15-أكتوبر-2018

مطار سانت أكسوبيري في ليون

اسمكَ، لونك، ثقافتك.. شبهاتٌ كافيةٌ لاصطيادك في أيّ مطار تطأ أرضه. لهذا لا تستغرب إن أوقفوك جانبًا وتركوا ركّاب الطائرة التي كنت تستقلها يدخلون بسلامٍ آمنين.

لم تعد أياديكم التي تندسّ في ثيابنا الداخلية تثير فينا الخجل، ولم تعد نقاط حدودكم تثير فينا الفزع

خلال وقوفك الطويل لديك أكثر من طريقة لتزجية الوقت، منها أن تتسلّى بلعبة عدّ الطائرات التي هبطت المطار، من خلال إحصاء دفعات المسافرين التي تتجمّع أمام شبابيك الغرف الأمنية ثم تعبر بسلاسةٍ. يمكنك أيضًا أن تراقب خلال المراقبة الأولى ألوان جوازات السفر السحرية التي لا تكلّف حامليها أية أعباء، فبمجرّد أن يشهروها يبتسم موظفو الأمن ويمدوا إلى كلٍّ منهم الجواز بيد فيما اليد الأخرى تشير بترحاب وحفاوة إلى المدخل.

اقرأ/ي أيضًا: في الأندلس.. التاريخ في خدمة الفهم الأحاديّ للهوية

إيّاك أن تفكّر بوضع خطة للعودة، دعه يحدث إن حدث من تلقائه، فالأمن حينما يقرّرون إرجاعك سيضعون الخطة وعليك تنفيذها راضيًا. اترك لهم ذلك، لا تأسف لكونك لست من يخطّط إنما الخطة نفسها. انشغالك بهذا يعني استسلامك لمشاعر الاضطهاد والتضاؤل والرخص، وهذه إن استولت عليك في مثل هذا الموقف تحوّلك من مُشتَبه به إلى متهم.

اتركهم يفحصوا الورق بالعدسات المكبّرة، تمتّع بأنك فريد من نوعك، فخلال هذه الساعات من وقوفك مرَّ المئات أو الآلاف من البشر، وأوراقهم وألوانهم التي جعلتهم يعبرون جعلتهم أيضًا متشابهين تشابه الطائرات في الحضائر، وتشابه البضائع في حاويات الشحن. أما أنت النافرُ فتستحقّ أن ينشغل بك جهاز أمنيّ كامل، بل يبدو أنهم صنعوا هذا الأمن لأجلك، فدربوا كلابهم على رائحتك، وأطلقوا خبراءهم وعلماءهم وباحثيهم وجغرافييهم لدراسة حكايتك.

افرح، فالذين عبروا قبلك كانوا بلا روائح، وبلا حكاياتٍ!

يجب أن تفهم أنهم يخافون منك. في الحقيقة لا تحتاج جهدًا فالأمر واضح، لكنّ خوفهم ليس الخوف الذي نعرفه. كنتَ ستحبّ هذه الفكرة لو كنتَ طفلًا، فلكم تمنيّتَ أن تكون مخيفًا لا يهربُ من أمامه البشر وحسب، بل الحيوانات والطيور والنباتات والحجر.

في خوفهم منك مشكلة منطقيّة. ذلك أنهم يخافون أشياء أسقطوها عليك، ثم طوروا الشعور كما تُطوّر تقنيّةٌ، فبات اسمك مخيفًا، ولونك مخيفًا. تقريبًا يعيشون رعبًا من العلامات. الأمر يشبه أن تكون جارًا للصّ فيتعامل معك الجميع على أنك جار اللص، الذي ربما يكون قد سرقك أو فكّر بذلك. ما يجعلك تحسد هذا اللص على قوته وحظّه في آن، مع أنك تعرف، بحكم الجيرة، أنّ ما رسموه له من جبروت ليس فيه.

ألفنا ذلك. لم تعد أياديكم التي تندس في ثيابنا الداخلية تثير فينا الخجل، ولم تعد نقاط حدودكم تثير فينا الفزع، كما لم نعد نعول على أنكم ستتعلمون درسًا، فلطالما حدثت في تاريخكم مثل هذه الارتكابات. ماذا نفعل لمن لم يتعلموا من كيسهم؟

بالنسبة لنا، عالم تحكمه المخابرات بحجة محاربة الخوف عالمٌ زائف، فسوف تظلّ المخابرات تخترع له خوفًا ومُخوفات لتظل تحكمه. وعالم يضع حدودًا تفسح المجال للأحذية والجوارب، بينما تُغلق في وجه الخطى والأقدام والأحلام، هو عالم يستحق أن يكون مذعورًا، ويستحق أن يبلّل ثيابه من الخوف، بل يستحق أن يموت بجلطة من هذا الخوف.

الخوف الأول من الظلمات صنع النار الأولى، والخوف من النسيان صنع الكتابة، والخوف من الوحدة صنع الآخرين

اقرأ/ي أيضًا: في مطار إيبيزا حاصرتني الأسئلة

لا أرغب في أن أبدو كارهًا للخوف، فهذا الشعور نبيل إلى درجة أنه مشترك بين الكائنات كلها، من الدابة إلى العشبة في قاع البحر. بسبب الخوف صنعتِ الحياة، لكنّ الخوف الذي تظهرونه إهانة عميقة وجذرية لمعنى الخوف ولقيمة الخائفين، وتحقيرٌ لكون الخوف الأول من الظلمات صنع النار الأولى، والخوف من النسيان صنع الكتابة، والخوف من الوحدة صنع الآخرين. خوفكم يعيد الظلمات والنسيان والوحدة. خوفكم خوف الآلة، خوف النظام السياسي الذي يريد أن يصنع بشرًا بمنطق صناعة الآلات، بحيث تخدمه وتقبله دون أن تثير أية قلاقل.

لهذا بالذات، أنا شامت بخوفكم، وفي الوقت نفسه خائف منه، فليس هناك ما هو مخيف أكثر من نظام خائف.

 

اقرأ/ي أيضًا:​

الجزائريون يخافون الطّائرات

هجرات لا تقتفي أثر الأنبياء