أثارت سياسات إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب شكوكًا متزايدة لدى القادة الأوروبيين بشأن الاعتماد على الولايات المتحدة لضمان أمن القارة. تقاربه مع روسيا، وانتقادات نائبه، جيه دي فانس، للتكتل الأوروبي، بالإضافة إلى الرسوم الجمركية، والتهديدات المتعلقة بجزيرة غرينلاند، دفعت الأوروبيين للتفكير بجدية في مستقبل لا تكون فيه واشنطن الضامن الرئيسي لأمنهم، خاصة في ظل تساؤلات قديمة عن استعدادها لخوض حرب نووية دفاعًا عن أوروبا.
وبحسب مجلة "فورين أفيرز" الأميركية، تواجه أوروبا معضلة استراتيجية ثلاثية في سعيها لتحمّل مسؤولية أمنها النووي، بين ثلاثة أهداف: ردع روسيا بشكل فعّال، بالإضافة إلى الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي، ومنع انتشار الأسلحة النووية. ومع ذلك، تمكن المعضلة الأساسية بأنه لا يمكن تحقيق الأهداف الثلاثة معًا، واختيار اثنين منها يعني التضحية بالثالث. وفي ظل تراجع الدعم الأميركي، يُعد الخيار الأفضل لأوروبا هو الجمع بين الردع الفعّال ومنع انتشار الأسلحة النووية، ولو على حساب بعض الاستقرار مع روسيا.
ثلاث سيناريوهات.. ثلاث خيارات
يركز خيار الاستقرار الاستراتيجي على الحفاظ على الوضع النووي القائم في أوروبا دون تدخل أميركي، مع استمرار فرنسا وبريطانيا كقوتين نوويتين وحيدتين. ورغم أنه يحفظ مبدأ منع الانتشار ويُبقي على استقرار نووي نسبي، إلا أنه يُضعف من مصداقية الردع الأوروبي، خصوصًا أمام تهديدات روسيا التكتيكية. فالنقص في الردع النووي يصعب تعويضه بقوات تقليدية، خاصة أن بناء دفاع أوروبي قوي وفعّال يحتاج وقتًا واستثمارات طويلة الأمد.
تواجه أوروبا معضلة استراتيجية ثلاثية في سعيها لتحمّل مسؤولية أمنها النووي، بين ثلاثة أهداف: ردع روسيا بشكل فعّال، بالإضافة إلى الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي، ومنع انتشار الأسلحة النووية
أما بالنسبة لخيار الردع الفعّال، فإن هذا المسار يتخلى عن الاستقرار الاستراتيجي لصالح تعزيز الردع النووي الأوروبي، دون توسيع الانتشار النووي. تتطلب الاستراتيجية هنا تطوير فرنسا وبريطانيا لترسانات نووية تكتيكية منخفضة العائد، والإعلان عن استعداد لاستخدامها أولًا. ورغم أن ذلك قد يردع روسيا، إلا أنه يرفع بشكل خطير احتمال التصعيد النووي خلال الأزمات. فالهدف هو جعل تكلفة أي عدوان روسي مرتفعة جدًا، ولكن بثمن تقويض الاستقرار الذي يحد من استخدام السلاح النووي.
ويُنظر إلى خيار منع انتشار النووية على أنه التضحية بمبدأ منع الانتشار عبر السماح لدول أوروبا الشرقية بامتلاك أسلحة نووية، مما يمنح الردع مصداقية أكبر لأن الخطر الروسي عليها وجودي ومباشر. بذلك، يُحتفظ بالاستقرار الاستراتيجي عبر إبقاء السلاح للردع فقط، لكن على نطاق أوسع. هذا السيناريو يزيد من فرص ردع روسيا فعليًا، لكنه يفتح الباب أمام سباق تسلح نووي جديد داخل أوروبا، بما يحمله من مخاطر سياسية وأمنية عميقة.
خيار استراتيجي مكلف وخطير
اختيار أوروبا للاستقرار الاستراتيجي والردع الموثوق سيتطلب السماح بانتشار الأسلحة النووية، وهو خيار مكلف وخطير. من شأنه تقويض معاهدة عدم الانتشار وإثارة سباق التسلح النووي في القارة. كما أن دولًا مثل بولندا تفتقر للبنية التحتية النووية اللازمة، مما سيخلق فترة طويلة من عدم الاستقرار. هذا الوضع قد يدفع روسيا إلى اتخاذ إجراءات وقائية لمنع ظهور قوى نووية جديدة قرب حدودها.
الخيار الآخر، الذي يجمع بين منع الانتشار والاستقرار، قد يبدو سهل سياسيًا، لكنه يترك أوروبا مكشوفة أمام التهديدات الروسية. الرهان هنا أن روسيا لن تهاجم أو تختبر مصداقية الدفاع الأوروبي، وهو افتراض محفوف بالمخاطر. كذلك، يعوّل على أن دول أوروبا الشرقية لن تسعى لتطوير أسلحة نووية خاصة بها، وهو ما قد يطلق موجة انتشار تهدد استقرار النظام الأمني الدولي برمته.
البديل الأكثر واقعية يتمثل في توسيع الردع النووي الفرنسي والبريطاني ليشمل أوروبا الشرقية. هذا النهج أقل كلفة من الانتشار النووي، ويمكن تطبيقه بسرعة نسبية إذا توفرت الإرادة السياسية. لكنه يتطلب تحديث العقائد والترسانات النووية في كلا البلدين، وتوفير دعم شعبي داخلي، وهو أمر معقد. ورغم أن هذا الردع سيكون أضعف من المظلة الأميركية، إلا أنه يظل الخيار الأقل خطورة بين البدائل المتاحة، وفقًا لـ"فورين أفيرز".
فرص ومخاطر التوسع الدفاعي في أوروبا
وفقًا لمقال تحليلي للباحثة، زهرة نيازي، نُشر في موقع "مودرن دبلوماسي"، فإنه في لحظة وُصفت بالمفصلية، وافق قادة 26 دولة في التكتل الأوروبي على تخصيص 800 مليار يورو لتعزيز الاستقلال الدفاعي طويل الأمد. كما أعلنت دول عدة عن زيادات كبيرة في ميزانياتها الدفاعية، أبرزها اتفاق ألماني تاريخي يتيح إنفاق تريليون يورو خلال عقد. وشملت المبادرات أيضًا صندوق تسريع دفاعي في الدنمارك، وزيادات تدريجية في موازنات الدفاع في بريطانيا وفرنسا لتصل إلى 3.5% من الناتج المحلي.
موسكو اتهمت باريس ولندن بالتخطيط لتدخلٍ عسكري في أوكرانيا، محذرة من أنّ ذلك سيعني مواجهةً مباشرة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي.
اقرأ أكثر: https://t.co/vcxjGy60dX pic.twitter.com/x04AeriXTN
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) March 27, 2025
وعلى الرغم من الزخم الأولي والدفع السياسي لزيادة الإنفاق العسكري، يواجه مسار تعزيز الصناعة الدفاعية الأوروبية تحديات مالية وسياسية حقيقية. ففي دول مثقلة بالديون كفرنسا وبريطانيا، يفرض التمويل اختيارات صعبة بين الضرائب أو خفض الإنفاق. تبرز انقسامات داخلية، كما في فرنسا وإسبانيا، تعيق الإجماع السياسي. وإذا خفّت حدة الحرب في أوكرانيا، قد يتراجع الالتزام الشعبي والرسمي، مما يُهدد استدامة التحوّل الدفاعي رغم الحاجة الملحّة إليه.
التحدي الأبرز أمام القيادة الأوروبية، كما ترى نيازي، يتمثّل بتحقيق توازن بين زيادة الإنفاق الدفاعي والحفاظ على النفقات الاجتماعية. مقترحات عدة طُرحت لتقليل الأعباء، منها جذب الاستثمار الخاص، ودعم التقنيات ذات الاستخدام المزدوج، وتوسيع مفهوم الإنفاق الدفاعي ليشمل الأمن السيبراني، إلى جانب تعزيز الاقتراض المشترك داخل الاتحاد الأوروبي. ومن المتوقع أن يزيد البنك الأوروبي للاستثمار تمويله لمشاريع الدفاع بشكل كبير بدءًا من عام 2025، لدعم هذا التحول.
وتخلص نيازي في تحليلها إلى أن التوسع الدفاعي في أوروبا يواجه فرصًا ومخاطر في آنٍ واحد. ومن خلال التركيز على بناء القدرات بدلًا من انتشار الأسلحة، وإعطاء الأولوية للانخراط الدبلوماسي، بالإضافة إلى التعاون الداخلي والخارجي، يمكن لأوروبا أن تعزز أمنها وتسرّع الابتكار في مجال الدفاع دون زعزعة الاستقرار العالمي أو تأجيج سباق تسلح.