29-يونيو-2019

بمقدر الزوار الحصول على تأشيرة إثيوبيا في المطار بسهولة مقابل 50 دولار (Getty)

ليست هذه المرة الأولى التي أزور فيها إثيوبيا، تبدو خلف المرايا جميلة وساحرة، بعد سقوط المطر الذي لا يتوقف أبدًا. تهتز الصورة خلف ماء المرايا، على درك الحقائق المهتزة، إنها بالضبط أشبه بفتاة مراهقة حد الإغراء وفوضوية بشكلٍ مزعج.

في إثيوبيا، الفقراء والأغنياء، تبدو عليهم سمة الروقان، وقد توارت النزعة الاشتراكية لنظام مريام في حضور طاغٍ لروح ملس زيناوي

عند هبوط الطائرة في مطار بولي الدولي، وجدت خدمة الإنترنت مقطوعة بالكامل، بسبب محاولة انقلابية عسكرية فاشلة، قُتل على إثرها رئيس أركان الجيش، الجنرال سيرى مكونن، بسلاح حارسه الشخصي. وكانت المظاهر العسكرية التي تركتها في الخرطوم بما في ذلك قطع خدمة الإنترنت وجدتها في أديس أبابا، ما جعلني أتحسس حظوظي العاثرة.

اقرأ/ي أيضًا: إرث النهب الاستعماري.. متحف بريطاني يعير إثيوبيا بعضًا من كنوزها

الروقان

مشيت في شارع بولي وأطلس وميدان ميسكل الذي تقام فيها المناسبات الوطنية، وعبرت كاتدرائية سانت جورج التي تطل على ساحة مينليك، كان منظر الراهابات كالحمائم، تتدلى على صدوهن سلاسل الصليب بأحجام مختلفة، بينما تمتد في المساء الطويل الملاهي الليلة الصاخبة، وتنبعث من الأزقة المضاءة أصوات محمد وردي وسيد خليفة وبوب مارلي، وصخب حفلات "الدي جي" الهيستيرية.

إثيوبيا

الفقراء على فقرهم، والأغنياء، تبدو عليهم سمة الروقان، وقد توارت شيئًا فشيئًا النزعة الاشتراكية مطلع التسعينات لنظام الراحل الشيوعي منغستو هيلا مريام، في حضور من ضوّعت روحه السّلميّة أرجاء المكان؛ ملس زيناوي، حليف الغرب، ورجل أفريقيا القوي، الغائب الحاضر والملهم حتى اللحظة، لأنه تمكن من حكم بلاد معقدة إثنيًا وجغرافيًا، فشلت محاولات خلفه هايلي مريم ديسالين، وإلى حد ما، آبي أحمد، رئيس الوزراء الحالي، في تجنيب إثيوبيا بؤر العنف والصراع العرقي، اللذيْن يؤذننان بالمزيد من القتال، والانقلابات في الغالب.

لم يفتني أن أستمتع بمشهد "الرينبو" الفرايحي أعالي الهضبة الإثيوبيّة، والألبوم الخامس لتيدي أفرو، ورقصات هايمونيت جيرما التي تبدو كثمرة الباباي، وكان المطر أيضًا ينهمر خلف النافذة وخيوط البرق تومض بين حين وآخر، كما لو أن السماء تنشق فيغمر نورٌ راعشٌ المرتفعات الماثلة.

شعب لا يحب السياسة

الناس هنا لا يحبون السياسة تقريبًا، ولكنهم متورطون فيها بحكم التعقيدات الجوهرية في بنية السُلطة. يمضغمون القات بشراهة، لينساب خدره اللذيذ في أجسادهم، ربما لينسوا مشاكلهم وعذاباتهم، وهو ما ميز تمامًا العاصمة التي قتل فيها رئيس أركان الجيش داخل منزله. 

فبعد أيام قليلة من تلك الحادثة المروعة، انتشر البوليس الفيدرالي بكثافة في الشوارع، دون أن يعطل عجلة الحياة، ولم تتضح بعد دوافع المحاولة الانقلابية، لكنها أفريقيا! لا تحتاج فيها الانقلابات إلى منطق تاريخي، المغامرة في الوصول إلى الحكم قائمة على الدوام، وينبغى على المرء أن يدرك ذلك، ويضع نصب تقديراته أيضًا حقل ألغام من الأزمات المكبوتة التي دفنها المستعمر في الأرض البِكر، حتى لا ينعم شعب أفريقيا بالديمقراطية والسلام، ونبدو في حاجة دائمة لمساعدة وتدخلات الرجل الأبيض.

إثيوبيا

حتى نفهم طبيعة التركيبة السياسية، ينبغي أن نشير إلى أن الحكومة الاتحادية في العاصمة أديس أبابا تشرف على تسع ولايات إقليمية قائمة على العرق، وتتمتع بحكم ذاتي يمنحها السلطة على إيراداتها وقوى الأمن فيها. 

لكن تمكين المجموعات الإثنية من حكم نفسها بنفسها، رغم أنه خفف نشوب التوترات ظاهريًا، إلا أنه أثار مشاكل الحدود بصورة لافتة، دون أن تتوقف أنظار كثير من القادة المحليين الطامحين في التصويب على مركز الحكم بأديس أبابا.

علاوة على ذلك، ظل التغراي، الذين يشكلون نحو 6% من السكان (قرابة ستة مليون نسمة)، يتمتعون بنفوذ سياسي ومالي جيد، بجانب هيمنة على ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الحاكم منذ مطلع التسعينات، ومكنهم ذلك من السُلطة لعقود، حتى أنها أصبحت بمثابة الأقلية الحاكمة، وتحالفت مع بعض دول الجوار، تحديدًا السودان. 

فيما كان الأورومو، سكان المرتفعات، يشعرون بالتهميش رغم أغلبيتهم، وربما أفلحت جهود آبي أحمد الذي ينتمي للأورومو في إعادة الاعتبار لهذه المشكلة، من خلال الإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي ابتدرها، وإطلاق سراح السجناء، والسماح لوسائل الإعلام من نقل الأحداث بحرية أكبر، وعقد اتفاقية سلام مع الجارة إريتريا، عطفًا على تمكين المرأة من نصف مقاعد الحكومة.

إثيوبيا

لكن بالرغم من ذلك، تعيش إثيوبيا في بركان قابل للانفجار في أي لحظة، ربما بسبب تنامي الخصومات العرقية فوق ركام تجربة الحكم الذاتي، أو بسبب جيوب محلية من المقاومين الذين لم يستوعب قادتهم بعد، أنه ثمة حاجة للسلام والاستقرار، وهو غالبًا ما جعل فنان إثيوبيا تيدي أفرو، يثير مشاكل النخب السياسية في كثير من مضامين أغانيه، بصورة رمزية، أشهرها بالطبع أغنية "طقر سو" بالأمهرية، والتي تعني الإنسان الأسود. 

تمجد أغنية تيدي أفرو، انتصار الإنسان الأسود متمثلًا في شخص الإمبراطور هيلا سيلاسي، على المستعمر الإيطالي في معركة عدوة الشهيرة، ولعل تمجيد الإمبراطور ينتقص ممن ثاروا عليه لاحقًا، وآلت إليهم مقاليد السلطة، كما يفسر البعض.

نهضة وسياحة

ثمة نهضة عمرانية هائلة، أخفت الوجه القديم للبلاد، وبرزت في الشوارع والمباني المحكمة بالزجاج المعشق وتعاريش الكلادينج، كما سهّل افتتاح خط مترو أديس أباب انسياب الحركة داخل المدينة، ليختفي الزحام كثيرًا في بلد يقطنه نحو 100 مليون نسمة، لا يبدو أن أكثرهم يفضل المركز على الأقاليم الأخرى، التي تتوفر فيها نسبيًا الموارد وسبل كسب العيش بصورة أفضل، لذلك يفضل أكثر الإثيوبيين إما الهجرة، أو العمل في الزراعة والرعي والتجارة في الأقاليم.

 

إثيوبيا

ويُلاحظ غلاء تعريفة سيارات الأجرة، بسبب ارتفاع كلفة استيراد المشتقات البترولية، والأجواء المتقلبة أحيانًا لدرجة تعاقب الفصول كلها في يوم واحد، باستثناء الصيف بالطبع، كما لو أن الشمس في خصومة أبدية، تحن إليها حنين العشاق.

الناس في إثيوبيا لا يحبون السياسة تقريبًا، رغم أنهم متورطون فيها بحكم التعقيدات الجوهرية في بنية السلطة

ولأن البلاد اختارات أن تتحول إلى قِبلة سياحية، أصبح بمقدر الزوار الحصول على التأشيرة في المطار بسهولة مقابل 50 دولار، وأكثر السياح، من الأثرياء، الذين ينفقون أموالًا طائلة، في أندية خاصة بهم، تقدم لهم كافة الخدمات والمتع، دون أن يعبأوا بخسارة مالية، ربما لجهة انخفاض سعر البر مقابل الدولار، وربما لأن كل شيء متاح هنا تمامًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بروناي دار السلام.. 8 حقائق مثيرة عن السلطنة الهادئة والغنية جدًا

إرث النبي موسى والخضر وأصحاب الكهف.. السودان مختلف على تاريخه