11-مارس-2021

كاريكاتير لـ باولو كاليري/ ألمانيا

يُنسب إلى حكيم صيني دعاءٌ ملّحٌ للآلهة أن تجنبه العيش في زمن مهم. ولأن الحكيم كان صينيًا فلنا أن نجتهد في ترجمة المقصود بالزمن المهم، وكذلك فلأن هذا الصيني كان حكيمًا فلا بد من أن نأخذ كلامه على محمل الجد ونثابر في البحث عن السبب الذي يجعل العيش في زمن مهم أمرًا مكروهًا ومخيفًا.

ربما تكون الأزمنة المهمة هي الأزمنة التي وصف أنطونيو غرامشي شرورها، الأزمنة الانتقالية، حيث "القديم يُحتضر والجديد لم يولد بعد"

ولكن ما هي الأزمنة غير المهمة التي يرغب رجل حكيم أن يعيش في أحدها؟

اقرأ/ي أيضًا: عن التحرش.. الضحية يفتك بها التمثيل

نستطيع التكهن: إنها أزمنة الاستقرار، حيث الأشياء تبدو ثابتة وراسخة، المجتمعات هادئة، والدول أبدية، والحدود نهائية، والأفكار صلبة، والأيديولوجيات المسيطرة تتوهم خلودها. تستمر الوقائع بالحدوث طبعًا، ولكن دون أحداث مزلزلة ولا انفجارات مدمرة ولا انقلابات في السنن والقوانين والحيوات..

والأزمنة المهمة؟ ربما هي الأزمنة التي وصف أنطونيو غرامشي شرورها، الأزمنة الانتقالية، حيث "القديم يُحتضر والجديد لم يولد بعد". انهيارات تزلزل الكيانات القائمة، وحمم تذيب الصيغ والقوالب، وهزات تحطم الروابط والمفاهيم..

من المفهوم، إذًا، أن يتمنى الإنسان (أي إنسان، حتى ولو لم يكن حكيمًا) ألا يعيش في أزمنة مهمة كهذه، مفضلًا أزمنة عادية حتى ولو بدت باهتة ومضجرة.

أما بالنسبة لنا فقد فات أوان الدعاء، ذلك أننا نعيش بالفعل في زمن مهم، وفي بقعة جغرافية بلغ فيها هذا الزمن أوج هذيانه. دماء تسفك يوميًا، وحدود تتراقص، وهويات تتغير، وفيروسات تجدد شبابها كل بضعة أشهر لتبقي على انخراطها المحموم في لعبة الموت العبثية..

وماذا كان الحكيم الصيني ليفعل لو أن القدر لم يستجب لدعائه وجعله يعيش بيننا اليوم؟ بالأجدى: ما الذي سيفعله وريثه المعاصر والذي صار يحمل اسمًا أكثر تواضعًا: مثقف؟

هل ينسحب إلى قوقعته ويلتزم الصمت.. يكسر ريشته ويمزق أوراقه إذ يكتشف أن الواقع تجاوز كلماته ولم يعد يعبأ بأفكاره، لا سيما وأن بركان الجنون قد أطلق، مع الحمم الحارقة، سيلًا من الكلام ملأ الشاشات التي صارت بديلًا للورق؟

هل يحمل عدته وأدواته وينخرط في الصراع اليومي، محللًا ومنقبًا وشارحًا ومتحسسًا للضوء في آخر النفق؟ أم يكتفي بأن يكون شاهدًا ومؤرخًا، يدون ويسجل ويوثق، متطلعًا إلى قراء ما زالوا طي المستقبل؟ أم ببساطة يلجأ إلى مكان هادئ ليستمر في إنتاج روايات ومسرحيات وأشعار ودراسات، وهذه لا تُطالب بأن تلهث وراء المجريات ولا أن تكون انعكاسًا مباشرًا للوقائع؟

في الواقع، لقد توزع كثير من المثقفين على هذه الأجوبة جميعها. البعض تسربلوا بصمت أشد دويًا من كل الانفجارات المحيطة، والبعض الآخر صاروا ضيوفًا دائمين على شاشات الفضائيات، أو أصحاب قنوات يوتيوب أو مدونين.. يلاحقون الأخبار اليومية بالتحليل والشرح والتفسير والتأويل. فيما أصر آخرون على أن يضيفوا إلى رصيدهم نتاجات جديدة، مؤكدين بذلك رؤيتهم لما يجب أن تكون عليه مهمة المثقف: أن ينتج ثقافة.

هل يجب على المثقف أن ينخرط في الصراع اليومي؟ أم يكتفي بأن يكون شاهدًا ومؤرخًا، يدون ويسجل ويوثق، متطلعًا إلى قراء ما زالوا طي المستقبل؟

ولكن ثمة إجابة أخرى تبدو من خارج الصندوق، من خارج الواقع. أصحاب هذه الإجابة قرروا أن يعيشوا حالة إنكار عنيدة للمستجدات، فأداروا، وبكل بساطة، ظهورهم للأحداث، معتبرين أن لا شيء قد حدث أصلًا. ولأن هؤلاء لم يمتلكوا شجاعة المواكبة الجادة، كما لم يمتلكوا الوقار الكافي للصمت، فإنهم باتوا يمارسون نوعًا من الغفلة الطوعية. يواصلون ترديد الكليشات القديمة، والانشغال بهموم نخبوية اختصاصية يصورونها على أنها مسائل الساعة، يخترعون معارك وهمية لا تعني أحدًا، ويصوبون على أعداء صامتين، تارة في التراث وتارة في دائرة الميتافيزيقا. يتصورون أننا لا نزال في زمن "قنديل أم هاشم"، فيرون أن المفارقة الحاسمة لا تزال هكذا: مثقف حداثي طليعي مقابل ثقافة الرعاع الصلدة والكتيمة والعصية على الاختراق. وإذا ما التفتوا إلى ما يحدث مرة، فسرعان ما يكون الاستنتاج الوحيد هو هذا: ثقافتنا المتخلفة الموروثة هي المسؤولة عن كل ما يجري، ومن الطبيعي أن تفرز ثقافة كهذه كل هذا الجنون، فلم الاهتمام بهذا العفن؟!

اقرأ/ي أيضًا: كيف تُعاش الحياة؟

الآن بتنا نعرف ما هو أقسى من العيش في زمن مهم: أن نعيش في زمن مهم ويعيش إلى جانبنا أناس يحترفون هذا الاستهبال.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 

عزيزي المثقف المُهمّ

حوار| فيصل دراج: المثقف قائم في النقد