26-سبتمبر-2018

مخيم باب الهوى قرب الحدود التركية (عمر حاج قدور/Getty)

تضعنا الصور المسربة لجثث المعتقلين السوريين، الذين تم الإجهاز على حياتهم في معتقلات النظام الأسدي، أمام إعادة فحص لفلسفة التعذيب الأسدية ومساءلتها، لنكتشف فيما إذا كانت تلك الفلسفة قد قدر لها أن تكتفي بإعادة المتمرد أو المحتج السوري إلى حضن الطاعة الأسدية، ومن ثم إعادة تدويره في المجتمع من جديد كخانع ومستلب لسلطان السلطة القادرة على سحقه متى تريد. في نفس الوقت  تأهيله  للقيام بدور الحامل لرسالة السلطة الردعية اتجاه بقية أفراد الجسد المجتمعي، تلك الرسالة التي تتوعد كل من يفكر بالتمرد على سلطتها بالعذاب الجهنمي الذي لا يُطاق. 

تتجاوز الغاية من التعذيب الأسدي فكرة العودة إلى حضن السلطة منتقلًة إلى مرحلة إفناء الشخص المعارض من الوجود

إلا أن جثث المعتقلين التي ماتزال تحتفظ بآثار التجويع الممنهج، أو آثار الضرب أو الشنق أو تكسير الأطراف، تؤكد لنا أن الغاية من التعذيب الأسدي، تتجاوز فكرة العودة إلى حضن السلطة، منتقلًة إلى مرحلة إفناء الشخص المعارض من الوجود، وإن التعذيب جزء من العقوبة لا العقوبة ذاتها، ذلك أن فكرة الغفران أو التوبة غير واردة في ذهن السلطة المُتألَّه لشخص قام بانتهاك ذاتها الرئاسية المقدّسة.

اقرأ/ي أيضًا: حين أصبح بشار الأسد أيقونةً لليمين المتطرف في الولايات المتحدة

في مقابل هذا التوحش الضاري من قبل السلطة الأسدية ورجالاتها وأنصارها، ينهض في داخل كل واحد منا السؤال البسيط عن معنى أن يكون المرء إنسانًا، إذ كيف يمكن لإنسان طبيعي لديه زوجة وأولاد وأصدقاء أن يقوم بتعذيب إنسان آخر أو قتله كما لو كان الأمر فعلًا يوميًا من أفعال الحياة، دون أن يشعر بتأنيب من ضمير أو إحساس بمسؤولية تجاه قضية القتل المدانة مجتمعيًا؟ المفارقة المفجعة أن المحرقة السورية بماركتها المسجلة "الأسد وشبيحته" ليست نشازًا في السياق التاريخي للمجتمع البشري، إذ سبقتها المحرقة اليهودية ببصمتها النازية، ولكن ما هو محير هي المبررات التي يمكن للبشر سوقها في سبيل التنصل من سلوكهم الإجرامي، لذا كان على علماء النفس الاجتماعي أن يتوصلوا إلى مقاربة مقنعة، علها تساعدنا في فهم هذا الإشكال العويص للكائن البشري، الذي أمضى عشرات آلاف السنين وهو يروض الوحش في داخله، لكن يا لسرعان ما يرتد إليه ليصيره في لحظة.

من أجل المساهمة بحل هذا اللغز أو فهم كنه طبيعة البشر، نظم عالم النفس الاجتماعي الأمريكي ستانلي ملغرام عام 1962 اختبارًا عرف عالميًا باختبار ملغرام، وقد كان الهدف من الاختبار أو الدراسة قياس مدى استعداد المشاركين لإطاعة سلطة تأمر بتنفيذ ما يتناقض مع ضمائرهم.

أراد ملغرام من الاختبار أن يجيب على السؤال التالي: هل يعقل أن دور الجنود الذين نفذوا الهولوكوست لم يتعد تنفيذ الأوامر؟ أم أنهم لم يكونوا سوى شركاء في الجريمة؟ أما نتائج التجربة فقد كانت صاعقة لملغرام نفسه، الذي أبدى شكوكًا حيال قدرة طبيعتنا البشرية على حماية الآخرين الذين تقوم السلطات السياسية أو الاجتماعية من أفعال القسوة والعنف والتنكيل المجتمعي. فالحد الفاصل لتحول الإنسان من الحالة الطبيعيّة إلى التوحش البشري برأيه، يتوقف على تقديرنا لمدى شرعية السلطة التي تصدر الأوامر إلينا، فإذا ما توفرت لنا القناعة التامة بشرعية هذه السلطة فإننا ننحو لتنفيذ أوامرها دون مساءلة أو اعتراض حتى ولو كانت تتعارض مع ضميرنا الإنساني.

 لكي تضمن السلطة الشرعية أو الحاكمة لنفسها تنفيذ أوامرها اللاأخلاقية ضد معارضيها من قبل جنودها أو موظفيها أو أنصارها، كان لا بد لها من أن تقوم بعملية شيطنتهم على نحو صارخ، إلى الدرجة التي تسمح لها ولأنصارها بالتخلص منهم أو إبادتهم دون أي شعور بالذنب، وتحويل ذلك العمل إلى نوع من أنواع العمل المقدس والبطولي بآن.

في سبيل إتمام عملية الشيطنة ضد المعارضة السورية، وجدت السلطة الأسدية ضالتها في مفهوم الإرهاب الفضفاض، حيث قامت بإنزاله من علياء المجال البحثي والمفاهيمي المختلف عليه، إلى حيز الواقع ليصبح التهمة التي ستدمغ بها كل محتج أو معارض لسلطتها.

اقرأ/ي أيضًا: صفر مشاكل نتنياهو مع بشار الأسد.. الجولان جبهة "حميمة"

حاولت السلطة الأسدية في بداية الاحتجاجات السلمية أن تحصر تهمة الإرهابي بكل شخص دخل إلى جامع بقصد أن ينطلق منه في مظاهرة احتجاج ضدها، وهكذا أصبح الإرهابي بعرفها الشخص المسلم، الذي لم يتورع عن التمرد على سلطتها فحسب، بل على سلطة مشايخه الذين لا يجيزون له الاحتجاج على سياسة الحاكم حتى ولو كان فرعونا بحجة تقديم الأمن والاستقرار على مبدأ الكرامة الإنسانية. وقد كان يهدف من وراء ذلك التجريم الديني للمتهمين، القيام بعزلهم عن بيئتهم الاجتماعية كي يستفرد بهم ويفرغ احتجاجاتهم من أية فاعلية، ولمّا لم ينجح في مساعيه قرر الأسد الابن بتجريم جميع أبناء الحاضنة الشعبية ليصار إلى تبرير العقاب الجماعي لاحقًا ضدهم. 

وجدت السلطة الأسدية ضالتها في مفهوم الإرهاب الفضفاض لشيطنة خصومها ووصم أي مستوى من المعارضة

\لما كانت السلطة السياسية والأمنية تعرف أن خروج الناس في احتجاجات سلمية ضدها لا يجعل منهم إرهابيين، عمدت أجهزته الأمنية إلى إطلاق الرصاص على رجال الأمن وإتهام المتظاهرين بها، كما عمدت إلى افتعال العديد من العمليات التفجيرية ضد بعض مراكز ها الأمنية لإظهار الطابع العنيف والدموي للاحتجاجات، وهكذا سوقت عبر وسائل إعلامها المختلفة لفكرة الإرهابي، الذي هو من جهة أولى مسلم متمرد، ومن جهة أخرى مسلم عدمي، حامل للموت والخراب أينمّا حل، إنه العدواني الذي لا يتوانى عن قتل نفسه وحسب بل قتل غيره من الأبرياء. إنه الإلغائي الذي لا يقبل التعايش مع الآخر المختلف. هو الحاقد تارة والجشع تارة أخرى الذي لاهم له سوى الحصول على السلطة، التي ليست من حقه. وهكذا أضحى الإرهابي حسب الترسيمة الأسدية مسلمًا أصوليًا، حاملًا للموت، مهددًا لوجود الجماعات الأخرى، فإن لم نبادر بالتخلص منه وسحقه فسيبادر إلى إزالتنا من الوجود.

نجحت آلة الأسد الإعلامية في وصم كل متحد لسلطتها بتهمة المتمرد الآبق الذي لا يستحق الحياة، متعامية عمدًا عن أيادي هشام شربجي وغياث مطر الممدودة لقتلتهم بالورود. معطية الإذن بتحويل سوريا كلها إلى سجن كبير، فلم تسقط بلدة داريا بفعل براميل الأسد المتفجرة فحسب، بل بفعل سياسية التجويع التي طالت جميع أبنائها، الهياكل العظميّة التي شاهدها الناس عبر شاشات التلفزيون لم تكن ملتقطة في معسكر أوشفيتز النازي في بولندا، بل كانت من شمال دمشق حيث بلدة مضايا تحديدًا، الملوك الثلاثة التي التقطتهم عدسة نيراز سعيد وهم يصارعون الجوع، كانوا هنا في اليرموك على مقربة من سيد القصر الرئاسي، الذي كانت صواريخ جنوده تهيل المخيم على رؤوس ساكنيه.

الأطباء العسكريون المفتونون بسلطة مشارطهم، الممرضات أيادي الله الناعمة التي تصير شوكًا، الفتيات الجميلات في ميليشا الدفاع الوطني يعتمرن خوذ الحرب والحقد، الطلبة، سائقو الباصات، مزارعو التبغ والشبيحة: وجه السلطة القبيح، وهم يهللون: هللويا هللويا.. اقتلوهم حيثما ثقفتموهم. شركاء أم ضحايا هذا هو السؤال المحير يا سيد ستنالي ملغرام، الجريمة واحدة ولكن القتلة كثر!

 

اقرأ/ي أيضًا: 

كيف حصل حلفاء الأسد على 18 مليون دولار من الأمم المتحدة؟

أسماء الأسد.. "سيدة الجحيم الأولى" التي خدعت العالم الغربي