14-أغسطس-2018

اللاجئون ضحايا الغرب في الحرب واللجوء (Getty)

إذا كانت الأوديسة ملحمة اليونان الأشهر، التي شكلت جزءًا عميقًا من الشخصية الأوروبية، فإن ملحمة أخرى يتردد صداها اليوم في أوروبا أيضًا، أبطالها هذه المرة ليسوا أسطوريين، وإنما لاجئون، معظمهم من العالم العربي، غبنوا في حقهم باتفاقيات الدول، ومصطلحات المصالح المجردة تحت مظلة "الإنسانية". في السطور التالية، ترجمة لمقال نشرته مجلة "Jacobin" عن الأوديسة اليونانية الجديدة.


ربما كانت قصةُ نَفي عوليس، ملك إثاكا، من جزيرته وعائلته واحدةً من أكثر الروايات رمزية في الأدب الغربيّ. وهي واحدة من أعمق التعبيرات عن مشاعر النفي والحنين إلى الوطن، والألم الناجم عن استحالة العودة.

صورة المنفى التي تتبادر لأذهان الأوروبيين اليوم ليست لمعارضين أو يهود أو مقاومين للنازية، بل للاجئين إلى الجزر اليونانية بالقوارب المطاطية

إذا كانت هذه الملحمة قد تردد صداها بقوة في أذهان الشعوب الأوروبية، فربما السبب هو أن أوروبا كانت مسرحًا لحروب وصراعات ضخمة، جعلت من هذا المنفى تجربةً جماعيةً يصعب محوها من الذاكرة. إلا أنه إذا كانت القصة التي كتبها هوميروس (الأوديسة) لا تزال تخاطبنا اليوم، ربما كانت ستخاطب هؤلاء الذين يعيشون في أوروبا أقل من حديثها إلى هؤلاء الذين انتهى بهم المطاف على شواطئها.

اقرأ/ي أيضًا: "طلبكم مرفوض".. هل انتهى ربيع اللاجئين في أوروبا؟

صورة المنفى التي تتبادر إلى أذهاننا اليوم، ليست لآلاف المعارضين أو اليهود أو مقاتلي المقاومة الفارين على الطرقات من توسع ألمانيا النازية، ولكنها صور الوصول المتواصل لآلاف اللاجئين إلى الجزر اليونانية على متن قوارب مطاطية. ربما كذلك نتخيل بوضوح شديد أكوام سترات النجاة -التي كان يمكننا حتى وقت قريب أن "نزورها" بالقرب من قرية موليفوس- ومن المفارقة أنها أشبه بعمل فني معاصر مثير للعواطف منها إلى الدراما الإنسانية التي لا تزال جارية.

ومع ذلك فهذه الصور، التي تُعرض في حلقة مفرغة على شاشات التلفزيون، قد أفسحت الطريق أمام الصمت وتوقع شيء لا يحصل أبدًا. وإذا كانت تلك الجزر قبل ذلك لم تكن سوى نقاط عبور لأعدادٍ هائلة من طالبي اللجوء، فإنّها قد صارت منذ الاتفاقية التي وُقّعت بين الاتحاد الأوروبي وتركيا أماكنَ يَعْلَق فيها الناس في مستنقع الإجراءات.

آلاف سترات النجاة للاجئين، بالقرب من قرية مولفيوس اليونانية
آلاف سترات النجاة للاجئين، بالقرب من قرية مولفيوس اليونانية

تم التوقيع على الإعلان في 18 آذار/مارس 2016. وكان هدفه واضحًا: إيقاف وصول المهاجرين من تركيا إلى اليونان. وتُعتبر تركيا -التي تستقبل بالفعل أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ على الأقل- دولة آمنة، وقد أنفق الاتحاد الأوروبي ثلاثة مليارات يورو لتدبير المساعدات الإنسانية.

في المقابل، تستطيع تركيا إعادة التفاوض على قبولها في الاتحاد الأوروبي، والاستفادة من تخفيف الالتزامات المفروضة على المواطنين الأتراك الراغبين في العيش في أوروبا.

جوهر هذا القانون هو أن أي طالب لجوء يُرفض طلبه في اليونان يتم إعادته إلى تركيا. ولذلك يَعلَق طالبو اللجوء في الجزر، لأنه إذا تم نقلهم إلى البر الرئيسي، لن يتمكن أحد من إعادتهم إلى تركيا. يجب أن تتم أوراق تسجيلهم وقبولهم (والعودة إلى تركيا بالنسبة لمن لا يُسمح لهم بالدخول) على الجزيرة التي وصلوا إليها على متن القوارب.

"احتجاز" طلب اللجوء

تزداد الظروف المعيشية شديدة الصعوبة، سوءًا بسبب حالة عدم اليقين شبه التام: فطالبو اللجوء لا يملكون أي سيطرة على مستقبلهم. وأصعب شيء بالنسبة للبعض منهم هو عدم معرفة المدة التي سيقضونها في موريا، المعسكر الرئيسي بجزيرة ليسبوس. إنّه وقت ضائع، وقتٌ من عدم اليقين ومن الانتظار. وفي الواقع، فالأماكن القانونية التي يُحاصَر فيها المهاجرين، هي أماكن يملؤها الغموض، حيث المعلومات المتعلقة بالمستقبل غير مُحددة دومًا، وهي تجربة شبيهة بحياة السجون.

وعلى الرغم من أنّ طالبي اللجوء ليسوا "مُعتقلين" بالمعنى الحرفي، إلا أن نظام احتجازهم له نفس سمات الاعتقال تقريبًا. على المستوى القانوني، من الشائع أن تجد لاجئين لا يعرفون أنهم يملكون الحق في الحصول على مساعدة قانونية مجانية، أو أنه بعد رفضهم للمرة الثانية، يكون أمامهم عشرة أيام لتقديم طعن. والمنظمات القانونية التي تقدم المساعدات لطالبي اللجوء مرتبكة للغاية، وبما أن معظمها يعتمد على المتطوعين، فهي غير قادرة على القيام بأي متابعة طويلة المدى لملفات اللاجئين.

بعض طالبي اللجوء تم تغيير محاميهم بعد عدة أسابيع، أو لم يعودوا يعرفون مَن المسؤول عن ملفاتهم. وكل أسبوع، يقوم زعماء المجتمعات المختلفة بالإشارة إلى هذه المشاكل العديدة، والتي تعرفها السلطات، لكن دون أن يلوح في الأفق أي تغيير.

إذا كانت موريا تُشبَّه عادةً بالسجن، فهو سجن من نوع خاص. إنّها قاعدة عسكرية سابقة في جزيرة ليسبوس، وقد تمّ تحويلها عام 2015 إلى نقطة اتصال لاستقبال طالبي اللجوء بصفة مؤقتة. يتسع المعسكر/المخيم لـ2300 شخص، ولكن بحلول كانون الأول/ديسمبر 2017 كان يشغله أكثر من سبعة آلاف شخص، ثُلُثَيهم من النساء والأطفال القادمين بالأساس من العراق وسوريا، يعيشون داخل الأسلاك الشائكة والبوّابات المعدنية الضخمة كالتي يراها المرء في مداخل السجون.

إلا أنه في هذه الحالة، ليست البوابات لمنع مَن في الداخل من المغادرة، وإنما لحجب رؤية مَن في الخارج! وفي حين أنّ للاجئين الحقّ في التجوّل بحرية في الجزيرة، يكاد يكون من المستحيل على المواطنين مراقبة المخيّم من الداخل. باختصار، يبدو أن النظام موجّه إلى حد كبير ضد تلك الأنظار الخارجية المُحدِقة. الشرطة منتشرة عند كل المداخل ويتم التحقق من الهويات بشكلٍ منهجيّ. وبالتالي، فالدخول مستحيل على المتطوعين.

أما بالنسبة للصحافة أو للمنظمات الإنسانية المعروفة، فلا يحصلون على إذن بالدخول إلا بعد طلب تراخيص خاصة مسبقًا مِن سلطات المخيم. لا يوجد مبرر معقول لهذه الصعوبات إلا إبقاء الظروف المعيشية المُزرِية داخل المخيمات بعيدة عن الضوء. إذ إن مجرد وجود هذه المعسكرات، وامتدادها داخل الاتحاد الأوروبي، هو مصدر إحراج واضح.

ظروف معيشية مروّعة

في اتفاقية جنيف، يُفترض أن تُحترم كرامة جميع طالبي اللجوء. ولكن نظرًا لشدة التكدس في المخيم (سبعة آلاف شخص في معسكر لا يسع إلا 2300 فقط)، ينام الكثيرون في خيامٍ صيفيةٍ صغيرةٍ لعدم وجود أماكن في الحاويات. ومع هطول الأمطار سرعان ما تغرق هذه الخيام. وبالمثل لا يجد ثلاثة آلاف شخصٍ يعيشون في هذه الظروف حمايةً في الشتاء.

موريا، المعسكر الرئيسي للاجئين في جزيرة ليسبوس باليونان
موريا، المعسكر الرئيسي للاجئين في جزيرة ليسبوس باليونان

كل ليلةٍ في موريا، تحدث اشتباكاتٌ بين مجموعاتٍ مختلفةٍ. لذا تخشى الأسر على أطفالها ولا تستطيع النوم أو تجرؤ على الخروج؛ خشية أن يجدوا أنفسهم في وسط مشاجرةٍ. وتبدو المراحيض في حالةٍ يصعب تصورها بالكاد، فلا توجد مياه جارية ولا تُنظّف بانتظام، إلى جانب أن عددها غير كافٍ  بالطبع، فهي كانت مخصصةً لـ2300 شخص فقط، كما تخاف النساء الخروج إليها بعد حلول الظلام. فتقول إحدى النساء من أصل أفغاني: "أخشى أن أتعرض للاغتصاب".

رغم أن طالبي اللجوء لليونان المقيمين إجباريًا في مخيم موريا، ليسوا معتقلين حرفيًا، إلا أن نظام احتجازهم له نفس سمات الاعتقال تقريبًا

لا تحوي المراحيض أي أضواءٍ حولها، وتقع غالبًا قرب المرافق الصحية حيث تحدث الاعتداءات الجنسية. منذ ذلك الحين، قرّرت إحدى المنظمات توزيع حفاضاتٍ كي لا تضطر النساء إلى ترك خيامهن ليلًا!

اقرأ/ي أيضًا: فظائع الجرائم ضد اللاجئين والمهاجرين.. متى تُحاسب عليها "الجنائية الدولية"؟

ويعكس هذا الإجراء غير الملائم أو الحافظ لكرامتهن حتى، الاقتصاد المؤقت الذي يحكم المعسكر والمعاناة عديمة الجدوى على الإطلاق التي يخلفها. لماذا لا يزيدون عدد المراحيض وصنابير الاستحمام، وحراس المحطات أو أفراد الشرطة عند المرافق الصحية بدلًا من مداخل المخيم؟ إذا كان الغموض والإجراءات التعسفية والخوف من الترحيل يشكلون السمات الرئيسية لهذا الاحتجاز، فالإذلال الخفيّ هو ما يشكّل الخبرة اليومية.

عند السير في المخيم، يمكنك سماع الكثير من الغمغمات تهمس "موريا سيئة". يتوجب على السكان الكفاح من أجل كل شيء: مياه الشرب والطعام والملابس الدافئة والعثور على محام والنوم في مكان آخر غير الخيام، وبعد ذلك مغادرة موريا والذهاب إلى المدن المجاورة. وتعدّ زيارة الطبيب نضالًا حقيقيًا بالنسبة للبالغين، إذ تصطفّ الطوابير بدايةً من الساعة الخامسة صباحًا، ولا يُعرض على الطبيب إلا حالات خطيرة بعينها. بلا طعام كاف لطالبي اللجوء، الذين يجب أن يصطفوا ​لمدة ساعةٍ غالبًا للحصول على وجباتهم.

ولا تتوفر المياه الجارية إلا ساعتين إلى ثلاث ساعاتٍ في اليوم. وعندما يذهب اللاجئون إلى المراحيض يتعين عليهم أخذ زجاجات مياه معهم لتنظيفها يدويًأ. توجد إلى جانبِ المراحيض أكوامٌ ضخمةٌ من زجاجات المياه الفارغة، ومخلفاتٌ تمثّل الأوضاع المزرية التي أُلقوا فيها. ومع عدم انتظام عملية جمع القمامة، يغمرك العفن والرائحة الكريهة عندما تقترب من المخيم. كان أكثر من 40% من الوافدين، في الأشهر القليلة الماضية، هي عائلاتٌ لديها أطفالٌ لا يملكون حتى فرصة التعليم (خلافًا لإعلان حقوق الطفل).

يقول أحد طالبي اللجوء: "موريا تجعلني مريضًا"، مضيفًا: "جئتُ طالبًا الحماية الدولية وكنت في صحة جيدة. ولكن بعد بضعة أيام فقط هنا تبدأ في الشعور بالمرض. هذا المعسكر هو الجحيم. يدفعك للجنون".

لا تقتصر المشاكل النفسية على كونها نتاج تجارب صعبة وصادمة، ولكنها أيضًا نتاج المخيم نفسه. فالأخطار التي قُذف إليها هؤلاء الأشخاص لها عواقب مؤكدة على صحتهم النفسية (كالتوتر والإجهاد وما إلى ذلك) وصحتهم البدنية (كالنوم على الأرض في البرد دون ملابس شتوية كافية). إلى جانب حقيقة أنهم لا يشعرون بالأمان ولا يملكون أي نشاط متاح أمامهم، وأنهم لا يرون أي مستقبل لأنفسهم، كل هذا يجعلهم أكثر ضعفًا.

"التعرض للخطر".. الطريق الوحيدة لدخول اليونان!

يتعين على جميع طالبي اللجوء الوافدين إلى اليونان، بعد التسجيل لدى الشرطة، إجراء مقابلة طبية قد يُتبين فيها أن الشخص "معرض للخطر". هناك سبعة معاييرٌ لذلك، ولكن هذا الكشف غير سليمٍ؛ فلا يتبين فيه ضعف كثير من الأشخاص، بينما هم في الواقع كذلك.

يوضح لاجئ من الكونغو قائلًا: "كانت هذه المقابلة سريعةً للغاية، ولم أجرؤ على الحديث عن التعذيب الذي عانيت منه في بلدي". وقال آخرٌ من العراق: "اعتقدتُ أن من الأفضل أن أخفي  حقيقة أنني كنت مريضًا، إذ كنتُ خائفًا من ترحيلي إلى بلدي". وقالت امرأة شابة: "كنت ضحيةً للاغتصاب عدة مراتٍ في الكاميرون، وكذلك في تركيا حيث قضيتُ عدة أشهر، ولكن كيف أبوح بذلك أثناء الكشف الطبي أمام طبيبٍ ذكرٍ".

أعلنت منظمة أطباء بلا حدود في تقريرها الأخير عن الصحة النفسية لطالبي اللجوء في جزيرة ليسبوس، أن ثلثَ الناجين فقط من العنف الجنسي تم تعريفهم كأشخاصٍ "معرضين للخطر". ويُسهم عدم اليقين بأحوال الناس والمعايير والنُهج في الاستعداد للحد من الاستجابات الإيجابية.

وعلاوةً على ذلك قد نشكك في استخدام معيار "العرضة للخطر". فالمؤسسات التي أعطت تعريفًا تعسفيًا لذلك الضعف على أنه "وسيلةٌ للوصول إلى الأراضي اليونانية"، أعطت وجودًا لها في المجال العام.

ومرة أخرى يُزج بـ"الأسباب الإنسانية" إلى المقدمة، ويتم دفع الحق في اللجوء إلى الخلف، وبالتالي يصير هؤلاء الذين يعانون من أحد أوجه "الضعف" السبعة أكثر أهميةَ من أولئك الذين تتعرض حياتهم للخطر في بلدانهم! فمن الضروري كي يصلوا إلى الأراضي الأوروبية أن يثبتوا أنهم يعانون بالفعل، وأن يبرز الألم في قصتهم.

إحدى الحمامات في معسكر موريا!
أحد الحمّامات في معسكر موريا! 

يُنظر لللاجئ "الجيد" بأنه اللاجئ الذي "عانى فعلًا"، لذا يكون عليهم أداء ذلك الدور وبيع قصتهم، التي يتوجب أن تكون مروعةً قدر الإمكان! ومن ثمّ تعمل تلك الإجراءات على تشويه أي تفاعل بين طالبي اللجوء، الذين يجب عليهم الاعتراف بمعاناتهم، وبين المؤسسات التي يجب أن تقُيّم صدق هذه الاعترافات.

وهكذا كما يقول ديدييه فاسين، فهذا "الاعتراف بالآخر من خلال معاناته، ومحنته، وجسده، ونجاته، يحل محل حقوق المواطن". لدينا الآن بدلًا من حقوق الإنسان، حقوق أولئك الذين يعانون فقط.

يجعل ذلك التعريف اللاجئين في موقف "الضحايا" أو "الملتمسين" الذين يتوجب عليهم إظهار جراحهم من أجل الوصول إلى الأراضي اليونانية. فإذا كان لدى البشر قدرة هائلة على النجاة والتعافي من الأحداث المأساوية، ألا ينبغي لنا عندئذٍ أن نسأل عن عواقب المطالب المستمرة من طالبي اللجوء بتقديم أنفسهم كضحايا؟ ما الصورة الذاتية التي قد يمتلكها رجال أو نساء يتعين عليهم أن يتوسلن ويكشفن كل جزء من معاناتهن كدليل على صدقهن؟ لقد ابتعدنا بشدةٍ عن اتفاقية جنيف وعن توفير العدالة لطالبي اللجوء.

خصخصة العمل العام

في النهاية يحق لنا طرح أحد أكثر الأسئلة وضوحًا، وهو: ما هي أسباب مثل هذا الإخفاق في العمل العام؟ كيف أصبح من غير الممكن عدم القدرة على إدارة واستقبال ثمانية آلاف و500 طالب لجوءٍ سياسيٍ؟ لم يعد عدد الواصلين يوميًا خمسة آلاف شخص كما كان من قبل، بل بلغوا في المتوسط 100 وافدٍ فقط أسبوعيًا منذ بضعة أشهر. هل يستحيل حقًا استقبال هؤلاء اللاجئين في مثل هذه الظروف؟

تكافح العديد من المنظمات في موريا لتلبية احتياجات طالبي اللجوء. وإذا كانوا قبل ذلك يتلقون تمويلًا من الاتحاد الأوروبي (المكتب الإنساني للمفوضية الأوروبية ECHO)، فقد تم إنفاق هذه الأموال، كما اضطرت عدد من المنظمات الغير حكومية إلى مغادرة الجزيرة أو تقليل القوى العاملة.

ولا يعرف السكان داخل المخيم ما الذي يجري في الكواليس، فالمؤسسات نفسها تسابق الزمن وتحاول إرسال متلقي المساعدة من مؤسسة إلى أخرى على أمل أن يجدوا ما يريدون في مكان آخر، مع مزيدٍ من التعب الدائم والاستسلام.

في أواخر كانون الأول/ديسمبر 2017، كان من المفترض أن تتحمل الدولة اليونانية جميع المسؤوليات في ظل الأموال الممنوحة لها من قبل أوروبا، وأن تبدأ عملياتها في الجُزر. لكن للأسف لا يزال هناك وجود للعديد من المنظمات على الجزر إلى يومنا هذا، مستمرة في بذل أقصى ما في وسعها في غياب الدولة. ولكن ألا يرجع أمر إدارة استقبال طالبي اللجوء إلى اليونان والاتحاد الأوروبي؟

أما على أرض الواقع، نرى أن نظام الصحة الوطني (KEELPNO)، الذي يتم تمويله ليصبح قادرًا تمامًا على إدارة رعاية اللاجئين، يبدو مرتبكًا وغير قادرٍ على تلبية احتياجاتهم. هذا الارتباك والصعوبة في تحديد المسؤول (أو بالأحرى من مسؤول عن ماذا؟) لا يجعل احتجاج ونشاط اللاجئين أكثر تعقيدًا فحسب، بل يجعل أيضا عمل المنظمات ميدانيًا أكثر صعوبةً. فكل منظمةٍ تلقي باللوم على الأخرى في سيمفونيةٍ بيروقراطيةٍ. فقد أخبرنا المسؤولون اليونانيون أن "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR هي المسؤولة عن مثل هذه المشاكل"، بينما المفوضية نفسها تدّعي عكس ذلك.

من أجل سياسة حقوقيّة

قريبًا سيكون قد مضى أكثر من ثلاث سنواتٍ على بدء هذه الأزمة. ومن أجل السماح بظروفٍ معيشيةٍ لائقةٍ، فالحل الأكثر وضوحًا هو إرسال جميع طالبي اللجوء إلى البر الرئيسي حتى يتمكنوا من الحصول على رعايةٍ صحيةٍ ومساعداتٍ قانونية وإيواء.

لم يكن وضعهم هذا من قبيل الصدفة؛ إذ أن الهدف الخفي لمؤسساتنا هو جعل اللاجئين يفهمون بطريقةٍ ملتويةٍ أنهم غير مُرحبٍ بهم، وأن عبور البحر مع تعريض حياتهم وحياة أطفالهم للخطر، لن يكون ضمانًا كافيًا لأن يلقوا ترحيبًا كريمًا. وها نحن ذا نرى السياسيين مجددًا يعتقدون بأنه بسحقهم لحق اللجوء، سيقوم اللاجئون بنقل الرسالة إلى عائلاتهم وأصدقائهم بعدم المجيء إلى أوروبا.

معسكر موريا للاجئين، بقعة غير صالحة للعيش
معسكر موريا للاجئين، بقعة غير صالحة للعيش

لا يراعي هذا حقيقة أن بلدانهم قد دُمرت (وهو ما يرى البعض أنه قد حدث جراء التدخلات التي شرعت بها دول الاتحاد الأوروبي)، وأن الفرار كان هو الحل الوحيد لنجاتهم. من ثمّ وبقدر ما تكون هذه السياسات صعبةً وغير إنسانيةٍ، فإنها لن تمنع هذه العائلات من بلوغ الأراضي الأوروبية.

يجب تطبيق سياسة إعادة توطينٍ حقيقية في كل الدول الأوروبية. لا ينبغي أن تُدار وفود طالبي اللجوء من قبل اليونان (وإيطاليا) فقط؛ بل ينبغي تطبيق نظامٍ لتوزيع الحصص على كل بلد. أما عن كيفية زيادة الوعي بالمشكلة، فمن الأساسي ألا نتوقع شيئًا أكثر من تعاطف الناس، منذ صورة آلان الصغير، الطفل السوري من أصل كردي والبالغ من العمر ثلاث سنواتٍ، والذي جُرفت جثته على شاطئ تركيا، لم يعد أي شيء يصدم المواطنين الأوروبيين.

إذا كان سيُعتمد للاجئين وضعية الضحايا، فذلك لأن الدول تُقيّد النقاش العام ببعده "الإنساني" بدلًا من جعلها قضية مواطنة

وكما يؤكد ديدييه فاسين، فإن "الإرهاق العاطفي" أدّى إلى حالة من اللامبالاة تجاه وضع طالبي اللجوء. هذا بالإضافة إلى أن زيادة الميل العام على مدى العقود القليلة الماضية لترجمة السياسات الاجتماعية على أساس التعاطف، هو في الواقع جزء من المشكلة. وكما أشار المؤرخ وعالم الإجتماع جيرار نوريل "لن يفتح الناس أبوابهم للاجئين اليوم لأنهم بكوا بالأمس لرؤيتهم طفلًا لاجئًا مقتولًا. فحق اللجوء هو مفهومٌ سياسيٌ بامتياز يكفل سيادة الدولة".

إذا كان سيُعتمد للاجئين وضعية الضحايا، فذلك لأن الدول تقيّد النقاش العام ببعده الإنساني، بدلًا من جعلها قضية مواطنةٍ. ومن ثم ينبغي الآن الاعتراض على عدم تسييس هذه القضية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بتهمة إنقاذ اللاجئين في البحر.. أوروبا تحاكم إنسانية 3 منقذين إسبان!

الدعارة مقابل العبور الآمن.. سيرة قسرية للأطفال اللاجئين في إيطاليا