12-أبريل-2019

سامية حلبي/ فلسطين

في حينا تتلاصق المنازل على بعضها البعض، يمكنني أن أسمع ضرطة جاري في الطابق الرابع، وأن أستثار على تأوهات امرأة بين يدي زوجها في الطابق الثاني، وأصوات شتى تصل إلى مسمعي في الليل الهادئ.

صوت الماء المنهدر من حنفية الجيران حيث جدارهم يتلاصق مع جدار منزلي، وصوت الهررة المشاكسة تتعارك وتتناكح، وأصوات بعض الكلاب الداشرة في الشوارع، أنين جارتنا العجوزة من وجع ظهرها، وهدير محركات الدراجات النارية، وصوت بصاق جارنا المتتالي حين يعود من عمله ليلًا، لكن صراخ الأطفال المحشوين في البيوت المتجاورة في الحي كان يغطي على ما عداه ويشدَ انتباهي.

حلمت بأن رضيعًا استيقظ بعد منتصف الليل وبدأ بالبكاء، كان جائعًا، وكان يستغيث سدَ حاجته. كان يريد حليبًا أو ثدي أمه لا فرق، كانت تجتاحه رغبة أنانية للمص والشبع. انقطع حلمي بفعل صراخ طفل رضيع في الطابق الثالث المقابل لمنزلي، إنها مصادفات قلما تتكرر حين تتوازى الأحلام مع الواقع.

أحسست بتعاطف لحال هذا الطفل فقد استمر في البكاء طويلًا ولم يلبِ نداءه أحد. لم أستطع النوم قبل أن يخفت صوته، خرجت إلى البلكون وأشعلت سيجارة، مسحت أنفي بكفي عدة مرات وانتظرت صمته. لم يأبه أي أحد لوجعه، لا الأب ولا الأم، وتذكرت أن أباه يعمل ليلًا. وصدرت صيحة أخرى، إنها صيحة أمه تتأفأف من صراخ رضيعها، تحذره أن يهدأ، تقول له: لا تتعبني. ترسل دعواتها الغاضبة: الله يريحني منك. تنهره: إذهب من هنا وابتعد عني. تقرص أذنه، يفتح ذراعيه لعناقها. تعاقبه بضربه على يده، يبكي ويعاود الابتسام لها بعد لحظات. تصفعه بكفها على مؤخرته السمراء، يرى النور يخرج من عينيها. لا يميز ذاته عن ذاتها ويمد ذراعيه وجسده نحوها ليطالها وكأنه يبحث عن ذاته الناقصة. تدفع به إلى الخلف كامرأة بذاكرة ممحوة تنكر من يحبها.

المسكين لا يستوعب كلمة مما تتلفظ به والدته، فهو لا يعرف الضغينة، يعرف الحب فقط، وكلما سمع صوتها وأحس بنبضها، كلما زاد في طلب النجدة منها ابتغاء أن تشبع حاجته من العطف. الرضيع فهم غضبها على أنه رسالة اهتمام وحنان، وعلى أنها موجودة لتحضر له الحليب فأخذ بالإلحاح أكثر فأكثر. صرخت الأم في فضاء المنزل المنزوي وكسرت كوبًا زجاجيًا: تعاستي في وجودك، توقف توقف عن البكاء يا أبله. أحبها رضيعها أكثر فأكثر. كان يفكك كلماتها ويحولها إلى: وأنا أيضًا أحبك أحبك يا أمي.

صباحًا ذهبت إلى عملي في المدرسة، شاهدت طلابًا ذاهبين إلى مدارسهم، ولفتني صبي عمره حوالي ثماني سنوات يلبس قميصًا كحليًا بأزرار وبياقة مزركشة، ويضع الجزء السفلي من قميصه تحت شورته ويلبس حذاء أزرق وجوارب بيضاء. كان شعره مهذباً بتسريحة واضحة، صممتها والدته بضربة من المشط إلى اليسار وعلق في رقبته قنينة مياه للشرب بلاستيكية. كان جميلًا وفاتنًا، وكانت أطراف أصابعه تعانق يد أمه التي تحمل حقيبته المدرسية الثقيلة، كانت حقيبته كبيرة الحجم، وحملها مؤلم لعاموده الفقري، فتولت أمه المهمة بدلًا عنه.

كانا يمشيان جنبًا إلى جنب ولما تضيق الطريق كانت تمشي الأم أمامه دون أن تترك يده الهشَة، وتلتفت تارة أمامها، وتارة خلفها لتطمئن إليه، وفي مرات أخرى كان يسبقها دون أن يترك يدها ويلتفت تارة أمامه، وتارة إليها، وهي تبقى شاخصة بنظراتها إليه. لم تكن عيناها اللتان تريان، كان عقلها الذي يراه. كان محشوًا داخل جمجمتها كما تحشى البارودة بالرصاص، لكأنه بالنسبة لها فكرة ثمينة وليس مجرد عاطفة ما. كانت ترى مصيرها وعالمها يمشي أمامها ويكبر، ويقفز، ويضحك، ويلقي التحية على زملائه، ويلعب، ويلهو، ويزعج الأخرين أحيانًا، وينضبط حينًا، ويشاغب أحيانًا أخرى. لا شك أنها كانت تعض مؤخرته حين كان رضيعًا وتشعر بالنور يسطع من قفاه لا من الشمس. كان ينط عن بقع المياه في الطرقات وتسنده أمه كي لا يبلل حذاءه وتفتح المظلة حين يبدأ المطر بالهطول، وحين يصبح الطقس أكثر برودة تلف له الوشاح على رقبته، وتضع قلنسوة صوف على رأسه، وتخفضها لتغطي أذنيه وجبينه.

وحين يقطعان الطريق يسرع الصبي بالخطى ويفلت يدها. كادت تدهسه دراجة نارية فقفزت أمه وغمرته وأدارت ظهرها للدراجة التي ضربت الفرامل بقوة وثبتت في مكانها. امتقع وجه الأم بالاصفرار ثم بالاحمرار والغضب من السائق. فجأة طالت أظافرها وبانت أنيابها في فمها وتأهبت لافتراس السائق. هكذا شعر الطفل حين تأمل وجهها في ذلك الموقف، فما كان منه إلا أن قبض على يديها، فنظرت إليه، قبلها وعانقها، كان رأسه يصل لمستوى بطنها، شعرت أنها تلد من جديد، إنها تلده الأن في منتصف الطريق وأمام المارة في السابعة صباحًا في جادة الحرية بالقرب من طريق الحياة.

كانت يده بيدها طوال الوقت، منذ سلكا طريق الحياة في بدايته وصولًا إلى جادة الحرية وسط المدينة، وكان بإمكانه أن يتحرر نهائيًا منها لكنه كان يشعر أن الضياع ينتظره إن فعل، وكانت الأم قادرة على إفلات يده لكنها كانت تعرف أنها ستصبح فارغة دون معنى. كان بإمكانهما أن يكسبا حرية أكثر فأكثر إن كانا منفردين، لكنهما آثرا حرية مشروطة بتلاصق يديهما ومسيرتهما.

أثناء عودتي من العمل وسط المدينة المكتظة، شاهدت رجلًا بقامة قصيرة يسحب مالًا من الصراف الآلي، وكان يقف على أطراف أصابعه ليكمل عملية السحب بنجاح. كان رجلًا مدعبلًا مقوس القدمين. مررت بجانبه وبالرغم من أن طولي مئة وسبعة وسبعون سنتيمترًا، إلا أني حين مشيت بين الحشود أحسست بأني قزم، ومع احترامي الشديد لمشاعر الأقزام لكني لم أجد تعبيرًا بائسًا أكثر من ذلك لأعبر عبره عما تختلج به روحي. بدأت بالتفكير بمقولات بوكوفسكي وبودلير ودوستويفسكي في المرأة، ورغبت باجتراح جملة رديئة ومنحطة أتفوق بها على هؤلاء الكتاب، فخرج مني الشعور التالي وصغته في كلمات: القضية أن الحب حولني إلى قزم، وبأن المرأة بمقدورها تحويل الرجل الطويل إلى رجل قصير القامة، تقزمه، والنساء باستطاعتهن تحويل أعتى الرجال وأقساهم إلى أقزام.

ثبت في مكاني أحدق بالقزم ولما أنهى سحب ماله مشى نحوي. راقبته. كنت أريد البوح له بأني من طينته. بدت عليه علامات الإستياء، جمد في أرضه وتمتم بغضب وبجمل فيها تأتأة: هل أنا ضئيل إلى هذا الحد لتحدق بي هكذا؟ أنت تشعرني بالضآلة، بالصغر، حجمًا وروحًا. عمري ثلاثة وثلاثون عامًا وأحس أني ذرة كربون. كنملة أصبحت بسببك، تقلص جسدي، نقص وزني من سبعين كيلو غرامًا إلى ربع أونصة من الهواء. رخيص جدًا، بلا أدنى قيمة. بسعر زهيد، أشترى وأباع. هل هذا ما تقوله عيناك؟ عيناي غائرتان ككهف، وأعمى البصيرة صرت، تجري المياه من تحتي، ويجري البول أحيانًا أخرى، فأغرق في كومة من البول والخراء. قشرة بصلة ترمى، لا، أحط من ذلك، دخان سيجارة لا فائدة منه. هل اإرتحت الأن؟ قشرة البصل ربما تكون مفيدة، ودخان السيجارة يتبخر، وأنا مجاني الوجود. صوت نشاز ولحن هابط جدًا لأغنية رديئة. كلكم تفكرون بي هكذا؟ لكني أسعد منك. قالها ومضى. لوهلة أحسست أني مرآته. قلت آسف بصوت خفيض. أعطني بعضًا من سعادتك وخذ بضع سنتيمترات من طولي.

يحكي حمودي قصته فيقول: أنا طفل، عمري ست سنوات، تصرح معلمتي بأني ذكي جدًا وشقي بعض الشيء. في إحدى المرات اضطر والدي للسفر في رحلة عمل، وسيارتنا تركت في المرآب للتصليح فطلب والدي من عمي إحضاري من المدرسة. في ذلك اليوم وجدت عمي يدخل إلى الصف ويحادث المعلمة. حكت معه بمسألة تخصني وأعطته اللعبة التي صادرتها مني. كان عمي يمتلك دراجة نارية كبيرة، أخذ مني الشنطة ووضعها في صندوق الدراجة تحت المقعد وجلست أنا بين أحضانه وانطلقنا. كان جسده هزيلًا على غير عادة وذقنه طويلة ومبعثرة ولم يحدثني أبدًا. كانت الطرقات تبدو غريبة لي، كل شيء كان غير مألوف، لم أعتد المرور في تلك الشوارع عادة.

ركن عمي دراجته النارية أمام إحدى الأبنية الطويلة والضخمة. بوابة المبنى سوداء كبيرة فتحت على مصراعيها، وفيها مربعات زجاجية. إلى يسار البوابة يوجد محل لبيع الخضار وإلى يمينها محل للألمينيوم ومقابل البوابة محل لبيع اللحوم. ترجلنا عن الدراجة وأمسك عمي بيدي ودخلنا إلى ردهة المبنى، كانت ساحة كبيرة ببلاط رخامي، ولاحظت وجود زاوية خاصة للأنترفون كما يوجد في المبنى حيث أسكن. ظللت صامتًا وتقدمنا صوب المصعد، وإلى اليسار كان باب غرفة الناطور مشرعًا، وفي الأعلى خزانة بداخلها أوراق ملصقة تضم أسماء وأرقام لم أعرف ما هي بالضبط.

ضغط عمي على الزر المخصص للمصعد، نصف دقيقة وفتح الباب وصعدنا، شاهدت إصبعه يضغط على الزر رقم 7، إنه الطابق السابع لكن بيتي في الطابق الخامس، لم أتفوه بكلمة، لا بأس فأنا أثق به. خرجنا من المصعد وقابلنا ثلاثة أبواب خشبية لونها بني ومغلقة، في الزاوية وضع غالون أزرق لمياه الشرب وكيسًا أسود للزبالة وشحاطة نسائية. كانت الردهة هادئة ومعتمة بعض الشيء، تقدم عمي وضغط على جرس المنزل، لحظات وفتح الباب وخرجت منه إمرأة عجوز وحدقت بنا بدهشة، تراجع عمي خطوة إلى الوراء بذهول، نفض رأسه ومسح وجهه وقال: عذرًا، أخطأت بالعنوان، لا أدري ما السبب اعذريني. فردت العجوز عليه: لا تعد إلى هنا مجددًا، إنها امرأة متزوجة الأن. أغلقت الباب بوجهنا وعدنا أدراجنا وبدأ عمي بمحادثتي وأخذ يسألني عن طبق الغداء اليوم. ضحك بشدة كمن يسخر من حاله وصعدنا الدراجة وأوصلني إلى منزلي. أخبرت أمي بما حدث، فقالت: هيدا عمك ضايع!

كان هذا أول درس تلقيته عن حمى الحب وأنا عمري ست سنوات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أحب أن أبدأ دائمًا بقصص النساء

مجرد رجل يقف أمام قبر