31-أكتوبر-2017

حينما كنا نظنّ أننا انتصرنا، لم نكن نعلم أن المواجهة لم تكن لتبدأ بعد (كوني تاكاهاشي/Getty)

لم تكن الصورة سنة 2011 إلا وردية، ربّما هي الصورة الأزهى التي يمكن أن يعيشها المرء لمرّة وحيدة في حياته، كان الحلم الذي انتظرناه لسنوات يتحقّق أمامنا، أو هكذا بدا بالنسبة إلينا. لا تزال الصورة الطريفة التي كنا نتناقلها على وسائل التواصل الاجتماعي للأنظمة العربية الجاثمة على صدورنا لعقود تتساقط كما قطع الديمينو، هي الصورة الأكثر تعبيرًا عن السخرية.

الثورة ليست هي المسؤولة عن كل هذا الخراب، القاتل والمدمّر والمهجّر هو ذاك الذي حارب إرادة شعب بالحديد والنّار

كنا نسخر أو بالأحرى نثأر في مكنوننا الغاضب ممّن سخروا منا وبخسوا حقوقنا، من قول محمد حسني مبارك "خلّيهم يتسلّوا"، ومن قول معمر القذافي "من أنتم"، ومن قول زين العابدين بن علي "أنا لست شمسًا لأشرق على الجميع"، ومن غيرهم ممّن أطاحت بهم ثورة شعبية بدأت في سيدي بوزيد في قلب تونس الموءودة لتبلغ رياحها الغاضبة مدن الوطن العربي وأريافه.

اقرأ/ي أيضًا: في تونس.. ثورة للتذكر ونظام للنسيان

بيد أنه حينما كنا نظنّ أننا انتصرنا، وكنا نخمّن ساخرين عن النظام العربي الذي سنسقطه لاحقًا، لم نكن نعلم أن المواجهة لم تكن لتبدأ بعد، أو بالأحرى لم نكن نعلم أننا لم نكن أقوياء كما كنا نعتقد، أو كما تهوّمنا أو حقيقة حلمنا.

كان الحديث مثلاً عن وحدة الصف الثوري مثيرًا بيننا، فنحن جيل لم نعش ثورات، فالثورة هي حلم جميل كبرنا معه، وهو حلم ربما بدأ مع دروس التاريخ في المدرسة، ثورة المظلوم ضد الظالم، وثورة الحق ضد الباطل، وثورة الكرامة ضد الاستعباد. هي الثورة فعلاً كذلك، وثورتنا العربية المجيدة هي بحقّ ثورة ضد الظلم والباطل والاستعباد. لا يجب على الإحباط القاتل الذي تسلّل لروحنا كتسلّل الأشباح لبيت طفل صغير حالم، أن يجعلنا نكفر بالثورة من حيث لم نرد. الثورة هي مسلك الحقّ، وإن اعوجّ الطريق وكثرت مطبّاته بغير رغبتنا.

غير أن كلفة الثورة باهظة، أكثر مما كنا نتصوّر. كنا نعلم أننا سندفع ثمنًا وسنحقق خسارة سنسّميها جانبية مقارنة بالمكسب المأمول والكبير، ولكن كانت الخسارة عظيمة أمام مكسب صغير، أو لعلّ أمام اللّامكسب. صورة مدينة حلب مدمّرة على بكرة أبيها ربّما هي الصّورة الأكثر تعبيرًا عن كلفة الثورة، وكذلك صور عشرات المدن في سوريا وليبيا والعراق أين دُمّرت المنارة المحدّبة.

أما صور المهجّرين في مخيمات العراء ومنهم من خيّر مخاطرة الغرق في البحر على البقاء في أرض باتت بركة دم، فهي الصور الأكثر إيلامًا عن البشر قبل صور هدم حجر، هو حجر حضارة، شاهد على مجد يثيرنا طمعًا لنعيده. نعم الثورة ليست هي المسؤولة، وهي بريئة، والقاتل والمدمّر والمهجّر هو ذاك الذي حارب إرادة شعب بالحديد والنّار، ولكن السكين في أجسادنا في كلّ الأحوال.

اقرأ/ي أيضًا: صرخة ميشيل كيلو "الثورة ليست بخير" تثير ردودًا متباينة

كلفة الثورة باهظة، أكثر مما كنا نتصوّر، كانت الخسارة عظيمة أمام مكسب صغير، أو لعلّ أمام اللامكسب

ولكن يزداد التشاؤم فينا يومًا عن يوم، وباتت تروق على مسامعنا "ولا يوم من أيامك يا مبارك"، ليس قطعًا حبًّا في المخلوع بل كفرًا بالغاصب الذي خطف وعصابته البلاد لحسابهم الخاص، والذي أعادنا لما قبل خط 2011. بات المواطن رهينة مكبّلة ينتظرها الموت بالرصاص أو موت بطيء والأجساد هائمة، وهو موت الإنسان في الإنسان. ولولا بعض السخرية التي نجتمع حولها كل يوم كثأر نفسي منه، لقُتل فينا الأمل الصغير الذي يأبى الهروب.

وتونس التي ننظر إليها كنموذج الحدّ الأدنى ينزل سقفها يومًا عن يوم، يزداد فيها النظام القديم القائم نفوذًا، ورئيس الجمهورية يصدر قانونًا للعفو عن الفاسدين، ويعطّل إرساء المؤسسات الدستورية، وقد تأجّلت الانتخابات البلدية. أما الفساد السياسي فهو المحرّك الخفيّ الذي يسيطر على المشهد الإعلامي والسياسي والاقتصادي، لمشهد باتت تلوح منه سيناريوهات التوريث.

غير أنه تباغت أحيانًا جذوة خافتة تدفع من حيث لا تعلم، وتقول في أقلّها أنّه يكفي حدث الثورة لذاته،  وانظر للوراء قليلاً، وارم بعينك نحو تاريخ الثورات، ستعلم أن المسلك لا يزال طويلًا وأن الحاصل هو من سنن الثورات. الكلفة باهظة ولكن لا خيار إلا المقاومة. باقون ما بقي الزعتر والزيتون، باقون ما ما دامنا نتنفّس.

هكذا أيامنا، يوم يقتلك التشاؤم، ويوم يغمرك التفاؤل، يجب أن نتأقلم في الموازنة بينهما، أن نتأقلم، أن نواصل الحياة متشائلين!

 

اقرأ/ي أيضًا:

عزمي بشارة: "الإجابة لا تزال تونس"

الإجابة ليست تونس!