14-أغسطس-2016

امرأة تونسية تطحن التوابل Photo by: Godong/UIG via Getty Images

أهنئ كل اللواتي يحتفلن بعيد المرأة لكن أكتفي بتهنئة نفسي بامرأتين. أمي وهي أصيلة ريف زغوان، قرية المقرن. وهي التي ليس لأحد عليها فضل سوى والدها الذي صنع لها جناحين تحلق بهما حين لم يكن للقرويين جرأة إرسال بناتهم إلى مدارس المدينة وكليات العاصمة. وهي التي إذا أدارت رأسها ترى أن شهادتها في الهندسة الفلاحية أثمن من كل شهائد الأرض، فهي شهادة انبثقت من بين الحطام وقسوة الحياة وأتت على ركام الأمل تحييه وترممه. هي التي علمتني بلهجتها القروية أن لا آخذ دروسًا من اللواتي هضمتهن مزالق السياسة ليجلسن وقد فاحت رائحة العطر التي يضعنها من وراء شاشة التلفاز، يجلسن لمناقشة مشاكل المرأة الريفية ونساء المصانع.

أحدثكم عن نسوة لا نحتاج إلى عيد نشكرهن فيه، أحدثكم عن نسوة أطبع القبلات على أيديهن صباح مساء

اقرأ/ي أيضًا: العنف الزوجي وزواج القاصرات.. أرق المغربيات

علمتني، بلهجتها القروية كذلك، أن لا أرفع شعارات البؤس والحماقة. فهي التي تقول: لا تستعملي تلك المصطلحات العتيقة المهترئة، وإذا قالوا لك "مساواة بين المرأة والرجل"، افضحي خطاباتهم المترعة بالنفاق والكذب وقولي إنك لست أقل من الرجل شأنًا ليبحثوا لك عن المساواة! دعي الشعارات تسقط على رؤوسهم واطلبي منهم أن يوقفوا المهزلة وأن لا يضعوا لك الرجل سقفًا لأنك أفضل من عدة رجال. فليسيروا وراء نعش المساواة لأنك لست أقل من أي رجل ولم تكن مرتبة الرجل يومًا هدفك!

وكانت أحيانًا تعلمني بصمت. علمتني أن لا أجعل من جنسي حصان الطراد الذي يمتطون صهوته في حملاتهم ففي حين أن القانون التونسي يفرض التناصف والتناوب في القائمات الانتخابية، كانت أمي رئيسة قائمة انتخابية في الانتخابات التأسيسية ثم التشريعية! فقوة التشريع لا تكفي إن لم تكن هناك إرادة تنزلها إلى أرض الواقع. فليس القانون هو الذي جعل أمي تلج عالم السياسة وتحظى بمراتب مهمة فيه بل شخصيتها الفسيفسائية هي من فعلت ذلك. فهي التي درست الهندسة والاقتصاد والتي إذا حدثتها عن التاريخ وملاحمه تكلمت وإن سألتها عن الأدب أجابت. هي مكتبة تمد لك في كل حين كتابًا جديدًا يبهرك.

علمتني كذلك أن جنسي لا يجترح المعجزات، فلا يجب أن أحصل يومًا على منصب أو وظيفة لأنني امرأة بل هي التي تقول "دعيهم يسندون لك الوظيفة لأنك ذات كفاءة عالية، دعي قدرتك على التأثير تنتصب عملاقة في رؤوسهم فتحجب عنهم كل شيء". وبالفعل كم تضحكني صور تلك النسوة اللواتي يقبلن بمقاعد في مجالس الأحزاب، مقاعد بالتزكية "لتدعيم حضور المرأة". لا أدري إن كانت هذه صدقة أو ماذا.

المرأة الثانية هي جدتي. جدتي تربي الدجاج وتصنع الخبز في الطابونة ولها طبيخ تشدو له عصافير البطن. رغم انحدارها من عائلة كبيرة وذات نفوذ بُعَيْدَ الاستقلال وأثناء حكم بورقيبة، فخالها الأديب عبد الرحمن قيقة حاول تعليمها في العاصمة. إلا أن هذا النسب التليد لم يشفع لها لمواصلة تعليمها الذي بدأته في مدرسة فرنسية. فاليتم والفقر عادا بها إلى قرية تكرونة على الساحل التونسي. لم يدرسها بورقيبة كما يشاع أنه درس النسوة لكن درستها الحياة.

اقرأ/ي أيضًا: المرأة السورية.. عبء التقاليد وأعباء الثورة

من جدتي يمكنك أن تتعلم أن قطعة بطاطا يمكن أن تصلح خطأ الملح الزائد في الطعام، أن الخبز يزداد طراوة كلما ازدادت كمية الزيت فيه، أن إلصاق الخبز في الطابونة قبل ارتفاع درجة الحرارة فيها خطأ لا يغتفر. يمكنك أن تتعلم كذلك أنه لو اجتمعت مصائب الأرض على إجهاض حلمك فلن تقدر على ذلك! وقد تتساءلون، بماذا حلمت هذه المرأة؟ لم تحلم بأكثر من أبناء ذوي شأن عال وعلم نافع وعمل صالح! وبالفعل لهذه المرأة قوّة جعلتها تستمتع بمشاهدة أبنائها: أحدهم درس الاقتصاد والآخر الحقوق والآخر التحق بالأكاديمية العسكرية ومن بناتها من درست الجغرافيا ومنهن من درست الصحافة وأمي التي درست الهندسة.

بين ارتطام الأقدار التي لا تصدق والمعيشة التي كان يحكمها ضيق الحال، كانت تبيع مصوغها وترهن خلخالها وتستعمل ذكاءها الرهيب لتحتال على الحياة ومتطلباتها وتقف مستندة إلى غلواء طموحها لتهزم العقبات وتستطرد طريقها المديد نحو الحلم. أنا أحدثكم عن نسوة لا نحتاج إلى عيد نشكرهن فيه، أحدثكم عن نسوة أطبع القبلات على أيديهن صباح مساء. أنا الحفيدة لا يجمعني هذا العيد مع أمي وجدتي بل تجمعني الإرادة معهن ومع كل امرأة ومع كل إنسان ينبض قلبه حياة!

"عيد المرأة"، "مساواة بين المرأة والرجل"، "حقوق المرأة". كل هذه الشعارات التي تُؤكل وتُعلَكُ يوميًا مع الطعام ستسحق بين مكبسي الواقع! دعوا الشعارات تسقط على رؤوسهم لأن كل الخطابات المساندة للمرأة لا يمكن أن تتسع لامرأة مات زوجها وترك لها من الأطفال سبعًا، ولا يمكن أن تسترد حق امرأة طردها رب العمل دون أن يعطيها أجرتها، ولا يمكن حتى أن تحجب حر الشمس عن امرأة يتفصد جبينها عرقًا بين مروج القمح أو تحميها من لدغات الأفاعي في حقول العنب. أما القوانين فهي عاجزة عن تأمين حياة النسوة اللواتي دفعتهن الحاجة إلى امتطاء مقطورة جرّار ليصبحن رقمًا جديدًا يضاف إلى قائمة اللواتي لقين حتفهن في حوادث العمل والطرق.

اقرأ/ي أيضًا:
هل المرأة إنسان؟
السلطة الذكورية على هيئة أغنية ناعمة