25-أكتوبر-2016

فابيو مانيوشوتي/إيطاليا

تبدأ القصة الافتراضية (الشبيهة جدًا بالعديد من الحالات الواقعية) بأربعة أطفال. ومثل كل أطفال الأرض فإنهم لديهم العديد من الأحلام والطموحات. سنفترض أن الأطفال الأربعة لهم طموح مشترك وهو أن يصبحوا مهندسين. سنفترض أيضًا أن اﻷربعة كانت درجاتهم الدراسية متقاربة وأنهم جميعًا ينتمون لنفس الطبقة الاجتماعية.

محور القصة هنا ليس هؤلاء الأربعة، بل ما سيحدث لهم حينما يدخلون "آلة تصنيع المهندسين"، المعروفة بكلية الهندسة! سنطلب من القارئ أيضًا أن يفترض افتراضين خياليين للغاية: أولهما أن هؤلاء الأربعة على الدرجة نفسها من القيم الأخلاقية التي لن تتغير بتاتًا بما سيحدث لهم في السطور المقبلة، فعلى سبيل المثال جميعهم ينظرون إلى "الواسطة" وما شابهها نظرة سلبية للغاية (وهو أمر سيجعل حياتهم جحيمًا في بلد مثل مصر).

يقول الأهل لابنهم الطالب: فلتكمل دراستك أولًا ولتفعل ما تحبه في وقت فراغك أو في الإجازة الصيفية

أما الافتراض الآخر فهو أن الحياة الاجتماعية والعائلية لهؤلاء الأربعة غير موجودة، أو شبه منعدمة، وذلك فقط للتركيز على التفاصيل القادمة، وللقارئ وحده حق إطلاق العنان لخياله في تخيل ماذا سيحدث لهؤلاء الأربعة إذا كانت هذه الافتراضات -غير الواقعية- مختفية! سنسمي أبطال هذه القصة بـ"أ"، "ب"، "ج" و"د" لوصف مسار كل منهم.

ملحوظة هامشية: وجود هذه المسارات الأربعة لا ينفي وجود مسارات أخرى (لعل بعضها أكثر إشراقًا!) بكل تأكيد، ولكن هذه المسارات هي الأكثر شيوعًا للأسف!

لم يكن "أ" يعرف ماذا يفعل بحياته وهو صغير. لكنه كان مطيعًا لمن حوله، فأهله الأكبر منه هم الأدرى بمصلحته، فعندما يخبرونه بأهمية التفوق في دراسته ليدخل كلية مرموقة من "كليات القمة" فسيفعل ذلك بكل تأكيد.

اقرأ/ي أيضًا: بمناسبة عودة الدراسة: العلم ومنظومة التعليم

في المرحلة الثانوية بدأت معاناة "أ"، فقرر أهله - كأغلب الأسر المصرية - أن يلحقوه بمجموعات الدروس الخصوصية حتى لا يحصل على مجموع متدن (والمتدني هنا أي أقل من المجموع الخارق، الذي يجعله يحصل على كلية الهندسة في مكتب تنسيق الكليات).

سيتفوق "أ" في دراسته وسيحقق ذلك المجموع الرائع الذي يؤهله لدخول تلك الكلية "المرموقة" المعروفة بأنها من "كليات القمة" ألا وهي كلية الهندسة! لا يهم أن "أ" لم يشعر بأي ميل ناحية مواد الرياضيات، ولا يهم إن كانت له رغبات أو مواهب أخرى -لا سمح الله!- في أي مجال آخر، فبكل صدق كم هي نسبة هؤلاء الذين لديهم الجرأة لمطاردة أحلامهم أو مواهبهم وتحدي والديهم، بل ومجتمعهم بأكمله من أجل دراسة ما يميلون إليه في سن مبكرة؟

إذا كان الأهل متفهمون (وهؤلاء نوع نادر) سيقولون له: "فلتكمل دراستك أولًا ولتفعل ما تحبه في وقت فراغك أو في الإجازة الصيفية"، أما إذا كان الأهل غير متفهمين فسيكون الرد قاسيًا وساحقًا ﻷحلام الفتى الطائش بكل تأكيد!

طبعًا لا داعي لذكر أن هناك نوعًا ثالثًا من الأهل قد يستحقون لقب "سوبر متفهمين": هؤلاء الذين سيأخذون بيد ابنهم -حرفيًا- حتى يصل إلى ما يريد تعلمه في هذه السن المبكرة، ولتذهب ترهات المجتمع حول الوضع الاجتماعي الذي يحققه من يحصل على لقب المهندس إلى أعمق أعماق الجحيم! هذا النوع موجود بالفعل ولكن نسبته أقل من 0.05% في بلد كمصر!

اقرأ/ي أيضًا: تعليم أفضل.. تعليم بالمجان: مطالب المغاربة

سيحاول "أ" أن يتفوق في دراسته وسيحاول أن يقوم بما يحبه وما يشعر بشغف نحوه في "وقت فراغه"، وهنا تبدأ المعاناة الحقيقية وسيكتشف "أ" المأساة الكبرى، وهي أنه لا وقت لديه لشغفه!

حتى لو قام بالتعامل مع "دراسته المزعومة" كعمل روتيني ممل يؤديه موظف حكومي بغيض فهذا العمل لا ينتهي أبدًا! إنه أشبه بدوامة كبرى تبتلع كل وقته. فمن المحاضرات الطويلة المملة التي لا يفهم أحد منها شيئًا تقريبًا إلى "الشيتات" التي يطلب منك المعيد حلها في وقت قصير، ثم الامتحانات القصيرة أو "الكويزات" والتي هي كلمة تحمل خليطًا من أصلها الإنجليزي مضافًا إليه عدة أحرف مصرية تستخدم في كلمات الجمع (ولعلها أصدق تعبير عن قمة العبث الذي يحدث في تلك الكلية).

هو -حرفيًا- يبذل مجهودًا ووقتًا ونقودًا لكي يحصل على شهادة لن تنفعه، في كلية يكرهها، ليثير إعجاب مجتمع لا يحبه!

ثم امتحان نصف الفترة الدراسية mid-term ثم امتحان الفصل الدراسي الأول المرهق الشاق المفاجئ بشدة، كما سنوضح في المسارات المقبلة، ثم يتكرر كل هذا في الفصل الدراسي الثاني بعد إجازة نصف عام قصيرة للغاية لا تسمح لعقل "أ" المسكين بالتقاط الأنفاس، ناهيك عن السعي وراء تنمية المهارات المتعلقة بالشيء الذي يحبه ويشعر بالشغف نحوه.

فقد تم استنزافه تمامًا وسيحتاج وقتًا أطول بكثير من الفترة القصيرة التي تفصل بين جزئي السنة الدراسية. أما عن الإجازة الصيفية فربما يحاول قليلًا أن يسعى وراء شغفه إن كان مكافحًا حقًا، ولم يغب عنه هذا الهدف وراء أكوام الكتب والمراجع والمحاضرات، والمسائل والامتحانات والمذكرات والضغط العصبي والذهني عليه، والصدمات المتكررة من كل ما يتعرض له من عقد نفسية يعاني منها معظم (إن لم يكن كل) الأساتذة الجامعيين والمعيدين.

تلك العقد التي تظهر واضحة في تصرفاتهم وطريقة تعاملهم مع الطلاب الذين ابتلاهم ربهم (وربما عاقبهم على ذنب ما اقترفوه) بأن وضعهم في مكان واحد مع هؤلاء "الأكاديميين".

ربما يحاول في الإجازة الصيفية، وربما يستعيد بالفعل بعضًا من شرارة شغفه الذي يبدأ في الاشتعال ويتوهج في عينيه بريق الأمل مرة أخرى و.. ينتهي كل شيء! وككل اللحظات السعيدة ينسى الإنسان الوقت وتمر تلك اللحظات بسرعة بالغة، وقبل أن تشتعل نار شغفه كاملًا يطفئها رماد انتهاء الأجازة الصيفية والعودة للدراسة، ليتكرر كل ما حدث معه مرة أخرى كل عام، لخمسة أعوام على الأقل!

نعم فقد يصاب بحالة ملل وتبلد تجعله لا يطارد شغفه على الإطلاق بل ولا يهتم بإنهاء الدراسة، ومن ثم يدخل مسار الرسوب المتكرر. وقد تنتابه نوبة شجاعة مفاجئة تجعله يقرر إلقاء كل هذا وراء ظهره وأن يترك الكلية تمامًا ليذهب لمطاردة شغفه بلا أي تضييع لمزيد من الوقت بعد الآن!

ولكن لنكن صرحاء: كم شخصًا سيفعل هذا بالفعل في مجتمع كالمجتمع المصري؟ إن صارح "أ" أهله بأنه سيتخذ قرارًا جريئًا كهذا ففي أفضل الأحوال لن يختلف رد فعل والديه عن رد فعل الممثل الكوميدي حسن مصطفى حينما وضع يده على صدره في مسرحية "العيال كبرت" الشهيرة صارخًا: "قلبي! قلبي!"، ولكن غالبًا سيكون الرد دراميًا قاسي اللهجة وربما بصوت يشبه صوت الممثل محمود مرسي أيضًا!

اقرأ/ي أيضًا: اختيار مدرسة مناسبة لأطفالنا.. كيف؟

لا بأس إذن، فليكمل "أ" الخمس سنوات صابرًا، وليحاول جاهدًا عدم الرسوب، فقد وقع في الفخ؛ فهو -حرفيًا- يبذل مجهودًا ووقتًا ونقودًا لكي يحصل على شهادة لن تنفعه، في كلية يكرهها، ليثير إعجاب مجتمع لا يحبه!

ألا تبدو تلك الجملة الأخيرة وكأنها تصف وضعًا شبيهًا للغاية بما ذكره تشاك بولنياك في روايته الشهيرة "نادي القتال" حينما انتقد سلوك المواطن الأمريكي؟ 

ها قد جاء وقت التخرج أخيرًا يا "أ"! لقد خرجت من ذلك السجن اللعين إلى رحابة الحرية والآن ستفعل ما تريد بحياتك، و.. مهلًا مهلًا، من كذب عليك وقال لك هذا؟

في الحقيقة لقد سُلب منك الكثير والكثير عزيزي "أ". فقد كبرت كثيرًا في الأعوام الخمسة المنصرمة في نفس الوقت الذي صار أقرانك في العمر، في أماكن أخرى بالعالم في مرحلة متوسطة من مشاريعهم الخاصة، أو حتى وظائف تثير حماستهم في مجالات أخرى، بعد أن اتخذوا ذلك القرار الجريء الذي لم تستطع أن تتخذه أنت!

حاول ألا تكرههم، هم في الغالب ضحايا للثقافة السائدة، ضحايا لضغط المجتمع، ضحايا لكل ما تلقفوه

ولكن لا داعي لليأس فإذا نجحت بالفعل في فرض رأيك بخصوص ما يجب أن تكون عليه حياتك من الآن، فصاعدًا -وهو تناقض غريب ومضحك أن يكون أمرًا صعبًا أن يكون لك القول الأول والأخير بخصوص ما يجب أن تفعله بشأن حياتك أنت! أنت من يقرر! ولكن نحن في مصر يا عزيزي فالأمر لا يتوقف على اختيار الأهل لملابسك في أول أيام دراستك بالطفولة، بل يمتد لمرحلة الشباب وبداية التخطيط للمستقبل، لتجدهم يختارون لك من تتزوج بنفس البساطة التي اختاروا لك بها قميصًا في أول أيام دراستك، وكأن القراران يتساويان في العواقب الوخيمة إن كان الاختيارًا خاطئا- فقد حققت إنجازًا كبيرًا وخطوة أولى في طريق استقلالك بحياتك المهنية.

ولكن في نفس الوقت فقد خلقت لك الكثير من الأعداء والكثير من المتربصين والكثير من الراغبين في الشماتة عند أول تعثر لك. حاول ألا تكرههم، هم في الغالب ضحايا للثقافة السائدة، ضحايا لضغط المجتمع، ضحايا لكل ما تلقفوه من مخلفات القمامة الإعلامية والكتب المدرسية والسلطة السياسية والهراء الذي يسمونه بالـ"ثوابت اجتماعية".

و.. أكمل أنت عزيزي القارئ البقية! باختصار هم مبرمجون على طريقة تفكير واحدة: سيخبرونك بأنك أضعت سنوات من عمرك على لا شيء! وكيف تحصل على لقب مهندس ولا تعمل بالهندسة!

هذا بالطبع ﻷنك تفعل شيئًا لا يفهمونه، والبشر -عمومًا- يخافون ما لا يفهمونه، ولكن، لن يظل هذا الوضع للأبد! فقط سيستمر هراؤهم هذا في موجات صعود وهبوط إلى أن تنجح في شغفك الذي تحبه نجاحًا يخرس الألسنة أو إلى أن تموت!

اقرأ/ي أيضًا:

مهندسون عباقرة: جيري إليسورث مهندسة التعليم الذاتي

من يستطيع تغيير العالم؟