28-نوفمبر-2017

إدانة راتكو ملاديتش استثناء وليست القاعدة (توسان كلويترز/ أ.ف.ب)

بعد إدانة مجرم الحرب الصربي الجنرال راتكو ملاديتش بالإبادة الجماعية في البوسنة، والحكم عليه بالسجن المؤبد، نشرت صحيفة الجارديان البريطانية مقالًا يُثبت بالوقائع أن ملاديتش سيئ الحظ من جهة كونه الاستثناء الذي يُثبت قاعدة إفلات مجرمي الحرب من العقاب تحت أعين المجتمع الدولي. في السطور التالية ترجمة بتصرف للمقال.


قُوطع قاضي محكمة الجنايات الدولية بلاهاي في أثناء نطقه بالحكم، عبر مزيجٍ من الإهانات والسباب الذي أطلقه مجرم الحرب الجنرال الصربي السابق راتكو ملاديتش، بعد أن أدانته المحكمة بالإبادة الجماعية التي وقعت في البوسنة، وحكمت عليه بالسجن المؤبد. سُجن سفاح سربرنيتيسيا، لكنه قد أخفى توهج شرارة كانت قد أُضيئِت منذ أكثر من عقدين، ليس فقط لأن جرائم ملاديتش اُرتُكِبت في منتصف التسعينيات، ولكن أيضًا لأن فكرة جلب أحد مجرمي الحرب إلى العدالة تبدو كما لو كانت ذاكرة من الماضي البعيد.

يبدو مجرم الحرب الصربي ملاديتش سيئ الحظ، بعد أن حكم عليه بالسجن المؤبد، لأنه في العادة يُفلت مجرمو الحرب من العقاب هذه الأيام!

وقبيل اصطحاب راتكو ملاديتش إلى الزنزانة، أُقيل روبرت موغابي من رئاسة زيمبابوي التي كان قد سيطر عليها لمدة 37 عامًا. وأفادت التقارير أنه في مقابل تلك الاستقالة/الإقالة، قد أغلقت الملفات التي تفضح تورطه في إحدى أكبر المذابح، والتي راح ضحيتها قرابة 20 ألف شخص أو أكثر في ماتبي ليلاند، أوائل ثمانينيات القرن الماضي.

اقرأ/ي أيضًا: السجن المؤبد.. إدانة منقوصة لمجرم الحرب الصربي راتكو ملاديتش 

وحتى زعيم المعارضة، مورغان تسفانجيراي، الذي تعرض للاعتداء على يد أتباع موغابي، قال إن الديكتاتور لا ينبغي أن يواجه العدالة، مُصرحًا لـ"بي بي سي" أنّ ملاحقة الرجل العجوز قضائيًا "لن تكون مجدية"، مُضيفًا: "أعتقد أنه ينبغي السماح له بالراحة في أيامه الأخيرة"!

طواغيت القتل دون رادع

ولا ينكر تسفانجيراي على الإطلاق الواقع السياسي، وأنّه حلّ هو وحزبه محل موغابي في السلطة، ولعله يعي أنه ليس من مصلحته بدرجة كبيرة، أن ينبش في ماضي موغابي. إن الحقيقة شبه الثابتة في المجتمعات التي مزقتها الصراعات، أنه غالبًا ما يكون التخلي عن تحقيق العدالة في ما مضى لأجل إحلال السلام في المستقبل.

ولكن هناك شعوب أخرى تقف في طريق تحقيق العدالة بنفس القدر، دون أن يكون هناك فرصة تعويضية لإحلال السلام. ميانمار كمثال، حيث يتعرض مسلمو الروهينغا إلى حملة إبادة جماعية، وقد فرّ من الويلات نحو 620 ألفًا من الروهينغا إلى بنغلاديش هربًا من التطهير العرقي الذي يتعرضون له على يد مليشيات متشددة، تحت عين قوات الجيش التي تشارك أحيانًا في هذه الحملة.

ووفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، قال الناجون، إنهم رأوا جنودًا تابعين لحكومة ميانمار، يطعنون الأطفال ويقطعون رؤوس الأولاد والفتيات المغتصبات، ويقذفون بالقنابل اليدوية على المنازل لتفجيرها، ويحرقون عائلات بأكملها حتى الموت، ويجمعون العشرات من القرويين العُزّل ويعدمونهم جماعيًا.

في مكان آخر، يسقط عشرات المدنيين وربما مئات منهم يوميًا. في اليمن، يتورط التحالف السعودي في ارتكاب مجازر تطال المدنيين. وفي سوريا الحال ليس أفضل مع وجود طواغيت النظام السوري وطواغيت ما تبقى من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). من يظن إذن أن مرتكبي كل تلك الجرائم سيقفون يومًا من الأيام في قفص الاتهام؟

بل على العكس، فإن المجتمع الدولي، وإلى جانب أنه لا يفعل شيئًا يُذكر لوقف القتل، فهو يقوِّض أية فرصة مستقبلية لمقاضاة المذنبين. وكانت روسيا قد استخدمت الأسبوع الماضي، حق النقض (فيتو) في مجلس الأمن الدولي، لإغلاق مكاتب مفتشي الأمم المتحدة في سوريا، والذين كانوا يجمعون الأدلة على استخدام النظام للأسلحة الكيميائية.

وفي الوقت نفسه، فإن لجنة العدالة والمساءلة الدولية (منظمة غير حكومية صغيرة، ولكنها ذات صيتٍ واحترامٍ واسع النطاق، وقد شاركت بشكلٍ مماثل في جمع الأدلة الهامة في سوريا) قُطع التمويل عنها من قِبل الحكومة الأمريكية، ربما كمقدمة لاتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا يسمح للأسد بالإفلات بجرائمه بعد أن تسبب بشكل مباشر في مقتل مئات الآلاف. 

كيف يمكن لمثل هذا أن يحدث؟ كيف يسمح العالم الذي أعلنها مدويةً في عام 1945، أن مثل هذه الأمور "لن تحدث أبدًا مرةً أخرى"، لمثل تلك الإبادة الجماعية أن تمر دون عقاب؟ هذا العالم الذي صمّم بُنية قانونية جديدة للجرائم ضد الإنسانية في عام 1945، والتي وُضعت أُسسها في محاكمات نورمبرغ، يجد نفسه بعد 72 عامًا مكتوف الأيدي في مواجهة مثل هذه الفظائع؟!

تعتبر محاكمة راتكو ملاديتش استثناءً، فالقاعدة هي تجاهل المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية المعنية، لجرائم الحرب ومجرميها

الحقيقة الأولى التي يجب علينا أن نتذكرها، أنه كان ثمة انفراجة ثورية تُحيِط بـ"نورمبرغ"، ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث على مدار الـ50 عامًا التالية لهذه المحاكمات. وبعد ذلك في التسعينيات، جاءت المحاكم الدولية بعد الأحداث التي وقعت في يوغوسلافيا سابقًا وكذا في رواندا؛ لاتخاذ بعض الإجراءات ضد المجازر المروعة التي وقعت هناك لتعويض الفشل العالمي في منعها، وأُنشئت المحكمة الجنائية الدولية. وبطريقةٍ أخرى، عندما تُقيّم عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية ككل، فإن الادعاء الذي رأى معاقبة راتكو ملاديتش بالسجن هذا الأسبوع، يُعتبر استثناءً وليس قاعدة.

اقرأ/ي أيضًا: تطهير الروهينغا عرقيًا.. مجزرة مستجّدة وتفاعل معتاد!

هذا الاستثناء الذي أدى في النهاية إلى إدانة راتكو ملاديتش والحكم عليه بالسجن المؤبد، نشأ لتضافر ظروف محددة، في حالة لا تتكرر بسهولة، فخلال التسعينيات، وبعد انتهاء الحرب الباردة، وخلال الفترة التي بدأت فيها المحاكمات، كانت روسيا أضعف من اتخاذ موقف رافض لها، ما أتاح فرصة كبيرة لنجاح مهمة محاكمة راتكو ملاديتش. مثل هذه المحاكمة، لو أنها بدأت في مثل هذه الأيام، لكانت روسيا فلاديمير بوتين قد وقفت لها بالمرصاد على الأغلب.

بالإضافة إلى ذلك، شهدت التسعينيات ما بدا أنه تحوّل عابر في نطاق القانون الدولي، فكان اقتراح تأسيس المحكمة الجنائية الدولية، إلى جانب القبض على الديكتاتور التشيلي السابق أوغستو بينوشيه بلندن؛ إيذانًا بظهور عالم جديد يسود فيه القانون الحاكم مالتجاوز للسيادة الوطنية، فتُخيّل أنه لم يعد بمقدور الطفاة أن يقتلوا شعوبهم دون عقاب. لكن الوضع بمرور الوقت اتضح أنه ليس بهذه الصورة الرومانسية.

ووفقًا للمحامي الدولي، فيليب ساندز، فإن الأمل بوجود نماذج للعدالة الدولية "قد انتهى"، مُشيرًا إلى حقيقة أن محكمة الجنايات الدولية لا تتعامل مع الجرائم الكبرى في عصرنا الحالي، بدءًا من أفغانستان والعراق فسوريا وزيمبابوي وميانمار وحتى اليمن: "جميع تلك القضايا غائبة عن جدول أعمال المحكمة"!

ويرى فيليب ساندز أن المسؤولية تقع في المقام الأول على عاتق البلدين اللذين قادا هذا التحول في التسعينيات، وهما الولايات المتحدة وبريطانيا. فكلاهما، ورغم ما بدا منهما إصرارًا على "سيادة القانون وتنفيذ الإجراءات القانونية"، إلا أنه عندما يأتي الأمر لـ"تحقيق العدالة الدولية" فإن كلا البلدين لا يفعلان شيئًا.

ما الذي يمكن القيام به لإحياء فكرة أن الديكتاتوريين والطواغيت القتلة، يجب أن يواجهوا العدالة؟ قد يتطلب ذلك إصلاح المؤسسات الدولية الرئيسية لإكسابها الشرعية مرة أخرى. ولم تغفل الدول النامية أن المحكمة الجنائية الدولية لم توجه أي اتهامات سوى إلى القادة الأفارقة فقط. وقد يساعد القيام بإحداث تغيير في الدول الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن الدولي، الذي ما زال متحيزًا نحو أوروبا والغرب، للوصول إلى هذا الهدف.

لإحياء فكرة تحقيق العدالة الدولية ربما يجب إصلاح المؤسسات الدولية، وربما أيضًا إجراء تغيير في الدول الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن

وبصورةٍ أعمق، قد نحتاج إلى تجديد حجة مفادها أن هذه الأيام تبدو متقلبة وبائسة. تلك الرؤيا التي تدعم وتؤكد أنه يجب أن يكون هناك حدود لما يُعرف بالسيادة الوطنية للدول، وأنه ليس لأي طاغية الحق في القتل دون عقاب، حتى داخل حدوده. في هذه الحقبة الحالية التي تتزايد فيها النزعة القومية والشعبوية، تتقاسم فيها المؤسسات السيادية والقانونية الدولية على حد سواء، شعورًا  يائسًا وغير مألوفًا. العدالة هي العدالة، هكذا هي دائمًا، قد تبدو ضائعة وميؤوس من تحقيقها، لكن يجب علينا دائمًا المطالبة بها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

15 مليون إنسان حول العالم بدون جنسية.. كارثة متعمدة وراء الستار

الأمم المتحدة تصوت على محاسبة مجرمي الحرب في سوريا