28-سبتمبر-2018

فهد الحلبي/الجولان المحتل

تهدف أدبيّات مدرسة "التابع" في اتجاهيها الكلاسيكي والنقدي، إلى وضع المهمّش والتابع في قلب صناعة التاريخ والعمليات الاجتماعية، وذلك في مقابل مركزية تواريخ النخب المحليّة من جهة، وفي مقابل مركزية تواريخ الآخر الكولونيالي من جهة ثانية.

لاحظت غياتري سبيفاك أن النخب الثقافية تقوم بتمثيل المرأة والوصاية عليها تحت مبرر التعبير عن صوتها 

ومن اللافت أن ما يعرف بدراسات التابع يضم تخصصات معرفية مختلفة منها التاريخية والأدبية، والجندرية حديثًا، لكنها جميعها تشترك في السمة ما بعد الكولونيالية.

"هل يستطيع التابع أن يتكلم؟" عنوان مقال شهير للناقدة الثقافية غياتري سبيفاك، يعدّ الأوّل من نوعه في توظيف مقاربة التابع ضمن قضايا الجندر؛ كما يمثل مدخلًا لنقدٍ مزدوجٍ قامت به سْبيفاك لدراسات التابع عمومًا، من حيث إهمالها لقطاعات عريضة من الهامشيين، بتركيزها على التواريخ القومية، كما هو الحاصل في الهند مثلًا؛ ومن حيث استئسارها لخطاب الذاتية، القائم على مقولة "جعل التابع صانعًا لمصيره"، وهي الفكرة التي عمل البنيويون على نقدها كثيرًا.

بالمجمل يمكن القول إن مقال "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟" يُمثّل نمطًا من جلب المجموعات التابعة إلى دائرة الضوء، وحيّز الكلام، بعد أن تولى غيرُها تمثيلَها. فمسألة تمثيل التابع عبر خطابات مقدّسة "دينية" أو عبر ثقافة ذكورية أو عبر المُستعمِر، أو حتى عبر خطابات معرفية نقدية تدّعي الانحياز إليه، تجعله مطمورًا، وتجعل التساؤل عن إمكانية كلامه وجيهة، إذا استحضرنا ذلك القدر الهائل من القمع الممارس عليه. فسلب حق التمثيل هو أفظع ما يميز وضع التابع.

اقرأ/ي أيضًا: "أن ترى كدولة" لجيمس سكوت.. مجزرة التجانس وعقدته

تأخذ التبعية أشكالًا عدة، لكن يمكن اختزالها إلى شكلين بارزين، الأول منهما يتمثل في تبعية خارجية؛ استعمارية مثلا. أما الشكل الثاني فيتمثل في تبعية داخلية، على غرار التبعيات الجنوسية والطبقية.

نستحضر ههنا مع سبيفاك نمطًا مخصوصًا من التبعية، ومن الوصاية على الذات والوعي والجسد كابدتها النسوة، وما تزال تكابدها، في سياقات وأزمنة ثقافية مختلفة.

طقس حرق النساء بعد موت أزواجهن، المعروف بـ"ساتي" في الهند، وانتحار فتاة الخامسة عشر بسبب فكرة الإرغام على الزواج ممن لا تريد، مثالان يقدمان صورتين للتابع: صورة الإخضاع والتبعية التامة، التي تغذيها وتبررها المرجعية الدينية المقدّسة والثقافة الذكورية، باعتبار المرأة ملكًا للرجل. وصورة التصفية الجسدية أو "الكلام بالانتحار".

بالنسبة لطقس الساتي فإن المرأة في هذا الطقس تبرز كتابع مغيب الإرادة والوعي. فهي لا تملك من أمرها شيئًا؛ لا تملك حق الاستفسار ومن باب أحرى حق الاعتراض، بل إنها مدفوعة بثقل التقاليد وبسطوة النصوص الدينية وعنفها الرمزي، تعتبر الطقس خلاصًا لها ووفاء منها لزوجها الميت.

سنة 1929 قامت السلطات الاستعمارية البريطانية بتجريم طقس الساتي وأرغمت الهنود على التخلي عنه، لكن المفارقة التي تكشّفت عن ذلك القرار، تمثّلت في تعرض أصوات النساء لمصادرة مزدوجة واختطاف جديد، جعلهن ضحايا مرة أخرى. فالمستعمِر البريطاني الأبيض استغل المنع للادعاء بأنه من حرّر المرأة ومنحها حق الحياة، في نفس الوقت الذي أبقى على تمثيلها كذات مضطهدة مستلبة الوعي.

بين خطاب التحرير والتبرير يتعرض التابع لتغييبَيْن، وفي كلتا الحالتين يتكلم عنه غيره، ولا يُعبّر عن هويته، ولا عن الشكل الثقافي الذي يرتضيه. يقع الإشكال، الذي لفتت إليه سبيفاك، في عمق دراسات التابع، لأن تمثيل التابع وتغييب صوته يعدّ الوجه المميز للتبعية في كل حالاتها وتجلياتها العرقية والطبقية والجنوسية.

فوعي التابع يمتثل لتأثيرات النخبة، وتلك التأثيرات لها من القدرة ما يجعلها تنجح بسهولة ويسر في قولبة التابع وإعادة إنتاج وضعه، بل وهويته وطريقة وعيه بنفسه والعالم من حوله.

يولد ذلك الاستنتاج مشكلة أساسية، واجهت معظم التيارات النقدية والحركات الاحتجاجية التي نصّبت نفسها مدافعة عن الهامشيين والمستبعدين، ألا وهي كيف يمكن استعادة وعي التابع والالتقاء به في صورته الحقيقية؟

اقرأ/ي أيضًا: هايدغر في الفكر العربي

ينقلنا ذلك التساؤل إلى فضاء إشكالي واسع، يتعلق بمستويات جدل مختلفة أشبعتها فلسفات الحداثة وما بعد الحداثة وحتى الفلسفات القديمة نقاشًا.

يمكن القول إن مقال "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟" يُمثّل نمطًا من جلب المجموعات التابعة إلى دائرة الضوء، وحيّز الكلام، بعد أن تولى غيرُها تمثيلَها

بالنسبة لغياتري سبيفاك فإن موقفها يتماهى مع الموقف الماركسي، وبالأخص مع غرامشي الذي تحدث عن ضرورة المثقف العضوي الطليعي لإنقاذ وعي الطبقات المُهيمَن عليها، فما دام صوت التابع – وهو هنا المرأة التي وجدت في فكرة الحرق تعبيرا عن الوفاء – مخنوقًا وسط ركام من الحجب والمنع، فهو إذن صوت صامت؛ صوتٌ محكوم عليه بالفشل، لأن قوة المتبوعين، متمثلة في الثقافة السائدة، تحول دون انبثاقه ووعيه بذاته. وبالتالي وجب أن يجد من بين الطليعة المثقفة، ومن بين الطليعة النسوية المثقفة بالذات، من ينوب عنه ويتحدث بلسانه. لكن ألا يعيدنا ذلك مرة أخرى إلى فكرة التمثيل، بما فيها تلك التي طرحها ماركس عن "عجز الشرقيين عن تمثيل أنفسهم"؟

إن البحث عما استبعد، وعما هو متوارٍ ومنزوٍ وهامشي، شكّل هدفًا للكثير من التيارات النقدية، وخاصة المنحدرة من التقليد الماركسي. وغياتري سبيفاك، وإن كانت ظلّت وفية لهذا التوجه بمنهجيتها التفكيكية القائمة على حميمية نقدية واضحة، إلا أنها تمكنت من أن تخط لنفسها مسلكًا نقديًا مميزًا، جعل قضايا الجنوسة والجندر والتعليم في صميم اهتمامات دراسات التابع، التي كادت تنحصر في دراسة النخب السياسية والقضايا القومية، خاصة في دراسات التابع التاريخية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أكثر من مجرد عد.. كيف يصمم الإحصاء المجتمعات البشرية؟

ميشيل فوكو.. المنظور الفلسفي للسلطة