31-أغسطس-2017

درويش جوار ضريح السيدة فاطمة النبوية

قبل أن تدخل كتاب "إبداع الأميين المصريين" للكاتب طلعت رضوان، ستتوقَّف قليلًا عند تعريفه بالفرق بين الجهل والأمية، ستعتقد أنهما واحد، لكن الحقيقة أن المفهومين مختلفان. الجهل هو عدم معرفة شيء معيّن في فرع من فروع الحياة العامة أو فرع من فروع العلوم الإنسانية أو العلوم الطبيعية، والأمثلة على ذلك كثيرة، فالمهندس جاهل بعلوم الطب، والعكس صحيح، وعالم الجيولوجيا جاهل بعلوم الهندسة والطب، ودارس القانون جاهل بكل ما سبق، فالجهل نسبي ويختلف من شخص إلى آخر. أمَّا الأمية فهي شيء مختلف تمامًا، فهي تعني الأمية الأبجدية، أي الذين لا يجيدون القراءة ولا الكتابة، فالنبيّ محمد كان أميًّا بهذا المعنى.

يشرّح كتاب "إبداع الأميين المصريين" فئة من الشعب المصري، لا يمكن وصفها بالجهل، فهي تملك كثيرًا من العلم

يشرّح كتاب "إبداع الأميين المصريين" فئة من الشعب المصري، لا يمكن وصفها بالجهل، فهي تملك كثيرًا من العلم، لكنها لم تنل حظها من التعليم، ولا تعرف القراءة والكتابة، ومن جرائم الثقافة المصرية العاميّة وصفهم بـ"الجهلة" في حين أن جهلهم بالقراءة والكتابة لا يعني أنهم جهلاء بالحياة، فلديهم علم خاص، لم يكتسبوه من المدارس، إنما بالخبرة، ولم يكتفوا به بل أضافوا له من روحهم.

بودكاست مسموعة

حين زار علماء الحملة الفرنسية منطقة الحوض المرصود في مصر، وكانوا على علم حديث بالسلاح الناري، وجدوا مصنعًا شعبيًا للبارود، ورأوا بندقية دقيقة التصويب، فسألوا: من صنع البارود والبنادق؟.. وكانت الإجابة إنه "واحد من عامة الشعب"، ومغزى الحكاية التي رواها الجبرتي أن القراءة والكتابة ليست الفيصل.

ما الذي اخترعه الأميون المصريون؟

ظاهرة الموالد، المنتشرة في مصر، لها أصول فرعونية، وتوحّد بين المصري المسلم والمصري المسيحي.. كيف؟ يقول طلعت رضوان مؤلف الكتاب إن المسلم يحتفل بمولد الحسين، بينما المسيحي يحضر مولد مار برسوم، وبعض المسلمين يحتفلون بالموالد المسيحية، فقد رأى بنفسه مسلمين "ينتحلون" – وفق قوله – مار برسوم، ويلبّونه باسم "سيدي محمد برسوم".

هذه البساطة لا تأتي من شخص متعلّم، إنما هي رهينة أميّة البسطاء في مصر، الذين يضيفون إلى كل ظاهرة دينية شيئًا جديدًا يجعلها ملكهم، فنجد سيدة مسيحية تصوم شهر رمضان لكي ينجح ابنها، أو تصومه تضامنًا مع جيرانها المسلمين، وتفطر معهم على أذان المغرب، أو ترتدي الحجاب وتزور مقام السيدة زينب لتطلب الإنجاب لابنتها العاقر.

وبالعكس، هناك مسلمة تصوم صيام العذراء، وتزور ماري جرجس، أو القديسة دميانة، أو تحضر مولد السيدة مريم بالقاهرة، باعتبارها "وسيط مضمون" إلى الله لتستجدي منه عودة النور إلى عين ابنها، فالعذراء في الثقافة المصرية هي أم النور!

مسلم يستجدي بركة قديس مسيحي.. ومسيحي في مولد مسلم!

لا يفرّق المصريون بين ولي وآخر، فكلهم أولياء الله الصالحون، والفرق بين مولد مار برسوم ومولد السيدة زينب ومولد العذراء ليس دينيًا، إنما – كما يرى مؤلف الكتاب – في كلمات الأغاني التي هي استلهام متوارث عن حياة القديس أو الولي. يثبت صحة ذلك التحليل الموسيقى التي تصاحب الموَّال أو القصيدة الدينيّة، فكلها من إيقاع واحد مصري قديم، خاصة أن المرنّم المسيحي والمنشد المسلم، كليهما، يستخدمان الناي.

إذا تتبعت أغاني الموالد، ستجد أغلبها من تأليف وألحان الأميين، وبعضها خرج منهم ارتجاليًا، وليد الانفعال واللحظة

إذا تتبعت أغاني الموالد، ستجد أغلبها من تأليف وألحان الأميين، وبعضها خرج منهم ارتجاليًا، وليد الانفعال واللحظة. تلك الظاهرة لمسها طلعت رضوان، المؤلف، بنفسه من خلال زياراته المتعدّدة إلى موالد القديسين والأولياء في معظم محافظات مصر، ومعنى ذلك من وجهة نظره، التي عبّر عنها في الكتاب، أن "الأميين المصريين ينتجون ثقافتهم القومية الخاصة بهم، وبالتالي فإنهم لم يتحوَّلوا إلى الأبد وبشكل مطلق إلى مجرد مستقبلين لما تبثّه الميديا المعاصرة".

التكافل الاجتماعي الخاص بالمصريين.. يبدأ بالنذور وينتهي بـ"الحواوشي"!

اخترع الأميون المصريون نظام تكافل اجتماعي، يبدأ بالنذور، فلم تكن شائعة دينيًا أو ثقافيًا، لكنهم أضافوها في التعامل مع الأولياء (لو نجح ابني نذرت لك يا سيدة زينب أذبح خروفًا)، ولا تتم الفرحة بدون ذبح الخروف ومنح الفقراء لحمه، ويمر بفكرة توزيع "رحمة ونور" على الأموات بعد وفاتهم بأسبوع، و40 يومًا، وفي الأعياد، ومع كل ذكرى سنويّة، وتكون من الخبز والقرص المحشوّة بالعجوة، وينتهي التكافل الاجتماعي بتقديم الطعام للفقراء وأبناء السبيل والمسافريد والمؤلفة قلوبهم في الموالد، فالأغنياء يوزعون رغيف "عيش بلحم" يعرف في مصر بـ"الحواوشي"، وأبناء الطبقة الوسطى يوزعون رغيف الفول النابت.

اختراع لغة سريّة خاصة

يعرج رضوان عبر كتابه "إبداع الأميين" إلى طريقٍ آخر، وهو الاختراعات اللغويّة لهم، فقد ابتكروا لغة سريّة خاصة تدور بينهم ولا يفهمها غيرهم، فأحيانًا يطلق المصري كلمة واحدة لا أحد يعرف أصولها حتى الآن، لكنها باختصار تدل على المئات المعاني، مثل: هلفوت (وضيع)، وفرفور (جبان)، ودلدول (تابع)، ودُهل (مسطول)، وخيخة (ضعيف)، وخرنج (خسيس)، ولوح (بارد)، ولطخ (ديوث)، وكاورك (أبله)، وبزرميط (عشوائي)، وهمبكة (إزعاج)، وأليط (يمشي في الأرض مرحًا)، وطنّش (لا تفكر)، وتلاكيك (حجج).

السخرية.. من أي وكل شيء

اخترع الأميون طريقة جديدة في السخرية بتحقير الغير من خلال النكت، ويضع طلعت رضوان في كتاب إبداع الأميين، الذي يمكن اعتباره بحثًا في الشخصية المصرية، بعضًا منها: في عهد عبد الناصر، اختفى الأرز من الأسواق وارتفع سعره، وفي الطريق كان يحمل مواطن كرنبة فسأله جاره: "ح تحشيها ايه؟"، فقال له: "كفاية وعدالة اجتماعية".

وبعد 56 واحتلال مدن القناة، تم تهجير الأهالي وتوزيعهم على قرى ومدن مصر، وكان من نصيب بعض أهالي السويس الترحيل إلى كفر الدوار – منطقة بمحافظة البحيرة – فأبدع أحد الأميين موالا ساخرًا يقول فيه: "على فين يا وابور (قطار) ح تودينا.. لما ودونا كفر الدوار وبيّتونا (نيّمونا) ع التلتوار (الرصيف)".. ثم سخر من أهالي كفر الدوار بقوله: "شفت جاموسة بتجرّ حمار.. ومن البكا دبلت عينينا.. على فين يا وابور ح تودينا".

وقالت نكتة أخرى تسخر من البحريّة المصرية، التي كانت تصوّر في ذلك الوقت عبر إعلام النظام كأنها أقوى بحرية في العالم: "وقف شخص ينظر من النظارة المعظّمة.. شاف أسطول أجنبي.. فأمسك الميكروفون وقال: مين هناك؟.. فجاءه الردّ احنا الأسطول السادس الأمريكي في عرض البحر الأبيض المتوسط.. وبعدها نظر إلى جهة أخرى وسأل: مين هناك.. فرد عليه قائد البحرية المصرية: احنا الأسطول المصري.. في عرض البحر"!