19-يناير-2017

لاجئون خارج المستودعات المهجورة التي يستخدمونها كمأوى مؤقت في بلغراد (getty)

أكثر من أي وقت تخشى أوروبا انهيار اتحادها، بقلق بالغ تلقى زعماء الدول الغربية حديث الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، الذي لم يلتفت لحديثهم، إنما شجع بريطانيا على توقيع اتفاق تجاري مع بلاده.

سيكون العالم أشد انحسارًا من الأزمان السابقة، بالأبنية الإسمنتية المرفوعة على الحدود مع بعضها، الجدار التركي مع الحدود السورية أصبح جاهزًا، ومثله قريبًا يبدأ في المكسيك، وأنباء غير مؤكدة عن تفعيل ألمانيا لاتفاقية "شنغن" منتصف آذار/مارس القادم، بعد منحها التسهيلات للاجئين الفارين من الموت إلى موت أقل بطئًا.

وصول ترامب للسلطة، وصعود شعبية اليمين الأوروبي، يكشف العجز في التعاطي مع الأزمات العالمية للحكومات الحالية

قبل أيام كان ترامب في مقابلته الصحفية واضحًا، عندما أكد على رؤيته السياسية لإدارة البلاد، عبر تصريحاته المرتبطة بحلف الشمال الأطلسي جعلت القادة الأوروبيين يعربون عن قلقهم، وكرر مهاجمة الحكومة الألمانية الحالية ممثلًة بأنجيلا ميركل لتعاطيها مع ملف اللاجئين الإرهابيين، وإذا ما تفكك الحلف أو الاتحاد الأوروبي ستكون روسيا الرابح الأكبر.

وصول ترامب للسلطة، وصعود شعبية اليمين الأوروبي، يكشف العجز في التعاطي مع الأزمات العالمية للحكومات الحالية، أهمها ما يحصل في منطقتنا العربية، لكنه يعود في العالم للخلف بشكل أسرع، هذا لا علاقة له بالاكتشافات الحديثة، لكنه يشبه ذلك الانعزال للمقاطعات الصغيرة قبل أن تتعرض لهجمات من مقاطعات محاذية لها أدت بالوصل للخريطة الجغرافية في العالم، بعد مراحل استعمارية مختلفة.

اقرأ/ي أيضًا: "اليمين البديل في أمريكا.. "هايل ترامب!

خلال الأعوام القادمة لن يكون هناك حدود مرسومة، لأننا سنجد الحواجز الإسمنتية أصبحت بديلًا ناجعًا لها، تشبه تحصين الممالك لقلاعهم خلال القرون الفائتة.

التقطت الصورة أعلاه بعدسة المصور مايكل كوناتي في صربيا، إحدى دول أوروبا الشرقية، التي شكلت حتى قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي اتحادًا مع الدول المجاورة لها تحت مسمى يوغسلافيا.

ذكرتني الصورة كثيرًا بمعتقلات النازية في أوروبا الشرقية عند احتجزت اليهود فيها قبل أن تسوقهم للمحرقة في مواقع الأفلام السينمائية. عندما أجريت بحث عليها في محرك "غوغل" أعطتني صورًا مشابهة لها، لكنها تعود في التاريخ للحقبة النازية.

طابور طويل من اللاجئين يتنظر تحت البرد القارس وجبة الطعام، والصحافة العالمية تنقل الوقائع مثل سجلتها، أوروبا القلقة تنتفض للحفاظ على وحدتها، وتخشى وصول اليمين في إحدى دولها الكبرى حتى لا تتكرر تجربة بريطانيا لأن التفكك مصيرها.

قرار أوروبا يبدو واضحًا بإغلاق الحدود في وجه موجة اللجوء التي شجعت عليها، تدافع عن حقوق الإنسان متجاهلة حالات الوفيات من شدة البرد، لم يعد الموت يعني شيئًا تريد أن تستعير من كتب التاريخ تجارب النأي بالنفس، وتدعيم الحراسة حول حدود المقاطعات قبل أن تصير دولًا.

خلال الأعوام القادمة لن يكون هناك حدود مرسومة، الحواجز الإسمنتية التي تشبه تحصين الممالك لقلاعهم خلال القرون الفائتة ستكون بديلًا

تتوحد رؤيتها مع فكرة دونالد ترامب فيما يخص اللاجئين لكن بصورة مختلفة، الرجل الذي أسكت صحافي CNN خلال مؤتمره الأخير، ويتعامل مع منصبه بإهمال مفضوح، قالها بصراحة لن أتسلم مهامي حتى يوم الاثنين.

كيف يمكن التعامل مع هذا الشخص المسبب للحكومات الأوروبية اضطرابًا سياسيًا، وساعدته الصين بافتتاحها طريق بطول 12 كم لنقل بضائعها التجارية إلى بريطانيا عبر قطار يستعيد أمجاد طريق الحرير.

تتعذر كافة الدول عندما تغلق حدودها بوجه اللاجئين الهاربين من حروبهم التي هم أنفسهم سببها بأنها تريد الحفاظ على ديمقراطيتها، تراثها، ومفردات مختلفة من هذا القبيل.

قصة محاكمة "داميان" الواردة في مطلع الفصل الأول من كتاب "المراقبة والمعاقبة" لميشيل فوكو تغني عن مراجع تاريخية من هذا الجانب، وليس غريبًا أن الوصف الأوحد للحرب العالمية الأولى أنها كانت حربًا أوروبية خالصة لأن أساسها كان التوسع الاستعماري.

المفكر التونسي هشام جعَيْط كتب في مؤلفه "أوروبا والإسلام: صدام الثقافة والحداثة" قائلًا: "إن الإنتلجنسيا الغربية تقع في التمركز العرقي من جديد، في الوقت الذي تظن أنها تضع ذلك موضع شك، ذلك أنها تطرح نفسها الوحيدة القادرة على تحديد القيم العالمية. وبذلك فهي ترجع إلى المركزية الأوروبية اللاواعية أكثر منها واعية"، للتنويه الكتاب صدرت طبعته الأولى سنة 1978.

اقرأ/ي أيضًا: المطبخ العربي في أوروبا: هل يقدم رأيًا ثقافيًا؟

أوروبا غدًا لن تكون مثل اليوم، الأمور تتجه نحو التعقيد بشكل لافت. الاتفاقات السياسية المنعقدة حاليًا تقول إن العالم سيتغير. إعادة رسم جديد ملامحه تبدأ من خارطة جديدة للشرق الأوسط، ودول أوروبا إذا ما انهار الاتحاد الأوروبي فإن خارطته سيطالها التغيير أيضًا.

أوروبا غدًا لن تكون مثل اليوم، الأمور تتجه للتعقيد. العالم سيتغير. إعادة رسم جديد ملامحه تبدأ من خارطة جديدة للشرق الأوسط

الشيء الوحيد الذي من الممكن أن يبقى ثابتًا حرية الصحافة والتعبير، لكن مع مراجعة للمهام بتحولها لأداة من أجل ممارسة الضغط الذي تريد الحكومات الغربية أن تتعرض له لتظهر أنها ملتزمة بمبادئ الدولة الحديثة.

لا صورة الطفل إيلان، أو آلاف الهاربين الذي لقوا حتفهم غرقًا كي يصلوا لحلمهم الأوروبي، ولا حتى الحملات التي قادتها الصحف العالمية ساعدت على إيجاد حل للاجئين العالقين في مخيمات تفتقر لأدنى وسائل العيش المطلوبة.

لقد تحولت الحدود لبوابة عبور عبر الأزمان مثل مسلسلات الخيال العلمي في الرسوم المتحركة، بعد أن كانت مفتوحة للجميع، لكن الرجل الطيب حارب لإغلاقها إنقاذًا للجنس البشري منا نحن الجنس البشري الأقل درجة، لأننا عصيون على الفهم.



اقرأ/ي أيضًا:

برزخ بين حياتين

المطبخ السوري.. هوية للاندماج؟