تسبب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، منذ مجيئه إلى البيت الأبيض 20 كانون الثاني/يناير في ولاية رئاسية ثانية، بحالة من الإرباك والفوضى كادت تقلب النظام العالمي رأسًا على عقب، إذ شنّ ترامب حربًا جمركية عالمية غير مسبوقة، وخفّض المساعدات الخارجية التي تمثل مركّبًا أساسيًا من مركبات القوة الناعمة للولايات المتحدة الأميركية.
كما استخفّ ترامب بحلفاء واشنطن التقليديين، وبدا متذمّرًا من متطلبات الشراكة معهم، سواء في حلف شمال الأطلسي أو في غيره من المنظمات والمؤسسات الدولية. وبشأن أوكرانيا كاد ترامب، حسب منتقديه، على وشك تبني الرواية الروسية حول الأحداث.
وفوق هذا كله أظهر ترامب وجهًا توسعيًا، طالما حاولت الإدارات الأميركية توريته خلف أكثر من قناع وقناع، لكن ترامب عبّر عنه بسفور، عندما طالب بضمّ جزيرة غرينلاند، واستعادة قناة بنما، وتحويل كندا إلى الولاية الأميركية الحادية والخمسين، والسيطرة على غزة التي مزقتها الحرب، بدعوى تحويلها إلى ريفيرا جديدة.
هكذا كانت ملامح أول مئة يوم من ولاية ترامب الرئاسية الثانية، مليئةً بإثارة الفوضى والإرباك؛ فمن منطلق شعار "أميركا أولًا"، ضرب ترامب بقواعد النظام العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية عرض الحائط، علمًا بأنّ الولايات المتحدة كانت مساهمًا أساسيًا في بناء تلك القواعد، في جوانبها الاقتصادية والسياسية.
يجمع الخبراء على أنّ مستقبل النظام العالمي الذي تشكّل على مدى العقود الثمانية الماضية، بات على المحك، إذ يعمل ترامب على تقويض المفاهيم الأساسية لهذا النظام
يأتي هذا كله وسط ما يراه الجميع من علامات تراجعٍ ديمقراطي في الداخل الأميركي، وتشمل هذه العلامات: حملة الضغط على الجامعات، والتهجّم على القضاة، ونقل المهاجرين إلى سجن سيئ السمعة في السلفادور كجزء من حملة ترحيل أوسع نطاقًا.
وتثير مثل هذه المشاهد والقرارات مخاوف لا في الداخل الأميركي فحسب، وإنما في الخارج أيضًا. وتدفع بأوساط إعلامية ودبلوماسية إلى أن تتوقع بأنّ العديد من الدول ستُجري تغييرات دائمة في علاقاتها مع الولايات المتحدة حتى تحمي نفسها من سياسات ترامب المتقلبة، خصوصًا أنه لا توجد مؤشرات على أنه سيعدِل مستقبلًا عن تلك السياسات.
وفي حين يرى منتقدو سياسات ترامب أنّ خياراته السياسية والاقتصادية تستعدي الجميع على واشنطن وتزيد المتطرفين تطرفًا وعدائية، فإنّ مناصري ترامب، لا سيما من أقطاب حكمه، يرون خلاف ذلك. ونشير في هذا الصدد إلى التصريحات الأخيرة التي أدلى بها المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، برايان هيوز الذي قال: "اتخذ الرئيس ترامب إجراءات سريعة لمواجهة التحديات من خلال جلب كل من أوكرانيا وروسيا إلى طاولة المفاوضات لإنهاء حربهما، ووقف تدفق الفنتانيل، وحماية العمال الأميركيين من خلال محاسبة الصين، ودفع إيران إلى طاولة المفاوضات من خلال تفعيل سياسة الضغط الأقصى"، مضيفًا أيضًا أنّ ترامب "يجعل الحوثيين يدفعون ثمن إرهابهم، ويؤمّن حدودنا الجنوبية التي كانت عرضة للغزو لمدة أربع سنوات".
لا يبدو أنّ سياسات ترامب تحظى بتأييد أغلبية الأميركيين، فقد كشف استطلاع لرويترز الأسبوع الماضي، تراجع شعبية الرئيس الأميركي بنحو 5%، بسبب سياساته، وفي استطلاعٍ سابق لنفس الوكالة، تبيّن أن أكثر من نصف الأميركيين يرفعون أجندته التوسعية، كما اعتبر أكثر من 50%، بمن فيهم واحد من كل أربعة جمهوريين، أن ترامب "مقرب جدًا" من روسيا.
تداعيات سياسات ترامب
ترى وكالة رويترز أن تداعيات سياسات ترامب قد بدأت في البروز بشكلٍ فعلي؛ فعلى سبيل المثال، يتطلع بعض الحلفاء الأوروبيين إلى تعزيز صناعاتهم الدفاعية لتقليل الاعتماد على الأسلحة الأميركية، كما تزايدت التكهنات بأنّ تدهور العلاقات الأميركية التقليدية مع الحلفاء قد يدفع شركاء الولايات المتحدة إلى التقارب مع الصين، اقتصاديًا على الأقل.
يكاد الخبراء يُجمعون على أنّ مستقبل النظام العالمي الذي تشكّل على مدى العقود الثمانية الماضية، بات على المحك، إذ يعمل ترامب على تقويض المفاهيم الأساسية لهذا النظام متمثلةً في التجارة الحرة وسيادة القانون واحترام سيادة الدول.
فقد دأب ترامب على توجيه أكثر الانتقادات حدة إلى المنظمات الدولية متعددة الأطراف، وغالبًا ما ينظر إلى الشؤون العالمية من منظور تعاملاتِ مطورٍ عقاري سابق، متهمًا شركاء بلاده التجاريين بنهب الولايات المتحدة لعقود، ولإعادة الأمور إلى نصابها وتعديل الميزان التجاري الأميركي مع جميع الدول، أطلق ترامب سياسة تعريفات جمركية شاملة أربكت الأسواق المالية، وأضعفت الدولار، وأثارت تحذيرات من تباطؤ الناتج الاقتصادي العالمي وزيادة خطر الركود.
ويرى بعض المحللين أن ترامب، ربما يسعى من وراء مثل هذه السياسة، إلى إحياء نظام دولي شبيه بنظام الحرب الباردة، حيث تتقاسم القوى الكبرى مناطق النفوذ الجغرافية. لكنه لم يُقدّم مع ذلك أي تفاصيل حول كيفية حصول الولايات المتحدة على المزيد من الأراضي، ويشير بعض الخبراء إلى أنه، يتبنّى مواقف متطرفة، بل ومبالغ فيها، كحيلة تفاوضية لا أقل ولا أكثر.
🔴 يتوجه وزير الخارجية الأميركي ومبعوث الرئيس دونالد ترامب ستيف ويتكوف اليوم إلى العاصمة الفرنسية باريس، لإجراء محادثات مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
🔴 تأتي هذه الزيارة في إطار مساعٍ أميركية لتقريب وجهات النظر مع أوروبا بشأن حرب أوكرانيا، وتفادي الدخول في مواجهة عسكرية… pic.twitter.com/pbryA3ksyJ
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) April 17, 2025
الصين تقدم نفسها كبديل
قدمت بكين نفسها كحلٍّ للدول التي تشعر بالتهديد من نهج ترامب التجاري، كما تحاول الصين أيضًا ملء الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة الأميركية في مجال تقديم المساعدات الإنسانية.
وقد بدأ الاتحاد الأوروبي بالفعل في التقارب تجاريا واقتصاديًا مع الصين، ويشار في هذا الصدد إلى اللقاء الذي جمع رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز بالرئيس شي جين بينغ في بكين في أوائل نيسان/إبريل الجاري، كمت صرحت الصين مؤخرًا بأنها تبادلت وجهات النظر مع الاتحاد الأوروبي بشأن تعزيز التعاون الاقتصادي. وذات الأمر ينطبق أيضًا على العلاقات الصينية اليابانية، فقد بدأت طوكيو وبكين في التقارب، لإنعاش وتعزيز تعاونهما الاقتصادي.
هل فات الأوان على ترامب؟
يرى الدبلوماسي الأميركي المخضرم، آرون ديفيد ميلر، الذي شغل مناصب دبلوماسية في ظل إدارات ديمقراطية وجمهورية، أن الأوان لم يفت بعد على ترامب لتغيير مساره في السياسة الخارجية، ونبه ميلر إلى الضغوط التي سيواجهها الجمهوريون في الاحتفاظ بسيطرتهم على الكونغرس في انتخابات التجديد النصفي العام المقبل، وذلك في ظل المخاطر الاقتصادية المحدقة بالاقتصاد الأميركي جراء سياسات ترامب، وقد بدأ القلق بالفعل في التسرب لبعض هؤلاء الجمهوريين، الذين بإمكانهم التأثير على ترامب.
وفي حال لم يتراجع ترامب عن هذا النهج، فإن تداعياته لن تقتصر على ولايته الرئاسية، بل ستؤثر أيضًا على مساعي أي رئيس جمهوري أو ديمقراطي قادم 2028، إذ سيواجه صعوبات في إعادة ترسيخ دور واشنطن كضامن للنظام العالمي.