12-يونيو-2018

يعيد ترامب تشكيل المشهد في الاقتصاد العالمي (رويترز)

أثارت سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاقتصادية، جدلًا واسعًا منذ توليه السلطة في مطلع السنة الفائتة، حيث يميل إلى تشكيل علاقات تجارية ثنائية، ويفضلها على نموذج السوق الحر والعولمة الكامل. وقد تجلى ذلك في فرض شروط على مجموعة من الصادرات من دول مثل الصين، ثم أخيرًا، في فشل الحوار داخل مجموعة الدول السبع. وفي هذه المقالة المترجمة عن صحيفة الغارديان البريطانية، يتساءل المفكر الاقتصادي العالمي، ووزير الاقتصاد اليوناني السابق، يانيس فاروفاكيس عن مآلات هذه التحركات، وتأثيرها على مستقبل التحالفات في المشهد الاقتصادي العالمي.


برغم الذهول الذي أصابنا من جراء تصرفات ترامب الغريبة وأفعاله غير المألوفة التي قد تصل إلى حد الوقاحة في بعض الأحيان، فمن المهم أن نفهم التحولات الجذرية الكامنة التي تستند إليها تلك التصرفات.

في محاولة للجمع بين الصرامة والفكاهة، قال الرئيس الفرنسي مازحًا إن مجموعة السبع قد تصبح مجموعة الست

تسبب رحيل دونالد ترامب المبكّر، ورفضه بعد ذلك إقرار البيان المشترك الصادر في ختام قمة مجموعة الدول الصناعية السبع، في إصابة وسائل الإعلام الرئيسية بالسكتة الدماغية، مما يعكس عمق عدم فهمنا لمجريات واقعنا العالمي التي تتوالى فصولها تباعًا.

وفي محاولة للجمع بين الصرامة والفكاهة، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مازحًا إن مجموعة السبع قد تصبح … مجموعة الست. وهذا أمر سخيف، وذلك لأسباب أقلها أنه بدون الولايات المتحدة، ستختفي الرأسمالية كما نعرفها (ناهيك عن اجتماعات مجموعة السبع المثيرة للشفقة) من على وجه الكوكب.

اقرأ/ي أيضًا: فضائح رأس المال.. شركات عالمية تتجسس على جماعات ونشطاء حقوقيين

يوجد بطبيعة الحال، القليل من الشك في أنه مع استمرار ترامب على رأس السلطة في البيت الأبيض، ينبغي القلق من أشياء أسوأ بكثير. إلا أن رد فعل المؤسسة على مضايقات وممارسات الرئيس، في الولايات المتحدة وأوروبا، قد يُمثل مصدر قلق أكبر بالنسبة للتقدميين الذين يدعمون الإصلاحات التدريجية الاجتماعية والسياسية، إذ أنها تزخر بالأماني الخطيرة والأخطاء الوفيرة في التقدير.

وضع البعض ثقتهم وآمالهم في تحقيق مولر، على افتراض أن مايك بنس سيكون أكثر لطفًأ معهم إذا أصبح رئيسًا. بينما يحبس آخرون أنفاسهم حتى عام 2020، رافضين النظر في إمكانية فوز ترامب بفترة ولاية ثانية. وما فشل الجميع في فهمه، هو التحولات الجذرية الحقيقية التي تستند إليها تصرفات ترامب الغريبة.

تبني إدارة ترامب زخمًا اقتصاديًا كبيرًا على الصعيد المحلي. أولًا، تمكن ترامب من إقرار تخفيضات ضريبية على الدخل والشركات التي لم يكن بإمكان الطبقة الحاكمة بالحزب الجمهوري تخيلها حتى في أكثر أحلامهم جموحًا منذ بضع سنوات. ولكن هذا لم يكن كل شيء. وراء الكواليس، أثار ترامب دهشة نانسي بيلوسي، زعيمة الديمقراطيين في مجلس النواب الأمريكي، عندما وافق على جميع البرامج الاجتماعية التي طلبتها منه. ونتيجة لذلك، تدير الحكومة الفيدرالية أكبر عجز في الميزانية في تاريخ الولايات المُتحدة بينما معدل البطالة لا يتخطى 4 %.

أيما كان ما يفكر فيه المرء تجاه هذا الرئيس، فهو يعطي المال ليس فقط للأغنياء، الذين يحصلون بالطبع على قدر أكبر من غيرهم، بل وأيضًا للعديد من الفقراء. مع نمو العمالة القوية بشكل واضح، ولا سيما بين العمال الأمريكيين الأفارقة، لا يزال التضخم تحت السيطرة وسوق الأوراق المالية لا يزال مزدهرًا، وقد جعل دونالد ترامب جبهته الداخلية تغطي أحداث سفره لمّا كان مسافرًا إلى الأراضي الأجنبية لمواجهة الأصدقاء والأعداء.

 تمكن ترامب من إقرار تخفيضات ضريبية على الدخل والشركات لم يكن بإمكان الطبقة الحاكمة بالحزب الجمهوري تخيلها

تأمل المؤسسة الأمريكية المناهضة لترامب أن الأسواق ستعاقب تبذيره وإسرافه. وهذا ما هو متوقع أن يحدث بالضبط إذا كانت أمريكا أي دولة أخرى. ومن المتوقع أن يصل العجز المالي إلى 804 مليارات دولار عام 2018 و981 مليار دولار في عام 2019، ومع التوقعات التي تُشير إلى سعي الحكومة إلى اقتراض 2.34 تريليون دولار في الأشهر الثمانية عشر المقبلة، فإن سعر الصرف سيتحطم وسترتفع أسعار الفائدة إلى أقصى حد. إلا أن الولايات المتحدة ليست مثل أي دولة أخرى.

ومع قيام البنك المركزي، المعروف أيضًا بالنظام الاحتياطي الفيدرالي، بإنهاء برنامج التخفيف الكمي من خلال بيع مخزونه من الأصول المتراكمة إلى القطاع الخاص، سيحتاج المستثمرون إلى دولارات لشرائها. يؤدي هذا إلى نقص عدد الدولارات المتاحة للمستثمرين بما يصل إلى 50 مليار دولار شهريًا. أضف إلى ذلك الدولارات التي يحتاجها الرأسماليون الألمان والصينيون لشراء السندات الحكومية الأمريكية (في محاولة لحفظ أرباحهم في مكان آمن)، بعد التفكير في كل ذلك قد تبدأ في معرفة السبب الحقيقي الذي يجعل ترامب يعتقد أنه لن يُعاقَب نتيجة لاستنزاف الدولار أو السندات الحكومية.

يتسلح ترامب بالامتياز الباهظ الذي يتمثل في امتلاك مطابع الدولارات، ثم يلقي نظرة على التدفقات التجارية مع بقية مجموعة السبع ويصل إلى استنتاج لا مفر منه، وهو أنه لا يمكن أن يخسر الحرب التجارية ضد الدول (مثل ألمانيا، إيطاليا، الصين) التي لديها مثل هذه الفوائض المالية الكبيرة، أو التي (مثل كندا) سوف تصاب بالالتهاب الرئوي في اللحظة التي قد يصاب فيها الاقتصاد الأمريكي بنزلة برد.

تأمل المؤسسة الأمريكية المناهضة لترامب أن الأسواق ستعاقب تبذيره وإسرافه

لم يكن هذا أمرًا جديدًا. فقد واجه ريتشارد نيكسون أيضًا المؤسسة الأوروبية عام 1971 بينما فرض رونالد ريغان ضغوطًا صارمة على اليابانيين في عام 1985. وحتى اللغة لم تكن أقل تحضرًا، بالإشارة إلى ملخص موقف إدارة نيكسون من الكلمات الفريدة التي قالها جون كونالي، وزير الخزانة الأمريكي الأسبق، "فلسفتي هي أن جميع الأجانب يسعون للنيل منا، وأنه من واجبنا أن ننال منهم أولًا". بينما يتميّز اليوم عدوان الولايات المتحدة تجاه حلفائها عن تلك المواقف السابقة بطريقتين.

أولًا، فمنذ الانهيار الذي شهده سوق الأوراق المالية وول ستريت في عام 2008، وعلى الرغم من إعادة تعويم القطاع المالي لاحقًا، لم يعد بإمكان وول ستريت والاقتصاد المحلي الأمريكي بعد الآن أن يفعلوا ما كانوا يفعلونه قبل عام 2008، أي، استيعاب صافي صادرات المصانع الأوروبية الآسيوية من خلال فائض تجاري مُمول من قبل تدفق مكافئ من الأرباح الأجنبية المرتبطة بعقود مع الولايات المتحدة. ويُعد هذا الفشل هو السبب الرئيسي الكامن وراء عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي العالمي الحالي.

ثانيًا، على عكس ما حدث في حقبة السبعينيات، تؤكد السنوات العشر الأخيرة من سوء إدارة أوروبا لأزمة اليورو، أن المؤسسة الفرنسية-الألمانية أصبحت الآن تعاني من الفرقة، أضف إلى ذلك انتشار النزعات المعادية للأجانب، وسيطرة المتطرفين المناهضين للاتحاد الأوروبي على الحكومات.

يلقي ترامب نظرة واحدة على كل هذا ويخلص إلى استنتاج مفاده أنه إذا لم تعد الولايات المتحدة قادرة على تحقيق الاستقرار في الرأسمالية العالمية، فإنه سينسف الاتفاقيات متعددة الأطراف القائمة، وسيبني من نقطة الصفر نظامًا عالميًا جديدًا يشبه عجلة القيادة، حيث تصبح أمريكا محور هذه العجلة وبقية السلطات الأخرى مجرد خطوط فرعية، وقد ينطوي ذلك النظام على اتفاقيات ثنائية الأطراف من شأنها أن تضمن أن تكون الولايات المتحدة دائمًا الشريك الأكبر في كل منها، وبالتالي ستتمكن من الحصول على أكبر قدر من المكاسب من خلال تكتيكات "فرق تسُد" المعروفة.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا وراء انفتاح الصين على رؤوس الأموال الغربية؟

هل يمكن للاتحاد الأوروبي إنشاء تحالف "أوروبا أولًا" ليناهض سياسات ترامب، والذي ربما يضم الصين؟ لقد أجيب على هذا التساؤل بالفعل، بعد إلغاء ترامب للاتفاق النووي الإيراني. ففي غضون دقائق من تصريح المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بأن الشركات الأوروبية ستبقى في إيران، أعلنت الشركات الألمانية كلها أنها خارج إطار هذا التصريح، معطية بذلك الأولوية للتخفيضات الضريبية الضخمة التي قدمها لهم ترامب داخل الولايات المتحدة.

وأخيرًا، لدينا سبب وجيه يجعلنا نشعر بالفزع من ترامب؛ فقد فاز ضد المؤسسة الأوروبية التي تتخبط في جهل تام بالقوى التي تحاول تقويضها، وتمهد الطريق لتطورات مروعة. تقع المسؤولية على التقدميين في القارة الأوروبية، وفي المملكة المتحدة، وفي الولايات المتحدة، لوضع المخططات الخاصة باتفاق أممي جديد، والفوز في الانتخابات التي تقوم حملاتها عليه.

خلال لحظات تفاؤلي النادرة، أتخيل تشكيل تحالف بين بيرني ساندرز عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، والمرشح السابق في الانتخابات الرئاسية لعام 2016 من قبل الحزب الديمقراطي، وجيريمي كوربين عضو البرلمان البريطاني ورئيس حزب العمال، وحركة من أجل الديمقراطية في أوروبا 2025، والمعروفة اختصارًا باسم "DiEM25"، وتحدي نعرات القومية الدولية التي يقودها ترامب بكل قوة. فقبل بضع سنوات، بدا أن انتصار ترامب في الولايات المتحدة، وأوروبا وغيرها، أمر مستبعد تمامًا. ولذا فإن التفكير في تشكيل مثل هذا التحالف يستحق المحاولة.
 

اقرأ/ي أيضًا:

أمريكا "الحمائية" ونسخة الصين من الأسواق المفتوحة.. العولمة إذ ترتبك

هل هذا عصر انتفاض الغرب ضد العولمة؟