31-ديسمبر-2017

غرافيتي لفنان متشرد في لوس أنجلوس

إذا جاز القول فإن نتاج الرواية العربية منذ عشرات الأعوام أغفل الحديث عن ظاهرة التشرد بمضمونها الأوسع، أو من جوانب المسكوت عنه في الشكل الحقيقي، وظل ملازمًا الوصف لمقاييسه التي فرضت مع صعود الدكتاتوريات العسكرية العربية في سبعينيات القرن الماضي، واستعانت عند الحديث عن مثل هذه الاختيارات بشرود سياسي أو اجتماعي مسببه مكونات الأسرة، متجنبة الحفر في الأسباب التي تقف وراءها السلطة ذاتها، فكان أن ألزمت سردها الابتعاد عن المحرمات التي فرضتها الأنظمة العربية إن صح الوصف.

أغفلت الرواية العربية تناول ظاهرة التشرد بمفهومها الأوسع، وظلّ الأمر مقتصرًا على تشرّد ذي صلة بأسباب سياسية

لكن هذه الحتمية لا تنطبق على مجمل النتاج الروائي العربي بالإشارة لما قدمه الروائيون المصريون نجيب محفوظ (1911 – 2006)، يوسف إدريس (1927 – 1991)، وإحسان عبد القدوس (1919 – 1990) في نتاجهم الروائي بتركيزهم أكثر على البيئات الشعبية المصرية، ومواجهة شخوصهم الروائية لسرديات مختلفة من حالات التشرد، وبالطبع فإن المخيال الروائي يفيض بالمعجزات المنقذة للبطل الروائي، مصائر تشبه في نهايتها مصباح علي بابا السحري، تلك كانت نهاية معظم المهمشين المنتصرين في نهاية القصة.

اقرأ/ي أيضًا: أحلام فلاديمير نابوكوف تكشف عن تجارب العودة بالزمن

محمد شكري.. مصيرٌ يدونه مصباح سحري

في البحث أكثر عن أسماء روائية قاربت مسألة التشرد في العالم العربي، معنى أن تكون متشردًا في الشارع بكامل الحقيقة المؤلمة، كانت ثلاثية (الخبز الحافي، الشطار، وجوه) للمغربي محمد شكري (1935 – 2003)، التي تعتبر علامًة فارقة في توصيف حياة التشرد بين الأزقة للأطفال الذين قرروا الفِرار من منازل عائلتهم، والتي يمكن وسمها بتيمة أولاد الطين.

تحملُ الرواية في صياغتها السردية النمط المحبب لدى أساتذة علم الاجتماع العربي المنظرين لأسباب التشرد، يفتتح محمد شكري ثلاثيته بجملة تلخص السبب الذي دفعه للتشرد: "دخل أبي، وجدني أبكي على الخبز، أخذ يركلني ويلكمني: اسكت، اسكت، اسكت، ستأكل قلب أمك يا ابن الزنا"، وهي في مفاصلها تعكس جانبًا مهمًا من طبيعة الحياة الاجتماعية لريفيي المملكة المغربية الواقعة حينها تحت الاستعمار الفرنسي، وما تلاها من مرحلة سياسية جديدة كانت بعد نيلها الاستقلال عام 1956.

ما قدمه محمد شكري في "الخبز الحافي" السفر الأول من ثلاثية سيرته الذاتية دفع الرقابة المغربية إلى منعها من التداول حتى عام 2000، إلى جانب دول عربية أخرى، وفيها صوّر الشحرور الأبيض الطبقة المهمشة في المجتمع المغربي بالتقاطات فاضحة كسرت تابو المحرمات، لكنها كانت أكثر ذاتيًة، بعيدًة عن ما هو سياسي، أي المسبب المباشر لأزمة المجتمع الإنساني كاملًا، وفي الوقت ذاته أعطى المتلقي قصة مجانية عن صعوده من قاع المجتمع السفلي إلى الطبقة الأخرى الأكثر رقيًا.

من هنا كان تصدُّرُ ثلاثية محمد شكري لأدب المهمشين في العالم العربي، أي عبر بوابة سيرته الذاتية، لكنها بمصير مختلف عن المهمشين الذين لا تزال قصصهم مخبأة بين أدراج الذاكرة، وليس غريبًا أن يكون محمد شكري في هذه الرواية وحده من قدم الصورة بنسبة مقبولة، إلا أنه لم يأتِ من يكمل هذه الصورة لمصائر أخرى أكثر عنفًا وقسوًة فيما نعايشه اليوم من حياة مليئة بالخراب.

روايات أخرى.. روايات معاصرة

وعلى غير ثلاثية محمد شكري التي تميزت بخبزها الحافي، فإن بضعة روائيين اختاروا الغوص في متاهة الطبقة المهمشة للمجتمع، لكنها لم تكن مقنعة في مضمونها، فمنها التشرد السياسي للشخوص المتخيلة، كما حصل مع زكي الندواي في "حين تركنا الجسر" لعبد الرحمن منيف (1933 – 2004)، والذي يعتبر مثالًا لجيل هزيمة حزيران 1967، تلك الصورة الضبابية لرجل فقد كل شيء فضاع في النهاية بين وجوه البشر.

ثلاثية السيرة الذاتية التي كتبها محمد شكري قدمت صورة فاضحة عن الطبقات المهمشة في المجتمع المغربي

أما في رواية "المتشائل" للفلسطيني أميل حبيبي (1921 – 1996) فإننا أمام قصة سعيد أبي النحس الذي عاش مشردًا بسبب الاحتلال الإسرائيلي، وبالعموم فإن الروائيين الفلسطينيين لم يبخلوا بالحديث عن التشرد بسبب مفعول الاحتلال، إنما زودوا الرواية العربية بعشرات الأعمال التي قاربت جوانب التشرد من مصائر مختلفة بعيدًا عن السائد العربي، الذي اتجه إلى التشرد مستفيئًا في ظلال التغني على أمجاد اليسار الضائع، وناقدًا في إطار لم يتجاوز محرمات السياسة العربية، وإن تجاوزها فإنه كان يقاربها من منظور آخر يئن بمواضيع الديمقراطية المسلوبة.

اقرأ/ي أيضًا: رغدة حسن.. أغاني الحب المؤجلة

وبالنظر للمنتوج الروائي العربي الذي صاحب الأعوام الموافقة لبدايات الربيع العربي منذ مظاهراته الأولى نهاية 2010، وما خلفه في (سوريا، اليمن، ليبيا) من تشرد كان مسببه الرئيسي السلطة الحاكمة بنظامها الدكتاتوري فإن المخيال العربي ابتعد عن الغوص في مثل هذا الموضوع، إنما كان أكثر قربًا من سرد مصائر مختلفة لكنها لم تقارب مسألة التشرد.

ليس الرأي قولًا جازمًا إنما مبني على ما قدر الاطلاع عليه من المنتوج الروائي، الذي غاب عنه هذا الجانب رغم أنه خلف آلاف القصص التي يمكن الاستعانة بها لبناء قصة سردية تعكس جانبًا مهمًا لحيوات لم تكن ترى في مستقبلها جانبًا قاتمًا يومًا مثل الذي تعانيه اليوم نتيجة تحول منطقة الشرق الأوسط مختبرًا لتجريب أخر ما وصلت إليه ابتكارات صناعة الأسلحة.

ومن هذا الجانب فإن رواية "الموت عمل شاق" للسوري خالد خليفة حاولت أن تقارب في مضمونها من قصة تشرد داخل بلد فتك الصراع العسكري بخارطته الجغرافية التي أصبح يرمز لمناطقها بالألوان كنايًة عن الجهة المسيطرة، قد تكون واحدة من قصص الألم السوري، والتي اختصرها خليفة في سرد قصة عائلة تخوض صراعًا مع الحواجز العسكرية أثناء سفرهم من الشام إلى بلدة ريفية تسيطر عليها المعارضة السورية لدفن والدهم تنفيذًا لوصيته، كانت هذه واحدة من المقاربات التي عكست تشريد السوريين في أصاقيع الأرض رغم الإطالة السردية في بعض فصولها، لكنها قدمت صورة من آلاف الصور عن رحلة التشرد في سوريا.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "منزل بورقيبة".. نداء استغاثة

أولاد الطين.. ضحايا الرواية العربية المهمشين

عند البحث أكثر في مفاصل الأدب الروائي الذي تطرق لظاهرة التشرد في الشارع، والتي تعكس في مضمونها اتجاه الأسباب التي دفعت بالأطفال أو العوائل للعيش بين طبقة المهمشين، كانت غائبة مثلما غابت في البحوث الاجتماعية التي تناولت هذا المجتمع المفصول تمامًا عن باقي طبقات المجتمع، ويأتي في مقدمتها الطبقة التي تكافح في ظل ارتفاع مستوى المعيشة، وزيادة الضرائب المفروضة على الطبقة الفقيرة، ومصر اليوم تعد نموذجًا حيًا لطبقة المسحوقين نتيجة الحياة الاقتصادية المتدنية.

ووفق بعض البحوث التي تم الاطلاع سريعًا على مضمونها فإنها أرجعت أسباب ظاهرة التشرد إلى المظلومية الكلاسيكية للأنظمة العربية، أي تلك المرتبطة بسلسلة من الأنماط المروج لها في صفحات جرائم الصحافة العربية الصفراء، مثل: العنف الأبوي والأسري، عمل الوالدين لساعات طويلة ما يخلف عدم الاعتناء بالأبناء، الأصدقاء وما شابه تلك الأوصاف التي تحاول السلطة السياسية التنصل بها من مسؤوليتها، وهي السمة الغالبة على النتاج الروائي العربي في هذا الجانب.

ثلاثية محمد شكري قاربت التشرد في مفهومه الأدق للسفلية المجتمعية لكنها لم تغص أكثر في مفاصل الحياة السياسية

والصحيح هنا أن ثلاثية محمد شكري قاربت التشرد في مفهومه الأدق للسفلية المجتمعية لكنها لم تغص أكثر في مفاصل الحياة السياسية، ومنعها أساسًا جاء من حدتها في توصيف الحياة الجنسية للمجتمع السفلي، لكنها لم تواجه الأسباب المسببة لتشرد لمجتمع الريفي المغربي، أو حتى المجتمع العربي بشكل عام، فالرواية العربية من أكثر المآخذ عليها أنها لم تخلق فضاءً متخيّلًا لعالمها بعيدًا عن الإشارة للمدن بمسمياتها، وذلك جعلها أسيرًة للمدينة في مختلف المراحل الاجتماعية التي مرت عليها.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "1994".. حرب لم تضع أوزارها

يمكن القول في نهاية الحديث إن السنوات الست شكلت نوعًا جديدًا من الكتابة انتهى بالذهاب إلى التوثيقي أكثر من الروائي، فاستعاضت المخيلة بقصص أناس حقيقيين لكنها وقفت جدارًا عاليًا أمام المتخيل الذي بقي يحوم في ثالوث المحرمات العربية، دون الالتفات إلى أن الرواية في أساسها تعتبر مرجعًا عند البحث في الحياة الاجتماعية لفترات معينة، أو أنها تغفل مصائر أخرى تعيش في عالم يتسيده المهمشون الذين وجدوا في الشارع ضلالهم الأخير بعد أن استفحل الشر بالأنظمة العربية الحاكمة حتى باتت وثيقة السفر تهمًة تقود حاملها للحبس أحيانًا.. وغدًا قد تصبح دائمًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"بيت حُدد" لفادي عزام.. رواية السوري المزدوج

أمبرتو إيكو.. عن الكتب التي لا نقرؤها