل الشنّاوي يحبّ النجمة نجاة الصَّغيرة، أحبَّها حُبًّا جمًّا أفاضَ الشِّعر من قلبه كالنَّهر، لكنَّهُ لم يقطعِ الشكّ باليقين ليخبرها بمحبَّتِهِ تلكَ بوضوح ويحاول أن يفوز بعلاقةٍ قويَّةٍ معها. كانت نجاة تعرفُ مشاعره، لكنَّها فضَّلت عليهِ شخصًا آخر، يُقال إنَّهُ الأديب يوسف إدريس. 

كانت نجاة الصغيرة تعرفُ مشاعر كامل الشناوي نحوها، لكنَّها فضَّلت عليهِ يوسف إدريس

وفي أحد الأيَّام كتب فيها قصيدتهُ الشهيرة "لا تكذبي"، وهاتفها وقرأ عليها القصيدة، فقالت إنها قصيدة جميلة جدًّا وإنها ستغنِّيها، ببساطةٍ قتلت الشَّاعر مرَّاتٍ ومَّرات حتَّى توفي بعدها بثلاث سنوات. لستُ في موضع تقييم الشَّاعر، أو إضفاء أيٍّ بعدٍ تراجيديٍّ على مأساته المكتملة، والتي قد يكون صَنَعَها على عينيه. في بقية هذا المقال سأشرح لماذا هجرتُ الشعر بعد أن كان حلمي أن أكونَ شاعرًا.

حينَ قمتُ بمراجعة دفتر مذكِّراتي أيامَ كنتُ يافعًا، وجدتُ أنني أتحدَّث عن الشِّعر، وكيف أنني كـ"شاعر" يجب أن يكونَ لديّ وجهة نظر في الحياة والكون وكلّ هذه الأسئلة المُعقَّدة التي قُتلت بحثًا، ولم يصل أحدٌ فيها لحقيقةٍ قاطعة. هل كان هذا شيئًا صوابًا؟ لم يكن صوابًا ولم يكن خطأً إذ أنني أتحفَّظُ على إضفاء القيمة على أيٍّ حدث، ولهذا حديثٌ آخر.

إشكاليَّة التأويل

"ليست هناك حقائق، هناك فقط تأويلات"
* نيتشه

ما معنى أن أكونَ شاعرًا؟ سأتلاعبُ بالكلمات، والكلمات ستتلاعبُ لا شكّ بالأفكار والمَشاعر. لا أقصدُ أن أكونَ قاسيًا في حُكمي على الشِّعر لكنني أحاولُ تحليلهُ (أو تفكيكهُ) من خلال تجربتي. كلُّ قراءة هي تأويلٌ بشكلٍ ما، لا يمكنُ للإنسان أن يكونَ موضوعيًّا، لأنّنا بطريقةٍ أو بأخرى -للأسف الشديد- بشرٌ تدفعنا "موضوعيتنا" نحو مزيد من الذاتيَّة. التحيُّز المُسبق الذي نقرأُ من خلالِهِ النُّصوص، ألعوبةٌ في يدِ الشاعر، والقارئ معًا.

التحيُّز المُسبق الذي نقرأُ من خلالِهِ النُّصوص، ألعوبةٌ في يدِ الشاعر، والقارئ معًا

يمكنُ للشاعر أن يكتبَ قصيدةً غزليةً ولكن لا يمكنهُ أبدًا أن يصيغَ مشاعرهُ على نحوٍ كامل وناجز. يمكنهُ أن يقاربَ المعنى إلى الكلمات، ولكنَّهُ لا يقولُ أبدًا حقيقةَ ما يشعر. وحين يكتب سيقرؤهُ القارئ وفقًا لتصوراته المسبقة وتحيُّزه وعلى هذا، يمكن أن نقول أنّ شاعرًا كتبَ قصيدة غزل، وأعطاها لصديقته التي تحبُّه جدًّا، ستشعر ببساطة أنها تمتلكُ الكون، لا أقيِّمُ هنا صدق الشاعر ولا أشكك فيه، ولكن ماذا إذا قرأت هذه القصيدة صديقة صديقتهُ التي لا تحبه وتراهُ يتلاعب بمشاعر صديقتها؟ سترى الكذب والزيف. قد يكون المثال ناقصًا بعض الشيء، ولكنني حاولتُ -كشاعرٍ سابق- أن أقول رأيي دونَ تحيز (إن استطعت). وهكذا تصبح شخصيَّة (صورته المتخيَّلة) الشاعر محورًا لكلماته.

هل يمكننا أن نسأل مثلًا ما الذي تثيرهُ كلمة الأُفُق في ذهن القارئ؟ ما الذي ستثيره نفس الكلمة إذا قلتها هكذا: أسيرُ كما سارَ الثكالى * على أُفقِ دربٍ حزين!

أغلب الشعراء، يعلمونَ هذه النقطة، التَّأويل، وسيدخل الشاعر البارع في لعبة التأويل هذه مع القارئ، كالتالي: إذا كان القارئ سيقوم بتأويل شِعرِي كما يحبُّ وكما يتصوَّرُ عنِّي، فأنا سأقومُ أيضًا بملاعبة عواطفهِ وفقًا لما أريد، ليستطيع أن يصل إلى ما أحبُّ أنا في لعبة التأويل. كم شاعرًا عرفنا كان شعرهُ يفيضُ بالثورةِ والنضال وهادن السلطات المستبدَّة؟ على الأقلّ في مصر وبقية بلاد الثورات العربية الفاشلة؟ كم شاعرًا تلاعب بمشاعر الفتيات اللاتي أحببنه؟ صدقني أنا لا أقيم أبدًا تجارب الناس، وفي صميمي أعرفُ أن الشاعر لا يمتلكُ زمام أموره، ولهذا يمكن أن نعتبر أغلب الشعراء "أطفال مدللين".

هل يمكنُ تحديد ما كان يقصدهُ درويش حين قال: أمَّهاتُ يقفنَ على خيطِ نايٍ؟!

العوالم المتخيَّلة

لا أريد أن أقول إنني أحجر على الإنسان أن يتعامل مع العالم من خلال تصوُّرات أقامها في ذهنه لأنّ هذا ليس مُمكنًا، ولكنِّي أريدُ أن أقول أنّ هذه التصورات بالنسبة للشاعر (أتحدث هنا عن أغلب الشعراء وفقًا لتجربتي أيضًا) تُصبح تصديقًا وكلامًا حيويًّا. فالشاعر يؤمنُ بأنَّهُ صاحبُ إلهامٍ ما، وبأنَّهُ نبيٌّ ولا يمكنُ تحديد هذه النتيجة سوى بتحليل النصوص، ولأنّ المقام لا يسمحُ بذلك سأشيرُ إلى كتاب "النبيّ" للشاعر جبران خليل جبران الذي وضع فيه تصوراته المُثلى عن النبيّ، ووضع حكمتهُ في الحياة من خلاله.

يهربُ الشاعر إلى الكلمات دومًا التي تستطيعُ أن تعطيهِ مكانًا آخر، وأفقًا لا تعطيهِ إيَّاهُ الحياةُ العاديَّة

لا يعيشُ الشاعر في الواقع، يهربُ إلى الكلمات دومًا التي تستطيعُ أن تعطيهِ مكانًا آخر، وأفقًا لا تعطيهِ إيَّاهُ الحياةُ العاديَّة. فبدلًا من أن ياخذ الواقع بجديَّة أكبر ينعزلُ عنهُ ويبدأ في "تقييمهِ" باعتبارهِ شيئًا سيِّئًا ووحشيًّا، ويهربُ للكلمات الزائفة، فيمكنُ للشاعر الذي أحبّ فتاةً ما لم يستطع أن يحادثها ورآها تحبُّ شخصًا آخر أن يتَّهِمَهَا بالخيانة ويقول لها: لا تكذبي إني رأيتكما معًا! مع أنها لم تكذب مثلًا، كما يمكنُ له إذا حدَّثها بحبِّهِ ولم توافق أن يتهمها بالخيانة أيضًا، هل لأنها خانتهُ بالفعل؟ أم لأنَّهُ يستمرئُ هذا الشعور بالألم والمظلوميَّة؟!

العوالم المتخيَّلَة للشَّاعر، مثاليَّةٌ، لا تخدشها الحياة لحظةً ولا تخضَعُ للتجربة، عوالم الشَّاعر فوق تاريخيَّة، لا يمكنُ له تطبيقها ولا يمكنُ لهُ أن يتخلَّى عنها لأنَّهُ يُحبّ أن يشعرَ أنَّهُ منبوذ وأنَّه يدافع عن قضيةِ اليوتوبيا والملحمة. هل يحقُّ للشاعر أن "يقتل نفسه، لا لشيء إلا لكي يقتلَ نفسه"، كما يقول محمود درويش بالفعل؟! 

هل يمكن أن نتساءل لماذا سيقتُلُ الشَّاعر نفسه؟ سيكون الجواب نعم سيقتل نفسه لا لشيء، ولكن كي يقتل نفسه. هل هذا شعورٌ حقيقي أم كان تلاعبًا بالكلمات؟!

اقرأ/ي أيضًا:

"الأحلام الجديدة".. نجيب محفوظ يثور

حنة آرندت.. فيلسوفة تفكيك الشمولية