24-ديسمبر-2020

لوحة لـ صادق كويش الفراجي/ العراق

بأية روحٍ يخرج المعتقلون، إذا خرجوا، من سجونهم؟ ما الذي يبقى فيهم أصلًا كي يدفعهم إلى مواصلة الحياة؟ هل يستأنفون ما كانوا يعيشونه قبل السَّجْن، أم يذهبون إلى بداية جديدة؟ كيف تكون لهم بداية تلك في بلد مثل سوريا، حيث أحلام سكّانه لا تتعدّى تحقيق الحاجات الأولية؟

 نحن الذين رأينا موتًا وصاحبنا موتًا وهربنا من موت، صار العيش في مفهومنا البسيط أقرب إلى عقاب

تهبط عليّ هذه الأسئلة وغيرها وأنا أسمع خبرًا عن صديق قديم يصنع معجزةً ويخرج. أو بالأحرى؛ تُصنع له معجزة ويخرج حيًّا.

اقرأ/ي أيضًا: المعتقلون قضية وليسوا ملفًا.. تلك هي المسألة!

لم يكن بيننا، نحن أصدقاءه، أحد واثق من أن هذه اللحظة سوف تأتي يومًا، لأن سنوات غيابه طالت إلى الحدّ الذي أرغمتنا فيه على الاقتناع أنه بات في عداد الأموات. وأيضًا لأن التجربة السورية منذ 2013 راحت توطد في رؤوسنا فكرة أساسية، هي أن من يذهب إلى الاعتقال ليس له عند من يحبونه غير أمنياتٍ يائسة مُبطَّنة بالترحّم.

نحن الذين جئنا من بلاد أصابها السُّعار فراحت تقضي على أبنائها فرادى وجماعات، وبات رجال الأمن وعناصر الجيش في تصورنا الراسخ، غير القابل للتغيير، حرّاسَ بوابات عوالم الجحيم السفلية. نحن الذين حملنا من تجارب أعمارنا التي قصفتها الحربُ وحطمت آفاقها اللعناتُ كمًّا هائلًا من اليأس بحيث يجعل من حدث جميل مثل شروق الشمس فألَ نحسٍ. ونحن الذين حفر القهر في وجوهنا أخاديد غير مرئية، من نوع نادر لا تقوى الأعمار مهما طالتْ وامتدتْ على الإتيان بمثلها. نحن الذين رأينا موتًا وصاحبنا موتًا وهربنا من موت، حتى صار العيش في مفهومنا البسيط أقرب إلى عقاب؛ نحن الذين حدث لنا كل ذلك وأكثر سوف نسمع هذا الخبر فننقض عهدنا مع الأسى لساعاتٍ كي نفرح، ولأجل ذلك سنجد تحت طبقاتنا النفسية المثقلة بالكوابيس والخوف والقلق بقعةً صالحة للفرح، إلى تلك الدرجة التي نشعر فيها أن أرض المنفى الغريبة تضحك معنا من هزّة الخبر!

شخصيًّا، إنها المرة الأولى التي أشعر فيها بوهج الأمل يلفح الأعماق، فذلك الشيء الذي ألبسْتُهُ أقنعة الكذب والاحتيال، وصرتُ أحاذر الاقتراب منه محاذرةَ الاقتراب من منطقة موبوءة، بدا لي كائنًا شديد البراءة وقابلًا للثقة، على الرغم من كل وعوده السادية التي لم تفعل شيئًا سوى تقليب أحلامنا على لهب الانتظار.

خروج صديقي فتح عيوني على النجاة. سبق لي شخصيًّا أن نجوتُ. سبق أن كنتُ بين ناجيات وناجين، وحدث أن قابلتُ العشرات من الناجين واستمعتُ إلى قصصهم الدموية. لكن نجاة هذا الصديق من الاعتقال في بلدان الأقبية والإذلال التي تقارب المعجزة تأتي لتقول إن النجاة، مهما اختلفت أشكالها، واحدة. إنها ذلك القليل الممكن من الحياة الذي يطلبه اللاجئ الهارب من البطش أو السجين الذي يشبه أهل الكهف، ولا يحصلون سوى على حياة محدودة مع احتمالات غير محدودة لنهاية كل ما يجعل منها حياةً. والسؤال القاتل: ما الذي يفعله الناجي بنجاته التي تترك الجرح على حاله، والنزيف على حاله، والكسور على حالها، مكتفيةً بإعادة النظر إلى العيون والأنفاس إلى الصدور؟ ألكي يبكي بالأولى، ويندب بالثانية؟

ما الذي يفعله الناجي بنجاته حين تترك الجرح على حاله، والنزيف على حاله، والكسور على حالها؟

على كل حال، خرج الرجل ليجد منزله مدمرًا، وأهله يعيشون في منزل مستأجر، وأكثر من ثلاثة أرباع الناس الذين يعرفهم من أحباب وخلان رحلوا إلى بلاد أخرى. خرج ليصيبه الخروج بالصدمة من أن لا أحدَ معه، لا أحد حوله، لا أحد إلى جواره ليشعره أنه خرج فعلًا، وأنه لا يعيش مع أوهامه القديمة في الزنزانة.

اقرأ/ي أيضًا: الزنزانة بين خيال الكاتب وذاكرة المعتقل

بالإضافة إلى الأوجاع والأمراض، خرج ليرى المكان مغتالًا بكل الطرق الممكنة، مرةً بالدمار، وأخرى برحيل أهله عنه أو بترحيلهم، وثالثة بالألم الشبحي في جدران البيوت المثقَّبة بالرصاص.. إلخ، لكن ما يهمنا فعلًا أنه خرج، وأنه حيّ، مع أن ملامحه التي شاخت قبل موعدها تؤكد أنه عرف زمنًا أثقل من الذي نعرفه، ومع أن أمراضه المتعددة لا تبشّر بخير.. خرج مجرد رماد، ومع ذلك نحن سعداء بهذا الرماد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ثقافة المخابرات: من يدفع للعازف يخترِ اللحن

دفاتر الملح.. الاعتقال السياسي كما ترويه النساء