11-يوليو-2017

الفنان إبراهيم كيفو

كثير من البهجة والفرح يقابلهما الكثير من الحسرة في كل مرة نستمع فيه لأعمال المطرب وعازف البزق السوري إبراهيم كيفو، أو أبو ساكو كما يحلو لجمهوره ومحبيه مناداته، فصوته الأجش الذي يصدح بالتاريخ بات اليوم يحمل إرثًا ثقيلًا قادمًا من بلاد ما بين النهرين، أو ميسوپوتاميا، يتنقل به بين مسارح العالم وقاعاته حاضرًا فيها كصوت سوريا القديم. عابرًا بتلك البلاد التي تروي حكاياتها الموسيقى المشبعة من الجذر الثقافي الشعبي المتنوع، وما مر عليها من حضارات كانت الأساس الذي بنى عليه الابن البار لتلك المنطقة موسيقته.  

إبراهيم كيفو واحدٌ من الموسيقيين الذين بقوا أوفياء لإرث الموسيقى السوري القديم

إبراهيم كيفو واحدٌ من الموسيقيين السوريين الذي بقوا أوفياء لهذا الإرث الموسيقي، يحمله معه أينما حلّ، من التراتيل الأرمنية والتركية والأشورية، إلى الملاحم الكردية وأغاني طقوس الكنيسة السريانية، أثر التراكم الإثني والعرقي لمنطقة الجزيرة بمنتوجها الموسيقي كوّن شخصية كيفو، وكذلك استفزه للبحث في خبايا وأسرار تلك القداسة التي تعنيها الموسيقى للشعوب التي تقطن تلك الأرض.

اقرأ/ي أيضًا: فرقة "ناس الغيوان".. الزمن المغربي لم يرحل

اختبر إبراهيم كيفو غناء البايزوك الكوردي القادم من منطقة عين ديوار، حيث في آخر نقطة من سوريا يتنوع المغنى ويتفرد بين ثقافات المشرق بأنواع غنائية عمرها آلاف السنين، وأصر إبراهيم كيفو على اكتشافها وتعلمها فأتقنها أحسن إتقان وصارت هويته الموسيقية. حب الاكتشاف نماه غنى الجغرافيا التي قدمت له الأسرار، وخدمها بدوره بتسفيرها معه إلى أوروبا، حيث يعرفه الأوروبي بأنه من يغني لغة السيد المسيح.   

أغنية "صبيحة" و"شيريني" وغيرها.. تعود حكاياتها إلى زمن بعيد، توزعت وغنيت قبل سنوات بالتعاون مع فرق عالمية عمل معها كيفو، مثل الـ NDR واحدة من أهم فرق الجاز الأوروبية، ولاحقًا غناها إبراهيم كيفو في حفلات أخرى ومدن عدة.  وسواها الكثير من الأغاني المستوحاة من تاريخ وتراث الجزيرة السورية، وأغان حفظها إبراهيم كيفو عن أمه حين كانت ترددها بالأرمني والتركي.

يعرف إبراهيم كيفو عمله: "أعمل على الفلكلور التاريخي، أنا اليوم إبراهيم الكردي والسرياني والأرمني والتركي والعربي، لا أميز نفسي عن كل الأنواع الموسيقية الحاضرة من ثقافات الجزيرة السورية".

يطرق إبراهيم كيفو أيضًا أبوابًا موسيقية أخرى، وقد برع في تقديمها مثل الغناء الإيزيدي أو الترتيل الإيزيدي والغناء الأشوري، يرتل ويغني أغاني ارتبط وجودها بالحياة اليومية لأهل تلك المنطقة قديمًا، يغنونها في الحب والأعياد والمناسبات كالحصاد وغيرها. وحتى الغناء المارديني الذي تعلمه إبراهيم كيفو من والدته، موسيقى ماردين القريبة من الموسيقى الشعبية السريانية ومأخوذة أيضًا من موسيقى الكنائس، غير أن ماردين كحلب بالنسبة لسوريا، من حيث ارتباطها بالنوع الموسيقي الغنائي الخاص بها. ويردف إبراهيم كيفو: "كانت الأغاني مثل الحاجات اليومية الضرورية، والذي ميز الموسيقى الشعبية هو أن الناس من صنعتها وحفظتها بالتواتر، ويعود أيضًا لأنها أغان مرنة لم تفقد شكلها بالرغم من كل ماطرًا عليها، على سبيل المثال الدلوعة وغيرها من الأغاني الشعبية".

التراث الموسيقي للمناطق الشمالية الشرقية في سوريا، لايعرفه إلا أبناء المنطقة وقلة من الموسيقين المهتمين بالاطلاع على الأنواع الموسيقية الشعبية، وبالرغم من ذلك لم تقدر الموسيقى الشعبية السورية بشكل عام بمختلف أنواعها وأشكالها حق القدر الذي تستحقه. "لا ألقي اللوم على أبناء هذه المناطق اللذين قصروا بعض الشيء اتجاه هذا التراث، بالرغم من أنه في سوريا أينما حللت يمكنك سماع هذه الأنواع الموسيقية". ويعقب إبراهيم كيفو: "أحمّل الأكاديميات والجهات الموسيقية الثقافية التعليمية مسؤولية الإهمال اتجاه موروثنا الشعبي وتراثنا الغني والمفتوح بنفس الوقت على التجريب والانتهال منه".

أثر مخزون الأرمن الموسيقي ممن قدموا من منطقة دياربكر إلى سوريا في تكوين إبراهيم كيفو الغنائي

هذه الأنواع الموسيقية ظلت تشكل طقسًا لأهل المكان نفسه فقط، بعيدة عن مناهج بحث الموسيقيين والأكاديميين والمؤسسات المعنية، هذا التهميش شكل دافعًا يحرك شغف إبراهيم كيفو للبحث أكثر في الموروث الموسيقي.

اقرأ/ي أيضًا: فيروز.. الغناء بعد زمن عاصي

"أرى بأنه من الأجدى اليوم أن نعمل على دمج هذه الأنواع الموسيقية مع أشكال وأنماط موسيقية مختلفة، ليس من أجل التعريف بهذه الموسيقى فقط، بل هي الطريقة المثلى لمشاركة موسيقانا مع موسيقى الشعوب الأخرى، لا أستطيع وصف ما أشعر به في كل مرة أقدم فيها أغنية سورية بتوزيع جديد على مسرح ما، إن كان مع فرق جاز أو كلاسيك وحتى مع الفلامنكو، برأيي إذا لم نمزج مع أنواع موسيقية عالمية سنكون كمن يدور في حلقة مفرغة لاتنتج، من الطبيعي أن تتشارك الشعوب موسيقتها لتستمر".

أثر مخزون الأرمن الموسيقي ممن قدموا من منطقة دياربكر بعالم إبراهيم كيفو الغنائي، ويذكر منهم آرام ديكران، وأشخاص كثر طبعوا مخيلته بتجاربهم، منهم الكوردي حمة عيسة الذي يؤدي الغناء الكوردي الملحمي، وعازفي البزق سعيد يوسف ومحمد شيخو. والأخير عنى له الكثير فقد تأثر بأسلوبه الغنائي وصوته الأجش. ويقول إبراهيم كيفو عنه: "كأنك أمام صوت رجل كبير يبكي، هو بكاء الرجل القاسي. وأعتقد بأن هذا واحد من الأسباب التي جعلته مؤثرًا في المجتمع الكردي". ويتابع: "أكثر من اهتم بالتراث على المستوى الأكاديمي هو الموسيقي والمؤلف نوري اسكندر باشتغاله على الموسيقا الشرقية وبحثه في جذورها ونقلها من تراث شفوي معرض للضياع، إلى مدونات يمكن أن تعطي فكرة واضحة أكثر عن الموسيقى الشرقية. لكن نوري اسكندر لم يأخذ حق قدره، كان يجب أن يؤخذ برأيه لوضع مناهج تعليمية منتظمة والعمل على تحويل الإرث الموسيقي السوري لثقافة موسيقية يتلقفها الجميع من المشتغلين والمهتمين بالموسيقى".  

ليست آلة البزق مرافقًا لغنائه فقط، بل هي جزء أساسي من تعلم هذه الأنواع الموسيقية، وفي منطقة الجزيرة تحديدًا ارتبط عزف البزق مع الغناء. يخبرنا إبراهيم كيفو عن ذلك: "بدأت تعلم عزف البزق منذ صغري على الطنبوري وهو من عائلة البزق، تعلمت من الأفراح والأعراس في البلدة حيث لم يكن هناك معاهد موسيقية، لاحقًا درست في حلب. أكثر ما أفادني هو بقائي مع الموسيقي اسكندر، فالقواعد الموسيقية التي درستها كانت بحاجة لتنظيم".

خارج سوريا وخارج المنطقة يرى إبراهيم كيفو التاريخ الذي يحمله والذي يشكل جزءًا من سيرته وشخصيته، تاريخ نقي ما من ورائه مصلحة شخصية، فقرر حفظ لغة الموسيقى والفن والحضارة،  مثلما يحافظ على نفسه. يقول: "تاريخنا الكبير مغلوط بينما تاريخنا الشعبي برأيي وأقرب إلى الناس، عمر الأغنية الأشورية أكثر من2000 عام، أعتقد بأني ضربت جزءًا من الحقيقة بطريقة التعامل مع الأغنية واستحضارها، كما وأن الموسيقى الإيزيدية موجودة من قبل 1500 عام تحمل قداسة كبيرة كركن من أركان الديانة، فالحمل الذي أحمله اليوم بقدر ما هو ثقيل بقدر ما يصير خفيفًا إذا تذوقه الناس، عندها أشعر بأني وصلت إلى مسامع الناس صوت سوريا القديم وصوت الجزيرة السورية".

ويختتم إبراهيم كيفو قائلًا: "نحن لم نقتل مرة واحدة، لقد قتلنا مرات عديدة، هجر جدي كأرمني من أرضه ولم يمر بعد 100 عام حتى هاجرت أنا، ما زالت حكاياته يتردد صداها في عقلي. هناك مناطق إيزيدية في شمال سوريا اليوم لم يعد لها وجود، ما قيمة كل ما نحن فيه من حضارة وتقدم أمام كل هذا الدمار؟ لذلك علينا أن نخبر العالم حكاية مناطقنا، وثقافتنا هي كل ما نملك، حتى ولو بلغة مجهولة للآخر يكفي أن نحب ما نفعله ليصل للجميع".

اقرأ/ي أيضًا:

النوبة التونسية... أيقونة موسيقية ورسائل سياسية

جوزيف لوروسو.. لوحات تبحث عن شراكة المتلقي